في الطب النفسي وعلم النفس الإكلينيكي

في الطب النفسي وعلم النفس الإكلينيكي

من الكتاب

فاعلية العلاج الدوائي والعلاج النفسي للأمراض والاضطرابات النفسية

1- مدخل

لعل مسألة مدى فاعلية شكل معين من العلاج وفيما إذا كان نوع معين من العلاج مفيد بالفعل أم لا، بل حتى ضاراً من أهم المسائل في الميادين الطبية والعلاجية النفسية.

والإجابة عن مسألة فاعلية العلاج النفسي ليست سهلة. ولعل السبب في أحد وجوهه يرجع إلى أنه قد ثبت أن تقويم العلاجات النفسية مسألة صعبة جداً. ومن هنا فمن الصعب الإجابة عن السؤال عما إذا كان العلاج النفسي مفيداً أم لا، كون كثير من أشكال العلاج النفسي تهدف إلى تعديل سمات الشخصية التي يصعب تحديدها أو قياسها بدقة وكون التحسن الحاصل أقرب لأن يكون تحسناً ذاتياً أكثر من كونه موضوعياً كما هو الأمر في أشكال العلاج الجسدية التي تتمركز حول الأعراض. لقد تعرضنا في أكثر من مكان من هذا الكتاب إلى المبادئ العلاجية النفسية والبيولوجية التي يستخدمها الأطباء النفسيون والمعالجون النفسيون وعلماء النفس على الأغلب في علاج المعاناة النفسية. وسوف نقوم فيه هذا الفصل بمناقشة مسألة فيما إذا كانت المعالجات بأشكالها المختلفة تحقق هذا الهدف وفيما إذا كان شكل معين من العلاج أكثر فاعلية من غيره وما هي العوامل التي تسهم في تحقيق النجاح. وقبل ذلك نود أن نؤكد على أن العلاج في كل الميادين الطبية بما فيها الطب النفسي وميادين العلاج النفسي يمكن أن تكون له آثار جانبية ضارة وأنه لا يوجد علاج يمكن أن يكون فاعلاً مع كل البشر قفي كل الظروف والأحوال. والهدف النهائي يتمثل في إيجاد ذلك الشكل من العلاج أو ذلك الشكل من التوليف الذي يمكن له باحتمال عال مساعدة شخصاً معيناً مع أقل قدر ممكن من المخاطر والتأثيرات الجانبية. وننصح القارئ المهتم الرجوع كذلك إلى كتاب مستقبل العلاج النفسي منشورات وزارة الثقافة السورية 1999، ترجمة سامر جميل رضوان لاستكمال الصورة المتعلقة بفاعلية العلاج النفسي وكذلك مسألة الفاعلية في العلاج النفسي بالمحادثة في كتاب العلاج النفسي بالمحادثة، التغيير من خلال الفهم، منشورات دار المسيرة، عمان الأردن 2002، المترجم نفسه.

2- معايير تقويم فاعلية العلاج

عندما يراجع إنسان يعاني من أمر ما معالجاً نفسياً يرجوه مساعدته في معاناته فمن أين للمعالج النفسي أن يعرف ما الذي يمكن أن يفيد هذا الشخص؟ ومن أين للمريض أن يعرف أن الإجراءات التي ينصحه بها المعالج النفسي ستكون فاعلة معه؟. وللإجابة عن هذه المسائل  توجد عشرات الأبحاث التي اهتمت وتهتم بهذه المسألة.

1،2- الأدوية النفسية

يتم اختبار فاعلية الأدوية النفسية من خلال الدراسات التجريبية المضبوطة. وتختلف إجراءات البحث طبقاً لنوع المادة التي يتم اختبارها. ففي الدراسات المضبوطة تتم مقارنة الأشخاص المتطوعين الذين يتم علاجهم والذين لا يتم علاجهم مع بعضهم بعضاً. وفي الأسلوب المعروف تحت تسمية التغطية المضاعفة بالبلاسيبو[1] Duple-Blind-Placebo  تحصل مجموعة من المرضى على الدواء الحقيقي الذي يتم اختبار فاعليته  في حين تحصل المجموعة الثانية على الدواء الكاذب الذي لا تأثير له على الجسد. وفي حال كان الباحث يرغب مقارنة الدواء الذي يتم اختباره مع دواء آخر أو مع نوع آخر من أشكال العلاج يمكن استخدام مجموعات أخرى من المتطوعين. ويعني مصطلح التغطية المضاعفة أنه سواء الباحث نفسه أم أي من المجموعتين اللتين يتم اختبارهما لا يعرفون على الإطلاق من هم الأشخاص الذين يتناولون الدواء الحقيقي ومن هم الذين يتناولون الدواء الكاذب. وبعد انتهاء التجربة يتم تقويم النتائج والمراحل وفق معايير إحصائية موضوعية.

  ويتم اعتبار الدواء فاعلاً إذا ظهر تحسن دال إحصائياً لدى عدد كبير من الأشخاص بعد تناول الدواء أكثر من التحسن الذي ظهر لديهم بعد تناول البلاسيبو، أو عندما يحقق الدواء الذي تم اختباره نتائج ملائمة تقارب تلك التي حققها "دواء معياري" تأثيراته معروفة مسبقاً من خلال دراسات سابقة.

2،2- أبحاث العلاج النفسي

أظهرت الدراسات المضبوطة  أن فوائد الأدوية النفسية في معالجة الأشكال الحديثة من الاضطرابات النفسية أكثر من أضرارها وهو أمر لم يكن من الصعب برهانه علمياً، بمقدار الصعوبة الكبيرة التي تواجهها أبحاث الفاعلية العلمية في مجال العلاج النفسي. فالعلاج النفسي يحدث وراء الأبواب المغلقة إن صح القول، ويخضع لمبدأ الثقة والسرية. ويصعب قياس أمور مثل مهارة أو براعة المعالج ونوعية العلاقة العلاجية بين المعالج والمتعالج بشكل موضوعي.

ومع ذلك فقد تم في العقود الأخيرة من القرن العشرين إيجاد حلول في هذ1 الميدان لمسألة الفاعلية. بالإضافة إلى ن الأساليب الإحصائية تتيح استخدام ما يسمى بالتحليل البعدي Meta analysis  الذي يمكن من مقارنة نتائج كثير من الدراسات المستقلة حول نجاح العلاج مع بعضها. الأمر الذي يتيح إمكانية جمع عدد كبير من المرضى من عدد كبير من الدراسات في الوقت نفسه. وقد أمكن عن هذا الطريق إثبات فاعلية مميزة لأشكال العلاج النفسي في الأعمال البحثية المتميزة التي قام بها كلاوس غراوة[2]. أما كيف يمكن تقويم معالج ما على أنه جيد أملا بالنسبة للمتعالج فننصح بالرجوع إلى كتاب: العلاج النفسي متى يكون مفيداً؟ دار المسيرة، عمان الأردن 2002، ترجمة سامر جميل رضوان.

3- فاعلية العلاج النفسي

تشير نتائج عدة دراسات بعدية[3] إلى أن غالبية المرضى يستفيدون من العلاج النفسي. فقد أظهرت دراسات غراوة Grawe  أن حوالي 50% من المتعالجين  تحسنوا من العلاج النفسي بعد الجلسة الثامنة وأن ثلاثة أرباع المتعالجين كانوا بعد ستة أشهر من المعالجة أكثر استقراراً. والمرضى الذين عولجوا بشكل ما من الأشكال العلاجية كانوا أفضل من 80% من مرضى المجموعات الضابطة التي ظلت دون علاج. وقد أظهرت دراسات بعدية تمت فيها دراسة المرضى بعد أشهر أو سنوات من انتهاء العلاج أن التحسنات قد استمرت.

1،3- العوامل المؤثرة في الفاعلية

سعت كثير من الدراسات العلمية لمعرفة العوامل الخاصة التي يمكن أن تسهم في نجاح العلاج.

ويرى جيروم فرانك Jerome Frank على سبيل المثال أن كل المرضى الذين يلجئون للعلاج النفسي يعانون من التشتت وأن كل أشكالا العلاج النفسي مهما كانت الفروق بينها تشترك مع بعضها ببعض الخصائص التي تزيل هذا التشتت. وقد استنتج كثير من العلماء أن المعالجين النفسيين لا يقدمون لمرضاهم تفسيراً لمشاعرهم وسلوكاتهم المضطربة فحسب وإنما يمنحونهم الإحساس بالمشاركة والحميمية والثقة. وحسب نوع العلاج أو اتجاهه يتم وضع برنامج علاجي يتطلب المشاركة الفاعلة للمريض والمعالج. ومن المهم كذلك أن يشعر كل من المريض والمعالج بالثقة بهذا البرنامج بغض النظر عن الشكل الذي سيأخذه هذا البرنامج لاحقاً. ومن العوامل التي تؤثر في نجاح العلاج كذلك: خبرات النجاح والصفات الشخصية للمعالج والعلاقة العلاجية بين المعالج و المتعالج.

2،3- خبرات النجاح

على الرغم من وجود فروق بين الاتجاهات العلاجية المختلفة إلا أن كل العلاجات الناجحة تحاول أن تجعل المريض يتعرف على الصورة التي يحملها عن نفسه كإنسان مرهق بمشكلاته وأن يتحول إلى إنسان قادر على التعرف على هذه الصعوبات و مواجهتها والسيطرة عليها. فإجراءات مثل الإرجاع الحيوي وتمارين الاسترخاء على سبيل المثال تساعد المرضى على السيطرة المباشرة على ردود أفعال أجسادهم. أما العلاج الاستعرافي فيجعل الشخص قادراً على الإدراك الشعوري لأنماط التفكير المرضي والذار لديه ويساعده على تنمية أساليب واعدة بالنجاح ومنمية للتكيف مع مشكلاته. و يرفع التحليل النفسي من تفهم المتعالج للعمليات اللاشعورية لديه من أجل التمكن من السيطرة عليها. وتطرح المبادئ العلاجية السلوكية مهمات وأهداف محددة بوضوح تتيح للمريض في النهاية التغلب على قلقه أو خوفه. ويضع العلاج النفسي المتمركز حول المتعالج (العلاج النفسي بالمحادثة) المتعالج في جو من الدفء الانفعالي والأصالة والتقبل غير المشروط ليتيح له تقبل ذاته والتفتح ووضع تصور مقبول حول ذاته وإمكاناته وإعادة ترميز انفعالاته ومشاعره بطريقة مفهومة وشعورية.  ويتيح العلاج في المجموعة للمشاركين التعرف على التفاعلات الخاطئة أو اللاتكيفية و تجريب أنماط جديدة من التعامل مع الآخرين.

وفي سلسلة مهمة من الدراسات أجريت في جامعة جونس هوبكنز Johns Hopkins University  في الولايات المتحدة الأمريكية ظهر أن التحسن الذي حققه المرضى نتيجة العلاج الدوائي لم يستمر في حين أن التحسن الذي حققه المرضى نتيجة جهودهم الخاصة في  العلاج النفسي قد استمر. ويمكن تشبيه هذه النتيجة بأن الفرق يكمن بين العلاج غير الناجح والعلاج الناجح بحالة اصطياد السمك لشخص آخر وتقديمه جاهزاً ليتناوله،  أو تعليمه كيفية الاصطياد وتحضير الطعام. فمن يتعلم مهارة السيطرة على مشكلاته في الحياة ومواجهتها تتاح له إمكانية إعادة بناء حياته من جديد. كما استنتجت هذه الدراسات أن المتحسن يكون أفضل عندما يعتبر المريض الذي يعاني من اضطرابات نفسية شديدة الدواء الذي يتناوله مكملاً مساعداً للعلاج النفسي. فهذا الأمر يحث المريض على التعديل من خلال تمكينه من مهارة السيطرة على أعراضه.

1،2،3- نوعية المعالج

كما هو الحال لدى كل إنسان للمعالج النفسي صفاته الشخصية الخاصة. ولأسلوب استخدام الطريقة العلاجية من قبل المعالج النفسي و شخصيته تأثير على العلاقة العلاجية بين المعالج والمتعالج و على النجاح العلاجي.

فقد أظهرت دراسات كل من أورلنسكي Orlinsky و هاوراد Haward أن انطباعات المريض حول معالجه مهمة بالنسبة للتنبؤ بنجاح العلاج. وبغض النظر عن الاتجاه العلاجي للمعالج كان المرضى المدروسين متفقين حول أهمية سمات معينة في المعالج.  فقد فضل المرضى المدروسين على سبيل المثال معالجاً نفسياً "إنسانياً" متفهماً، يعبر ببساطة وبشكل مباشرة ولا يرفض تقديم النصيحة. كما وصف المرضى الراضون معالجيهم بأنهم "عطوفون" و "منصتون" و "مهتمون" و "متفهمون" و "محتَرَمون". 

وقد اعتبر كل من المتعالجين والمعالجين أن القدرة على التعاطف Empathy  سمة نوعية مهمة، بل وحاسمة للمعالج النفسي. والتعاطف هو القدرة على الإحساس بمشاعر وأفكار الآخر في إطار أبعد من مجرد الفهم العقلي أو الذهني.  والتفاعل مع الآخر عندما يقول مثلاً "لقد مسني هذا الأمر عميقاً" أو " لقد ضرب ذلك على الوتر الحساس" أو "لقد أصابني ذلك في مقتل"…الخ. إنه ليس من المفاجئ أن يكون المعالج قادراً على الإحساس بالطريقة التي يعيش فيها المريض خبراته على مستوى المشاعر في علاج نفسي يمس الانفعالات الإنسانية العميقة ويواجهها.

2،2،3- العلاقة العلاجية

أظهرت دراسات أن الشروط من أجل علاقة علاجية ناجحة هي قيام علاقة جيدة بين المريض والمعالج في الجلسات العلاجية الأولى. وكما هو الحال في كل علاقة إنسانية قد تنجح العلاقة بين بعض الناس ولا تنجح بين بعضهم الآخر. والمعالج والمتعالج اللذان "يستطيعان التعامل مع بعضهما" يتشابهان مع بعضهما بعضاً. فقد استنتج باحثوا العلاج النفسي أن التشابه على مستوى الطبقة الاجتماعية والسن والاهتمامات والقيم تسهل حدوث "رابطة علاجية". والمقصود بالرابطة العلاجية المقدار الذي يكون فيه المريض قادراً على العمل بالتعاون مع المعالج على تحقيق الأهداف العلاجية. فإذا كانت العلاقة في البداية  ذات إشكالية، فإن هذا لا يعني في مطلق الحال بأن العلاج لا بد وأن يكون قليل الفائدة. فعندما يمكن العلاج المريض من "التعامل" مع الشك أو عدم الثقة الناجمة في البداية تجاه المعالج، فإنه غالباً ما تحدث تغيرات أو تعديلات دائمة؛ وهذا هو الحال بشكل خاص عندما يكون عدم الثقة والشكل البدئيين عند المتعالج ناجمين عن خبراته الطفولية السلبية الباكرة ومشكلاته الانفعالية. مقابل ذلك يرى ألين فرانسيس Alen Frances  من جامعة ديوك Duke University أن المريض الذي يشعر بعدم الرضى المستمر عن خبراته مع المعالج في الجلسات الأولى عليه أن يبحث عن معالج آخر على أمل أن يجد شخصاً ملائماً بالنسبة له. ففي الجلسة الأولى ربما ينظر المريض للمعالج على أنه خبير مهمته "شفاء" المريض؛ إلا أنه في مجرى العلاج يتم التعرف على النجاح من خلال أن كلتا الجهتين تشعران بأنهما تعملان على هدف مشترك.

جدول: العوامل التي من الممكن لها أن تسهم في نجاح العلاج

من وجهة نظر المعالجين

1- الخبرات التي يخبرها المتعالج مع علاقة مساعدة

2- قدرة المعالج على فهمه والتعاطف معه.

3- تقدم المتعالج في فهم ذاته أو معرفتها.

4- قدرة المتعالج على تحطيم صراعات العلاقة.

5- قدرة المتعالج على تمثل خبرات العلاج.

6- التسامح المتزايد للمريض مع أفكاره ومشاعره

7- دافعية المتعالج نحو تغيير نفسه.

8- قدرة المعالج على تقديم تقنية واضحة ومنطقية وواعدة بالنجاح.

 

3،3- المبادئ العلاجية المتخصصة

على الرغم من نتيجة العوامل العامة المؤثرة على نحو توقع المريض التحسن و التفاعل الإيجابي بين المعالج والمتعالج فإن البحث أظهر أنه لا بد من وجود تقنيات متخصصة جداً بالنسبة لكثير من أشكال الاضطرابات والمشكلات النفسية. فمن الطبيعي أن يكون التقويم والتشخيص الدقيقين مهمين بالنسبة لكل أشكال العلاج إلا أنهما أكثر أهمية بالنسبة للأساليب العلاجية المتخصصة.

      فقد ثبت أن التقنيات العلاجية السلوكية فاعلة جداً في جميع أشكال القلق تقريباً، وبشكل خاص في رهابات الأماكن العامة واضطرابات الهلع والقسر و الاكتئابات واضطرابات الطعام. كما أثبتت التقنيات العلاجية المتخصصة التي تتضمن دعم المرضى وإرشاد أسرهم فاعليتها في الفصامات بشكل خاص والتي سنناقشها بتفصيل في موقع آخر في هذا الفصل. وإذا كانت المشكلة الرئيسية للمعني تتمركز في مجال التفاعل البين إنساني وفي تنمية الكفاءات الاجتماعية يمكن للعلاج في المجموعة أن يكون الشكل العلاجي الأمثل. إذ أن خبرات المجموعة تمثل  إطاراً حامياً وضابطاً يستطيع المشاركون فيه من تجربة أشكال جديدة من السلوك ضمن علاقات. ويمكن للتقدم المحقق في إطار المجموعة أن يمهد الطريق لعلاقات حميمة مقبولة خارج المجموعة.

4،3- فشل العلاج النفسي

على الرغم من الفوائد التي تحققها الغالبية من المتعالجين في العلاج النفسي إلا أنه لدى بعض المتعالجين لا يحقق العلاج النفسي أي تحسن وفي حالات قليلة قد يحدث تراجع في الحالة.

في مجرى العلاج النفسي قد يكتشف المرء وجود انتكاسات للأعراض يراجع بسببها المريض المعالج النفسي أو قد تظهر أعراض جديدة. بالإضافة إلى ذلك قد يحدث أن يشعر المتعالج بأن حالته قد ازدادت سوءاً في أثناء تعامله أو تمثله لمشكلاته؛ وفي الحقيقة يمكن للانتكاسات العابرة أن تكون دليلاً على أن المتعالج يتقدم وأنه في النهاية سيتمكن من السيطرة على مشكلاته. إلا أن الاتجاه السلبي المستمر على نحو مشاعر القيمة الذاتية المنخفضة والقلق المتزايد والعدوانية وأنماط السلوك التدميرية أو أفكار الانتحار عند شخص لم يكن يمتلكها من قبل يمكن أن تكون كلها علامات على أن العلاج لم يجد وعلى المريض والمعالج أن يعيدا التفكير بجد. فضمن هذه الظروف يمكن أن يكون من الأفضل اللجوء إلى معالج آخر أو استشارة معالج آخر.

ويمكن أن يحصل جمود أو ثبات  في العلاج وذلك عندما يتعامل المتعالج مع مشكلاته بطريقة عقلية خالصة، ولا يقوم بخطوات عملية للتغيير في حياته، بل وعلى سبيل المفارقة يستغل المعارف النفسية من أجل الهروب من مواجهة صعوباته الفعلية. وبعض المرضى يبدءون اعتبار العلاج النفسي كهدف بحد ذاته و يبنون حياتهم كلها على أساس العلاج. ومن واجب المعالج مساعدة المتعالج على أن يتغلب على هذه المقاومة والحصار. وأحياناً يدور المعالجون النفسيون حول السؤال كيف يعيق المتعالجون علاجهم أو لماذا لا يحققون التقدم المرجو. وعليه فقد يكتفي المريض بالرضى عن علاقته بالمعالج بدلاً من أن يتشجع من خلال المعالج على مواجهة التحديات و إقامة علاقات وصداقات جديدة.

وفي بعض الحالات يتهاون المعالج في طرح أهداف واقعية على المريض، أنه يبدأ بعلاج المريض وكأن فترة العلاج غير محدودة ويعمل مع المتعالج على أهداف غير محددة وواضحة و أحياناً لا يمكن تحقيقها. وهناك مشكلة أخرى تتمثل في أن المعالج لا يشعر بالحاجات أو بالأمور الملحة التي يشعر بها المتعالج.

  1. فاعلية العلاج الدوائي

تعد الدراسات التي تقيس تأثير الأدوية أسهل تصميماً وتنفيذاً وتقويماً من الدراسات التي تبحث في فاعلية الأشكال المختلفة من العلاج النفسي. فكل الأدوية المرخص اليوم باستخدامها في علاج الاضطرابات النفسية أثبتت فاعليتها في تجارب عيادية في معالجة صور اضطرابات نفسية معينة أكثر من أضرارها. ولكن على الرغم من برهان الفاعلية الممكنة لدواء معين أو لفئة من الأدوية إلا أنه توجد عوامل كثيرة تتحكم بنجاح نوع العلاج المستخدم بالفعل.

1،4- العوامل المؤثرة في النتيجة

هناك عوامل ستة تتحكم بنتيجة العلاج الدوائي: التشخيص، الجرعة، اختيار الدواء، تجريب العلاج، و الرابطة العلاجية، وعدم اتباع التعليمات الطبية.

1،1،4- التشخيص

يعد تشخيص الاضطرابات النفسية صعباً في كثير من الحالات. إذ أنه من الصعب جداً استخلاص التشخيص الصحيح أو الواضح من بين عدد كبير من الشكاوي المحيرة و القيام بالعلاج المناسب. فالاكتئاب على سبيل المثال يترافق على الأغلب مع مشاعر الحزن وفقدان الشهية ومشكلات النوم والعصبية.

وفي بعض الحالات يراجع المعنيون أطباء مختلفين بسبب الآلام أو الشكاوى التي يعانون منها و يحصلون من كل طبيب على دواء مختلف. وبغض النظر عن أن السبب الرئيس لا يزول بهذه الطريقة يمكن لكثرة الأدوية أن تسبب تأثيرات جانبية خطيرة وتقود إلى تفاعلات. كيماوية. وكما هو الحال في الأعراض الطبية النفسية التي يمكن أن تتشابه مع أعراض الاضطرابات النفسية يمكن كذلك للأمراض الجسدية أن تسبب أعراضاً تشير إلى أسباب نفسية. فعلى الرغم من أن اضطرابات النوم والطاقة و الشهية والمزاج تعد من الأعراض المميزة للاكتئاب/ إلا أنها يمكن أن تكون دلالة على اضطرابات الغدة الدرقية أو ترجع لأسباب جسدية مختلفة. والأدوية النفسية ليست فاعلة في معالجة الأمراض الجسدية.

2،1،4- الجرعة

يمكن أن يرجع سبب فشل العلاج الدوائي لخطأ في الجرعة زيادة أو نقصاناً. فالدماغ هو العضو الذي ينبغي للدواء أن يؤدي عمله فيه. وعندما لا يصل الدواء بتركيز كاف إلى الدماغ فلن يحصل التأثير. والأطباء الذين يكونوا غير عارفين أو بالاستخدام الملموس للدواء أو متأكدين منه يصفون في العادة جرعات قليلة.

من ناحية ثانية يختلف الناس عن بعضهم في استقلابهم للدواء. لهذا حتى الطبيب النفسي المحنك  لا يكون قادراً دائماً على التنبؤ بكمية الجرعة الدوائية التي ستحدث التأثير الأمثل. ونظراً للصعوبات الجلية في معرفة مقدار تركيز الدواء في دماغ الكائن الإنساني (إذ أن هذه المعرفة تتطلب أخذ عينة من دماغ المريض وفحصها، وهو أمر غير ممكن بالطبع)، يقوم الأطباء بفحص كمية الدواء الموجودة في الدم من أجل استنتاج التركيز الموجود في الدماغ. وينبغي لبعض الأدوية النفسية من بينها مضادات الاكتئاب أن يتم تناولها بجرعات كافية حتى تتجاوز الحد الأدنى من قيم الدم. وبعض الأنواع الأخرى من الأدوية لا يجوز إعطائها لا بجرعات قليلة ولا بجرعات زائدة وإلا فقد الدواء تأثيره في الحالة الأولى أو سبب تفاعلات وأعراض جانبية مؤذية. ومن هنا فإن الملاحظة المستمرة للجرعة خلال فترة العلاج ككل مهمة من أجل تحقيق التأثير المناسب وتجنب الأعراض الجانبية.

3،1،4- اختيار الدواء

على الرغم من أن الأدوية المرخصة من الجهات الحكومية قد أثبتت فاعليتها إلا أنه لا يستجيب كل شخص للدواء نفسه. ففي كثير من الحالات يختار الطبيب النفسي دواء محدداً من بين عدة أدوية فاعلة في الواقع. ويكون الاختيار سهلاً إذ كان المريض في السابق قد استجاب في الماضي بشكل جيد لدواء معين. وفي بعض الأحيان يمكن لنوع وشدة الأعراض المتفرقة أن تسهل اختيار دواء معين.

وغالباً ما يتعلق اختيار الدواء بنمط التأثيرات الجانبية لدواء معين. فمن مضادات الاكتئاب يوجد أكثر من عشرين دواء تقريباً، كلها فاعلة بالمقدار نفسه إلى حد ما إلا أنها تختلف في تأثيراتها الجانبية الأمر الذي يمكن أن يؤثر على مجرى العلاج. فبعضها يسبب التسكين، الأمر الذي يكون مطلوباً عند شخص يعاني من اضطرابات في النوم، إلا أنه لا يكون كذلك عند المريض الذي ينام كثيراً في حالته الاكتئابية. وبعضها الآخر يمتلك تأثيراً مهيجاً، وهو أمر غير مرغوب عند شخص يعاني من سهولة الاستثارة.

وعلى الرغم من أنه تتوفر للأطباء النفسيين مجموعة كبيرة من الأدوية النفسية، يختارون منها الدواء المناسب لمعالجة الاضطرابات النفسية الشديدة إلا أنهم غالباً ما يبدءون العلاج بدواء يثقون به ويعرفون بدقة تأثيره واستخداماته الملموسة.

4،1،4- محاولة العلاج

نظراً لضغط المعاناة التي يرزح تحت وطئها  الناس الذين يعانون من الاضطرابات النفسية يتمنى الأطباء والمرضى والأقارب التحسن الفوري لحالة المريض. إلا أن غالبية الأدوية النفسية المستخدمة علاج الاضطرابات النفسية تحتاج لبعض الوقت لتأتي بمفعولها، أي أنها تحتاج لمجرى معين من الزمن قبل أن يتم استنتاج تأثيرها. ففي مضادات الاكتئاب يحتاج الدواء بين أسبوعين حتى الثلاث أسابيع قبل أن يبدأ تأثيره وفي المقعلات يحتاج الدواء إلى ستة أسابيع ليبدأ تأثيره. وغالبية الأدوية النفسية تحتاج بين ثلاثة إلى ستة أسابيع تجريب بكامل الجرعة. وفي حال لم يظهر تأثير للدواء بعد أسابيع ستة لا بد للطبيب أن يقرر دواء آخر.

5،1،4 الرابطة العلاجية

حتى وإن كان العلاج قائماً على الدواء بصورة أساسية إلا أن اهتمام وتعاطف الطبيب النفسي وثقة المريض بالطبيب مهمة. فكلاهما يجب أن يعتبرا نفسيهما فريقاً واحداً يعمل على هدف مشترك. ويجب أن تكون الأهداف واضحة ومحددة وكلما فهم المريض الأسباب الكامنة خلف وصف دواء معين له و كيف ومتى عليه أن يتناوله وكيفية تأثيره ومتى سيحدث التأثير تقريباً التأثيرات الجانبية المتوقعة للدواء بدقة أكبر كلما كان احتمال التأثير الفاعل للدواء أكبر. كما أنه على الطبيب النفسي أن يكون تحت تصرف المريض في أثناء العلاج من أجل الإجابة عن أسئلته  ومراقبة التأثير والتأثيرات الجانبية للدواء كي يضمن مجرى ملائماً من العلاج. وبمجرد أن يحقق الدواء تأثيره المرغوب ينبغي للطبيب والمريض أن يتفقا حول مدة العلاج . وعندما لا تعود الأعراض عبر فترة زمنية معينة للظهور وعندما يتفق الطرفان بأنه يمكن إيقاف الدواء ينبغي عندئذ للطبيب النفسي المعالج أن يساعد المريض على التخلص التدريجي من الدواء مع المراقبة الدقيقة كي لا تعود الأعراض للظهور ثانية.

6،1،5- عدم اتباع التعليمات الطبية

يعد النقص في الاستعداد لتعاون المريض مع الطبيب، أي أن يتناول الدواء مرة وفي المرة التالية لا يتناوله، أو لا يتناول الدواء بالجرعة التي وصفها الطبيب، من أكثر أسباب فشل العلاج. وتوجد أسباب عدة لعدم اتباع المريض للتعليمات الطبية. فكثير من الناس يعيشون صراعاً داخلياً بين أن يتناولوا الدواء أم لا على الرغم من معاناتهم الشديدة؛ إذ يشعرون أن تناولهم للدواء دليل على "ضعفهم" و يرون أنهم لا بد وأن يكونوا قادرين وحدهم على أن يحققوا الشفاء دون مساعدة الدواء. أو أنهم يريدون أن يبرهنوا للمحيط بأنهم ليسوا مرضى وأنهم سيعودون لوضعهم الأصلي قريباً،  وفي بعض الأحيان وفي الطور الهوسي من الاضطراب ثنائي القطب لا يريد المرضى على الإطلاق الانفصال عن أعراضهم ومن هنا فإنهم يرفضون تناول الدواء أو اتباع التعليمات الطبية. وقد تكون التأثيرات الجانبية بالنسبة للبعض الآخر مقيتة في البداية ولهذا يقومون بتخفيض الجرعة أو التوقف عن تناول الدواء دون أن يكونوا قد تحدثوا مع الطبيب حول هذا الأم. وعندما يكون على المريض أن يتناول الدواء أكثر من مرة في اليوم فإنه قد ينسى في بعض الأحيان تناول الدواء وتعود الأعراض للظهور أو لا تختفي بالأصل.

2،4- فشل العلاج الدوائي

عندما يظل الدواء النفسي بعد فترة مناسبة من تناوله دون تأثير على الطبيب النفسي عندئذ أن يعيد النظر في التشخيص أو التغيير إلى دواء آخر أو وصف دواء ثان من أجل تحفيز تأثير الدواء الأول. إذ يمكن مثلاً من خلال إضافة الليثيوم لدى مريض لم يستجب للعلاج تحقيق التأثير المرغوب.

   الأطباء العامين غير مؤهلين في العادة لتشخيص الاضطرابات النفسية وعلاجها. لهذا ينبغي تحويل المرضى إلى الطبيب النفسي في حال عدم حصول التأثير المرغوب للدواء الموصوف.

  1. مقارنة العلاجات والتوليف بينها

يذهب العلماء اليوم في البحث والممارسة من الوحدة الجدلية القائمة بين الجسد والعقل والنفس ومن التأثير المتبادل للاستعدادات البيولوجية للإنسان وصفاته النفسية وتأثيرات البيئة المحيطة. لهذا فالعلاج الدوائي وحده قد لا يكون كافياً في كثير من الحالات. و حتى عندما يكون التضرر في المجال الجسدي هو الغالب فإن العلاقة بالطبيب المعالج وتعلم التعامل مع المرض وعواقبه مهمة لنجاح العلاج.

فقد أظهرت دراسات حول التوليف بين الأشكال المختلفة للعلاج بأن الأهداف المختلفة لعلاج دوائي و نفسي مثلاً يؤثران بطريقة مختلفة على الحدث المرضى بطريقة يكمل بعضها البعض. وكما يمكن الاستنتاج من مجموعة من الدراسات فإن الأدوية تكون فاعلة في تحسين أعراض معينة وبشكل خاص تلك الأعراض من النوع الجسدي وعلى الأعراض النفسية الشديدة في حين أن العلاج النفسي أقرب للمساعدة في تحسين القدرة على حل المشكلات و تحسين الوظائف الاجتماعية.

ركزت غالبية الدراسات المتعلقة بالتوليف بين أشكال من المعالجة أو المقارنة بينها على الاكتئاب. وبشكل عم فقد ظهر من هذه الدراسات أن العلاج النفسي يكون فاعلاً في علاج الاكتئابات كما هو الحال في العلاج الدوائي. أما المرضى بالاكتئاب الشديد فتكون استفادتهم أكبر عندما يتم علاجهم دوائياً أو عندما يتم التوليف بين العلاج الدوائي و النفسي. ففي دراسات واسعة في الولايات المتحدة الأمريكية  للمعهد الوطني الأمريكي للصحة النفسية، البرنامج المشترك لعلاج الاكتئاب و في ألمانيا، برنامج معالجة الاكتئاب والوقاية من الانتكاس التابع لوزارة البحث والتقنية الألمانية تمت مقارنة مضادات الاكتئاب على نحو الإميبرامين مع استراتيجيات العلاج السلوكي الاستعرافي مقابل البلاسيبو (الدواء الخادع). وفي نهاية سلسلة التجارب كان أكثر من ثلثي المرضى قد تخلصوا من أعراضهم، علماً أن بعض المرضى الذين عولجوا بالإميبرامين قد ظهر التحسن عليهم أسرع. وباستثناء المجموعة المكتئبة التي استجابت بشكل أسرع للإميبرامين ظهرت تحسنات لدى جميع مجموعات التجربة المعالجة بالدرجة نفسها تقريباً. وفي دراسة أخرى استنتج إيلين فرانك Elen Frank أنه لدى المرضى الذين يعانون من اكتئاب متكرر قد حققوا تحسناً سواء باستخدام جرعات عالية من الإميبرامين أم بالعلاج النفسي، إلا أن المجموعة التي تم لديها التوليف بين العلاج الدوائي والنفسي قد ظلت لفترة أطول دون انتكاس.

كما أظهرت الدراسات أن العلاج الأكثر فاعلية في الفصامات هو العلاج المركب من الدواء والعلاج النفسي الداعم للمرضى و الإرشاد والعلاج النفسي لذويهم. ففي دراسات أجريت في جامعة جنوب كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك في ألمانيا تمت مقارنة مجموعات من مرضى الفصام الذين حصلوا مع أسرهم على شكل خاص من العلاج النفسي السلوكي  مع مجموعات ضابطة لم يحصل ذويهم على أي علاج، حيث تم التوضيح للأقارب طبيعة المرض ومجراه وعلاجه، و تم علاج التوترات الأسرية في الجلسات العلاجية وتعلم التعامل معها وتحسين مهارات حل المشكلات للأقارب. وقد أظهرت الدراسة أن المرضى الذين اشترك ذويهم في العلاج كانوا أقل انتكاساً و أن الأعراض قد تراجعت بصورة واضحة.


[1]  الدواء الكاذب: حبوب من السكر أو النشاء تشبه في شكلها الخارجي الدواء الأصلي الذي يتم اختباره يعطى للأشخاص أو المرضى على أنه دواء حقيقي وفاعل. وتشير الدراسات إلى أنه بعد تناول البلاسيبو يحدث في الواقع تحسن فعلي لدى نسبة لا بأس بها من المرضى على الرغم مهن أنهم لم يحصلوا على أية مادة فاعلة. ففي دراسات على مضادات الاكتئاب مثلاً ظهر أن حوالي 30-40% من المرضى قد تحسنوا بعد تناول البلاسيبو. وهذه النتيجة لا تعني أن هؤلاء الأشخاص غير مرضى، وإنما يشير ذلك إلى أن العوامل المسببة للمرض ليست محصورة فقط في العوامل الكيماوية وحدها. فحتى مجرد معرفة المريض أحياناً أن هناك شخص يستطيع مساعدته واللجوء إليه كاف وحده أحياناً للتخفيف من مشاعر الخوف والتشوش وضعف المعنويات.

[2]  راجع كتاب مستقبل العلاج النفسي المشار إليه سابقاً.

[3] دراسات بعدية أو بعد تحليلية Metaanalysis  عبارة عن دراسات تحلل نتائج دراسات عدة حول الموضوع نفسه.