علم النفس الإكلينيكي- الاضطرابات النفسية في سن الرشد

علم النفس الإكلينيكي- الاضطرابات النفسية في سن الرشد

من الكتاب :

الاضطرابات الفيزيونفسية

من الكتاب

بيرند ليبلوف و رومان فيرتسل

Bernd Leblow and Roman Ferzel

 

1-تعريف

تظهر الأمراض الفيزيو نفسية على شكل أمراض جسدية. ولا يمكن تصنيف ظهورها ومجراها من خلال الفئات التصنيفية الطبية فحسب، وإنما يمكن وصفها كذلك بالطرائق النفسية. وهذه هي الحال عندما يمكن عزو أطوار الاستفحال (ما يسمى بأطوار "التفاقم" Exacerbation Phase  والتحسن ("الشفاء" Remission) لعوامل مثيرة أو عوامل محافظة أو كليهما معاً. ويمكن لمثل هذه العوامل أن تتوفر من خلال الإرهاقات النفسية الحادة أو من خلال عمليات التعلم طويلة الأمد. والعوامل نفسها إما أن تكون قابلة للتحديد بوصفها سمات موقفية خارجية External Situation Characteristic  أو بوصفها أحداث استعرافية بين نفسية. ولكن عادة ما تتفاعل الظروف الخارجية مع الداخلية.

ويشتمل هذا التعريف الواسع جداً على عدد كبير من التغيرات الجسدية الحادة والمزمنة بشكل تصاعدي والانتكاسية. ويستثنى من ذلك فقط تلك الأمراض التي لا يمكن في مجرى أعراضها تحديد وجود تغاير مشترك Covariation (أي ارتباط) مع العوامل المذكورة. على نحو أمراض الانحلال الذاتي Auto degenerative  و الأمراض ذات الأسباب الوراثية، على نحو التريسوما-21 Trisomia[1] و مرض هونتينغتون [2]Huntington  والرضوض الناجمة عن أسباب أحادية، كالحوادث مثلاً و الأمراض الجسدية التي تنشأ صورتها المرضية عن تغيرات تشريحية أساسية، كالسرطانات. كما أنه يمكن اعتبار الأعراض الثانوية ضمن الاضطرابات الفيزيونفسية أيضاً، وذلك عندما ترتبط هذه الأعراض كما هو الأمر على سبيل المثال في أغلب أشكال الآلام  والسرطانات مع عوامل داخلية وخارجية بشكل واضح.

ويطابق هذا التعريف في النقاط الجوهرية منه تعريف ديفسون ونييل Davison & Neal إلا أنه يختلف عنه في أنه لم يقم بالتركيز بشكل خاص على أعضاء "الجهاز العصبي المستقل" بالإضافة إلى أنه لم يتم هنا إعطاء أولوية في نشوء وتفاقم الاضطرابات إلى "عوامل انفعالية" بمعنى "الإرهاق Stress"

 

وينبغي فصل الاضطرابات الفيزيونفسية عن "الاضطرابات ذات الشكل الجسدي Somatoform Disorders" التي يتعلق الأمر فيها بتشكل عرض جسدي ولا تنشأ على أساس مرض فيزيولوجي واضح، والتي لا يمكن وفق مستوى المعرفة الراهن تحديدها أو وصفها إلا بمساعدة البناءات النفسية.

 

وبما أنه من خلال التعاريف المذكورة سوف يقع عدد كبير جداً من الأمراض المختلفة ضمن هذا التشخيص لاضطراب فيزيونفسي فقد تم التخلي في كل من الدي أس أم الرابع DSM-IV و الآي سي دي العاشر ICD-10 عن وضع مجموعة الاضطراب هذه في فئة منفردة. وبدلاً من ذلك يقدم البناء متعدد المحاول في الدي أس أم الرابع DSM-IV إمكانية ترميز الاضطراب الجسدي على المحور الثالث بالنسبة لمنظومة تصنيف طبية و درجة الإرهاق والتكيف النفسي الاجتماعي على المحور الرابع والخامس من الدي أس أم الرابع DSM-IV. كما توجد إمكانية إعطاء أرقام مميزة منفصلة (316.00) (الحالة الجسدية التي تلعب فيها العوامل النفسية دوراً). وبهذا يمكن من حيث المبدأ وصف كل عرض جسدي خاص من خلال تحديد الشروط المثيرة أو المحافظة على الاستمرار أو كليهما معاً بأنها اضطراب فيزيونفسي حقيقي، دون الاضطراب إلى تشكيل وحدة تصنيفية خاصة من أجل ذلك.

والمبدأ نفسه تم اتباعه في الآي سي دي العاشر ICD-10. فبدلاً من التفريق بين أمراض "مع تضرر في الخلايا" (الرقم 316) و "بدون تضرر في الخلايا" (الرقم 306) الذي كان مستخدماً في المنظومة السابقة الآي سي دي التاسع ICD-9 وضعت في الآي سي دي العاشر ICD-10 فئة جديدة "F45" تشمل "عوامل نفسية أو عوامل سلوك لأمراض مصنفة في مكان آخر". ويتم استخدام هذا الترميز عندما توجد في الأمراض الجسدية المرمزة في فصول أخرى من الآي سي دي العاشر ICD-10 عوامل نفسية قابلة للتحديد والتي تلعب "على ما يبدو دوراً جوهرياً في نشوء الأمراض الجسدية". وتطابق هذه الفئة حسب الناشرين المقطع رقم 316 من الآي سي دي التاسع ICD-9. وكأمثلة على ذلك نشير إلى الربو الشُعَبي (ترميز F45، و J45.9) وتقرح القولون (F45 و K51)، غير أن الفئة "45" لا تعطى إلا إذا تعلق الأمر في الاضطراب النفسي بمتلازمة مستقلة تترافق مع اضطراب جسدي فقط، وإلا ينبغي ترميزها على فئة مستقلة للآي سي دي العاشر ICD-10.

 

2-نشوء الخلل الوظيفي

تتم المحافظة على وظائف الجسد من خلال ثلاث منظومات تنظيم أساسية. وهذه المنظومات هي الجهاز العصبي المركزي والجهاز المناعي والجهاز الغددي. وحسب مستوى المعرفة الراهن تؤثر هذه المنظومات الثلاثة بطرق متنوعة على بعضها بعضاً. ويُنْظَر هذا التواقف[3] Interdependence  على أنه تفاعل مركب لمجالات تنظيم عديدة مبنية بشكل هرمي. ومن خلال ذلك يمكن لاضطرابات منظومة من هذه المنظومات أن تقود إلى خلل وظيفي في مجالات جسدية مختلفة جداً. وقد اعتبر الفيزيولوجي كانون Cannon (1932-197) و الطبيب الهنجاري-الكندي هانس زيلي Hans Sely  (1946-1981) الذي يعد مؤسس التصور العلمي للإرهاق (المشقة) Stress concept هذا الخلل الوظيفي Dysfunction  المعادل المرضي لردة فعل التلاؤم السوي في الأحوال العادية. فالعضوية تستجيب حسب زيلي إلى كل مثير داخلي وخارجي بعملية (سيرورة) تلاؤم تتألف من مستويات ثلاثة:

  1. طور الإنذار: الذي يتألف من صدمة وصدمة مضادة، حيث يحصل تلاؤم مع عامل الإرهاق Stressor.
  2. طور المقاومة: حيث تحاول العضوية الاحتفاظ بهذا المستوى من وضع رد الفعل المرتفع.
  3. طور الإنهاك: حيث تحصل عودة إلى نقطة الانطلاق التوازنية Homeostasis .

 

ويمكن أن يحدث الخلل الوظيفي إذا ما استمرت حالة المقاومة لفترة طويلة جداً أو إذا تكررت أو كانت شديدة متجاوزة بذلك الحدود الفردية.

ويظهر هذا الانهيار للوظائف التلاؤمية إلى جانب ظهوره من خلال الأعراض المرضية النوعية، من خلال "متلازمة المرض غير النوعية" التي تتكون ضمن أشياء أخرى من تناقص الوزن وفقدان الشهية وتناقص الطاقة الجسدية والنفسية.

وإلى جانب اضطرابات الوظائف غير النوعية هذه يمكن كذلك حدوث أضرار حقيقية في الأنسجة من خلال ردود أفعال التلاؤم. ومن خلال "ثلاثية زيلي" توصف متلازمة مكونة من تقرحات الجهاز المعدي معوي وضمور النسيج اللمفاوي الصعتري وتضخم الغدة الكظرية (متلازمة التلاؤم العامة)، التي تنشأ بالمعنى الفعلي للكلمة كنتيجة لمحاولات التلاؤم المنحرفة مع عوامل الإرهاق الجسمية والنفسية والاجتماعية المختلفة (فرضية اللانوعية unspecifity hypotheses ).

وتحدث ردة الفعل البيولوجية حسب زيلي من حيث الجوهر من خلال محورين رئيسيين ينطلق كلاهما من الهيبوتالاموس ويمتدان  من جهتين، الأولى: من خلال الفص الأمامي للغدة النخاميةLobos anterior إلى محيط الكظر، والثانية: من خلال ألياف الجهاز العصبي المركزي إلى لب الكظر أو من خلال الهرمونات المستجيبة effectors  مباشرة إلى الأعضاء الهدف. وفي لب الكظر يتم طرح الكاتيكولامين في مجرى الدم. وعلى الجسد هنا أن يتهيأ للاستجابة بشكل مباشر من خلال ردة فعل الهروب أو المواجهة (ردة فعل سُمِّية هدمية) Catatorical Reaction، ومن خلال محيط الكظر يتم طرح الغلوكوكورتيكوئيات[4] بشكل خاص التي تسبب حشداً عاماً للطاقة مُحدًثاً بوساطة تشكيل السكر ويمكن بهذا إحداث تلاؤم مُحًسًّن محدود زمنياً مع عوامل الإرهاق (رد فعل سمي متزامن Syntoxical Reaction).

وقد درست الوظيفة الفيزيولوجية للغلوكوكوتيكوئيدات لأول مرة وذلك عندما اكتشف تأثيرها الكابح للالتهاب. ومنذ لك الحين سرت بشكل كامل القاعدة القائلة: إن هرمونات هذه المجموعة تضعف قوى الدفاع بشكل عام عندما يكون تركيزها بين المتوسط والعالي. بالمقابل يمكن للارتفاع الفيزيولوجي للغلوكوكوتيكوئيدات المستحث للإرهاق أن يؤثر بصورة وقائية وذلك من خلال أنها تجمي ردود الفعل الجسدية من أن "تتجاوز حدودها " ومن ثم تمنع من تتجه هذه الوظائف التي هي وظائف تكيفية بحد ذاتها ضد الجسد نفسه.

ومن المهم بالنسبة لتطور الاضطرابات الفيزيو نفسية هو أن ردود فعل الإرهاق Stress تهيئ الجسد بشكل جسدي ، وكأنه يستجيب  بطريقة جسدية نشوئية نوعية Phylogenetic إلى مواقف المواجهة-الهروب القديمة. وهذا يقود إلى جانب توتر العضلات وارتفاع نبض القلب وعدد الضربات في الدقيقة وإلى تضيق أوعية الدم الجلدية وعضلات الجهاز المعدي معوي والكلية وإلى توسع أوعية عضلات القلب وعضلات العمل والكبد. وطبقاً لذلك تنخفض حرارة الجسد المحيطية وترتفع بالمقابل الحرارة الداخلية. وتتراخى عضلات الرئة وتتوسع الشُعب الهوائية بحيث يصبح التنفس العميق والأسرع ممكناً. وبالتناغم مع المتطلبات ومع أنماط المواجهة المتمركزة على التصرف يلاحظ انخفاض ردود فعل الهضم وضعف قصير الأمد في ردود الفعل التحسسية وردود أفعال الالتهاب وارتفاع استقلاب الغلوكوز.

وهناك القليل من المعرفة حول ارتفاع نفوذية الجلد مع المقاومة الكهربائية المنخفضة للجلد وارتفاع تخثر الدم وتحرير هرمونات النمو والغدة الدرقية وكبح التيستوستيرون Testosterone والأنسولين. وهذا التعداد يمكن متابعته كيفياً، إذ أنه في هذه الأثناء قد أثبت علمياً بالنسبة لكل هرمون وببتيد عصبي ومتغيرة مناعية ولكل ناقل عصبي، أنه يمكن أن تتعدل نسب المقادير المعنية من خلال مواقف الإرهاق بدرجة كبيرة.

وهنا لا تتبع ردود الأفعال دائماً الصورة الدقيقة التي عرضناها هنا بالشكل الأمثل. وحسب خصوصية الموقف وحالة منطلق العضوية وعدد المواجهات السابقة مع المُرْهِقات (عوامل الإرهاق Stressors) وتوقيتها (متكررة وضعيفة أم قوية ومع كمون كبير…الخ)، و زمن القياس (يغلب لردود الأفعال أن تكون في طور الصدمة متناقضة) يمكن أن تنتج أنماط ردود أفعال مختلفة.

أما نموذج الإرهاق المتجه بيولوجياً بصورة غالبة فقد تم توسيعه من قبل هينري وستيفنسHenry and Stephens من خلال مفاهيم نفسية. وطبقاً لذلك يقود إدراك فقدان الضبط إلى استثارة شديدة لمجموعة تلفيف حصان البحر-الحاجز (قرين آمون-الحاجز الشفاف[5] Hippocampus-Septum-Complex) في الجهاز اللمبي. يعقب ذلك تحرير شديد للكورتيكوئيد على محور الهيبوتالاموس الغدة النخامية محيط الكظر، إلى جانب أشياء أخرى، حيث يكون معادلها السلوكي "متلازمة كف /اكتئاب/ انسحاب". بالمقابل يقود تهديد الضبط إلى استثارة للّوزتين Amygdale بالدرجة الأولى ويسبب من خلال محور الهيبوتالاموس محيط الكظر تحرير شديد للكاتيكولامين، إلى جانب أشياء أخرى. وعند غلبة النورادرينالين يتألف المعادل السلوكي من سلوك الغضب والمواجهة، أما عندما يغلب الأدرينالين فتتألف ردة الفعل من رد فعل الخوف والهرب.

وينطلق هذا النموذج المحدد أيضاً من الأهمية المعطاة للنشاط المديد أو لفرط نشاط Prolongate activity or Hyperactivity محور عصبي ما. فعلى سبيل المثال تسود ردود أفعال التلاؤم البيولوجية التي هي بحد ذاتها ردود أفعال تلاؤم ذات أهمية عند استمرار تنشيط لب الكظر إلى الأمراض القلبية الوعائية في حين يسهل فرط تنبيه محيط الكظر تطور الأمراض المناعية وانخفاض السيطرة على ردود الفعل الالتهابية أو كليهما معاً.

وبدلاً من افتراض وجود فرط نشاط عام "لمحورٍ" ما يفترض اليوم وجود سوء تنظيم في منظومات الوظائف. ويمكن لسوء التنظيم هذا أن يظهر، ضمن أشياء أخرى، في حالات من فرط النشاط التوتري وفي فرط القابلية لحدوث استجابة ما تؤثر بشكل طوري فقط وفي النقص النسبي في الوظيفة أو في التناقض عند التنسيق الزمني-المكاني لمجالات التنظيم المختلفة.

وتتفاعل منظومات الوظائف الفاقدة للتوجيه من خلال الحواس مع العالم الخارجي باستمرار، وعبر هذا التفاعل يمكن من خلال سلوكنا أن يتم إضعاف الأعراض العيادية لاضطراب ما أو يمكن أن يزداد سوءاً. إلا أن أغلب عوامل الإرهاق المهمة في الحياة اليومية لا تؤثر على المنظومات البيولوجية بشكل مباشر، بل من خلال تأثير مركب بين متغيرات المحيط وإدراكها المصبوغ بتاريخ الحياة الفردي.

وقد قام كل من لازاروس و لاونر Lazarus and Launer بصياغة النموذج الأكثر شهرة لسيرورة التصفية الاستعرافية المتعدد الطبقات. وطبقاً لذلك يتم في البدء تقويم موقف استثارة أو تشكيلة حدث ما بالنظر لأهميته (تقدير أولي primary appraisal ) وتقدير فيما إذا كان الموقف ينبغي أن يفسر بأنه مهدد أو متحدي. وفي خطوة ثانية يتم القيام بتقدير إمكانات رد الفعل المتوفرة (تقدير ثانوي Secondary appraisal). وهنا يتم على مستوى السلوك تقدير فيما إذا كان بالإمكان الاستجابة بالإمكانات المختلفة من فئات السلوك "الهجوم" أو "الهرب" أو فيما إذا كان ينبغي لرد الفعل ألا يظهر على مستوى السلوك الواضح والقيام بدلاً من ذلك بسلوك على المستوى الاستعرافي. وهنا أيضاً يمكن اختيار استراتيجيات دفاعية من خلال المبالغة  أو اختيار إجراءات أقرب لأن تكون فاعلة ومتجهة نحو عوامل الإرهاق: مواجهة "نكوصية" مقابل مواجهة "تحويلية"على سبيل المثال  Copingtransformational versus   “regressive”.

ويمكن هنا أن يكون تعديل التقويم من خلال إحضار معلومات إضافية مثالاً على الاستراتيجيات الاستعرافية الفعالة. وبعد الاستخدام الحاصل لمحاولات المواجهة الناجمة عن هاتين السيرورتين من التقدير يمكن في النهاية أن يحدث تقييم لنتيجة التصرف (إعادة تقدير Reappraisal)، يقود إذا اقتضى الأمر إلى تقويم جديد لوضع الانطلاق، الذي يحدد التقويم الأولي للمرهقات التالية.

إلا أن سيرورة التقويم المفترضة هنا لاتخلو من النقد. إذ أن وضع "نموذج الإرهاق التفاعلي Transactional Model of Stress" هذا في علاقة ارتباطيه مع الوظائف الفيزيولوجية قد تم تحقيقه بمبادئ غير محددة. وما زال الارتباط الدقيق حول نموذج الاضطرابات الخاصة غير واضح بصورة كاملة. وعلى العكس من هذا حاول غري Gray صياغة نموذج بيوعصبي أقيمت فيه على أساس عدد كبير من النتائج العيادية والمخبرية على الحيوان رابطة بين الأبعاد الأساسية للسلوك وأنماط السلوك العينية والوظائف البيولوجية. ويميز غري بين ثلاث منظومات سلوكية، هي "منظومة الإقدام السلوكي Behavioral Approach System" و "منظومة الأحجام السلوكي Behavioral Inhibition System" و "منظومة الهجوم-الهرب".

ويتم توجيه المنظومات الثلاثة من خلال مثيرات توجيه مختلفة. وبناء على ذلك تنشط منظومة الإقدام من خلال منبه مشروط، أي منبه تفريقي يشير إلى التعزيز ( Type-"S-delta"). والمقصود بهذا المصطلح النظري التعلمي ظهور "التعزيز" أو "غياب" "العقوبة" أو عاقبة غير مرغوبة. ويشير الإحجام من خلال منبه تفريقي إلى التهديد أو الخطر.

بتعبير تعلمي نظري تعمل منظومة الإحجام على أساس من الدلائل التي تبشر "بعقاب" (أي حصول عاقبة غير مرغوبة). وبالمقابل تعمل منظومة الهجوم-الهرب على أساس المنبه غير المشروط.

 أما في السلوك الملموس فتظهر الأجزاء الثلاثة كما يلي:

يظهر في إطار منظومة الإقدام سلوك رغبة، و يظهر في منظومة الإحجام إعاقة للسلوك، ويظهر في منظومة الهجوم-الهرب عدوان دفاعي أو هروب غير مشروط.

إن الفكرة الأساس لنموذج غري تتمثل في أن أشخاصاً مختلفون يبدون استعدادات مختلفة لردود الفعل على هذه المنظومات الثلاث. وبالنسبة للاضطرابات الفيزيونفسية تعد –وكما ستظهر الأمثلة حول الحالات أدناه- إعاقة السلوك الناجم عن منظومة الإحجام المفرطة النشاط ذات أهمية خاصة. ويؤيد عدد كبير من الملاحظات العيادية والمخبرية الحيوانية الأساس البيولوجي لهذه المنظومة في مجال تلفيف حصان البحر-الحاجز.

ولكن من أجل فهم التطور الملموس لخلل وظيفي من سوء التنظيم حتى تثبيت المرض لا بد من أن تنضاف إلى ذلك أحجار بناء أخرى سنشرحها باختصار في الفقرة التالية.

 

 

 

3-عوامل خصوصية الاضطراب

تفترض كل النماذج تقريباً وجود استعداد مسبق شرطاً مهماً لتطور سيرورة مرضية نوعية. ومثل هذا الاستعداد الذي يسمى الاستهداف (النحيزة)  Diathesis  أيضاً، يمكن أن يكون موروثاً أو مكتسباً من خلال عوامل تاريخحياتية كالتسممات أو العدوى وعوامل التغذية والتعرض للمواد المضرة بالبيئة ومن خلال إشراطات ويتفاعل مع استعداد وراثي مسبق قد يكون موجوداً. وسواء عوامل المحيط أم الاستعدادات الوراثية يمكنها أن تسهم في تشكل ردود فعل بدئية، تشكل من ناحيتها عامل خطر آخر لتثبيت المرض النوعي.

وتشكل "المنظومة الشُعَبيّة المفرطة الحساسية" مثالاً على الاستهداف (النحيزة)  Diathesis  الذي يعد الاستعداد المسبق لتشكل الربو الشُعَبي. فهو يمكن أن يكون موروثاً أو ينشأ من خلال تضررات في الغشاء المخاطي الشعبي.

فمن خلال تربية جرذان قابلة للإرهاق بصورة خاصة استطاع ساينز Sines تجريبياً من إثبات استهداف وراثي في مجال تشكل القرحة المعدية. وقد تم تعريض هذه الحيوانات في الأجيال اللاحقة إلى مواقف إرهاق جديدة فاستجابت هذه الحيوانات مقارنة بحيوانات الضبط بنسبة مرتفعة بشكل واضح بتضررات الغشاء المخاطي في المعدة.

كما ترجع نتائج التجارب المشهورة التي قام بها برادي  Brady  في عام 1958إلى وجود استهداف كما نعرف اليوم. وبخلاف الفرضية أظهرت "القرود المديرة"، وليس الحيوانات الفاقدة للضبط تضررات مرتبطة بالإرهاق في الغشاء المخاطي للاثني عشري بشكل أكبر. غير أنه قد ظهر أنه تم من خلال دراسة قبلية انتقاء الحيوانات ذات القدرة على رد الفعل بشكل خاص والسريعة التعلم من أجل شروط التجريب الفاعلة. إذاً كانت الحيوانات التي تميل إلى فرط القابلية المركزية والمستقلة للاستجابة ذات استعداد خاص لعوامل الإرهاق اللاحقة أيضاً. وكما تظهر الأمثلة يغلب جداً أن يظهر الاستهداف فيما يسمى "أنماط ردود الفعل البدئية Reaction stereotype ". ويقصد بأنماط ردود الفعل البدئية الخاصة بالفرد individual specifically Reaction Stereotype  ويرمز لها اختصاراً IRS نمط رد الفعل الجسدي الذي يجري بالشكل نفسه عند الشخص نفسه. ويمكن استثارة مثل هذا النمط من رد الفعل من خلال عوامل إرهاق مختلفة. كما أن مثل ردود الفعل هذه معروفة في الحياة اليومية، حيث يذكر كثير من الأشخاص بأنهم يستجيبون "من خلال معدتهم" على الأغلب. أما وتعد "ردة الفعل المتعلقة بالموقف  Situation specifically Reactions Stereotype  المقابل لأنماط ردود الفعل البدئية الفردية النوعية ويرمز لها اختصاراً SRS، ويقصد به نمط من رد الفعل يلاحظ عند غالبية الناس بصفة عامة. وعليه تتم الاستجابة على المنبهات ذات الأهمية التطورية (كالارتفاعات الشاهقة مثلاً) بردود أفعال جسدية قابلة للمقارنة بين الأفراد إلا أنها تمثل في الوقت نفسه ردود أفعال خاصة. فإذا كان نمط رد الفعل الخاص بالموقف يلعب دوراً مهماً في تطور المخاوف فإن أنماط ردود الفعل البدئية الخاصة بالفرد ذات أهمية أكبر بالنسبة لخصوصية المرض في الاضطرابات الفيزيونفسية. فعلى سبيل المثال  تتألف خصوصية رد فعل مريض بالربو  الشعبي على أساس الاستهداف للمنظومة الشعبية المفرطة القابلية للاستجابة. وقد أمكن إثبات مثل هذا النوع من الخصوصية تجريبياً تحت شروط الإرهاق والهدوء. كما أنه من المعروف من العيادة أنه يمكن استثارة انقباض الشعب من خلال منبهات مختلفة جداً، كالهواء البارد والرطب ودخان السجائر وغازات المصانع والإرهاقات الجسدية و من خلال المثيرات الانفعالية. وهذه الأخيرة أمكن إثباتها من خلال مجموعة كاملة من الأعمال التجريبية.

وغالباً ما تؤثر السموم خارجية المنشأ بالتفاعل مع ردود الفعل البيئية الخاصة بالفرد الموجودة مسبقاً. وهذا ينطبق على سبيل المثال على التعرض لمثيرات الحساسية عند وجود استعداد مولود للحساسية. ففي نمط الربو "المتحسس خارجياً" (أي الذي يتحسس من خلال مثيرات خارجية المنشأ) على سبيل المثال تخترق مولدات المضادات الظهار الشعبي[6] وتقود إلى إنتاج متكاثر لمضادات الأجسام [7]IgA. وهذه ترتبط بمستقبلات الطبقة الخارجية للخلية الخشّائية mastoid Cell وتوفر تحرير وسائط كيماوية وبشكل خاص الهيستامين. والنتيجة هي انقباض تشنجي spastic Constrictoric لعضلات طرق التنفس الملساء يستمر لفترة قصيرة. وفي الوقت نفسه تحدث استثارة للأستيلكولين. مما يقود إلى تحرير آلية إرجاع إيجابية للتأثير الحاث للباراسمبتاوي[8]، ويسبب الهستامين، ضمن أمور أخرى، توسع الفتحات في الظهارة الشعبية، الأمر الذي يؤدي من جهته إلى مرور أفضل لمولدات المضادات. بالإضافة إلى ذلك يحث الأستيلكولين في الألياف البعد عقدية للجهاز نظير الودي انقباضات شُعَبية بشكل مباشر.

وتشكل السموم الفيزيائية كغازات المصانع ودخان السجائر عوامل مرضية مهمة أيضاً. إذ يكمن خلف "الربو الباطني" internistical، المجموعة الثانية الأكبر من الربو الشُعَبي اضطراب نفوذ أولي للغشاء المخاطي الشعب، الذي تكون خلاياه الظهارية متشابكة مع بعضها بشكل متين. غار أنه يمكن تفكيكها من خلال تأثيرات خارجية (فيروسات، التدخين…الخ) وتقود هذه التأثيرات إلى تحرير مستقبلات العصب المبهم الحساسة (ما يسمى بالمستقبل المثير). وهذه يمكن استثارتها من خلال مثيرات مختلفة (التدخين، الهواء البارد..الخ) وأن تقود إلى انقباضات شعبية. وفي مجرى التطور المرضي ينشأ فرط حساسية للمنظومة الشعبية من خلال تأرجحات موجات الاستثارة لهذا المستقبل المثير، ولا بد من افتراض أن نوبات ضيق التنفس التي تظهر في الكثير من مواقف الإرهاقات الجسدية والنفسية والاجتماعية تحدث من خلال تغيرات تردد التنفس المرتبطة بالعوامل المرهقة والتنبيهات المسهلة من خلال ذلك للمستقبلات المثيرة (أنظر الفقرة 2).

ومن خلال ذلك يعتقد بأنه يمكن تفسير التقلصات والتوسعات المشروطة بالإيحاء الموصوفة سابقاً للجهاز الشُعَبي, فإذا ما تم إعطاء المواد المستنشقة بشكل متناسب مع حرارة الجسد وليس مع حرارة الغرفة فإن تأثيرات الإيحاء لا تظهر.

وتشكل حوادث الإشراط عوامل أخرى، يمكنها أن تسهم في خصوصية اضطراب ما. فقد أثبت في تجارب كثيرة أنه يمكن من خلال الإشراط التأثير على المتغيرات الغددية والمناعية.  وقد ظهر أن التأثير عبارة عن نتيجة مباشرة لعملية الإشراط، أي أنه لم يتم الحصول عليه من خلال العوامل البيوفيزيائية المختلطة biophysical Cofactors. باختصار يمكن اليوم القول أن كبح المناعة المشروط قد برهن بشكل مؤكد في تجارب الحيوان. وكذلك التسريع المرتبط بذلك لنمو السرطانات وانخفاض في "خلايا القتل الطبيعية Natural Killer Cells "، وكذلك رد فعل تهديم الأنسجة المزروعة. والتأثيرات المتبادلة الناتجة هنا بين الوظائف الغددية والمناعية المختلفة ما زالت موضوعاً لدراسات علمية مكثفة، وكذلك أهميتها لتطور عمليات المرض النوعية (من ضمنها الأمراض المعدية). بالإضافة إلى ذلك لا بد من الإشارة بشكل نقدي إلى أنه ليس هناك "الـ"وظيفة المناعية وإن ما أمكن إثباته حتى الآن هو أن متغيرات محددة يمكنها أن تتعدل ضمن شروط تجريبية خاصة وذلك سواء باتجاه الكبح أم باتجاه التقوية. بالمقابل فإن الإشراط المباشر للأعراض ذات الأهمية من الناحية النشوئية المرضية غير محتمل. إذ أنه لم يتم حتى الآن تحقيق إعادة الإثبات Replication  للنتائج التي يتم حتى الآن اقتباسها حول الربو الشعبي وضيق التنفس المشروط تقليدياً.  وينبغي اعتبارها مجرد فرضية فقط بسبب عدم الدقة في تحديد المثير المشروط والمثير غير المشروط.

وتحتل عمليات التعلم الإجرائية أهمية خاصة فيما يتعلق بالسلوك المرضي. ففي عدد كبير من الدراسات الموضوعة أحياناً تحت مصطلح "الصيانة النفسية Psycho maintenance " تم برهان علاقات مهمة بين السلوك المتعلق بالمرض وبين ظهور العواقب السلبية أو غياب العواقب المنفرة. وعليه فقد أمكن لدى مرضى الربو الشعبي إثبات أن مقدار الأدوية اللازمة المتناولة يتعلق بمستوى القلق المتعلق بضيق التنفس. فالقلقون جداً يميلون إلى فرط في الجرعات بغض النظر عن وظيفة الرئة في حين أن القلقين بدرجة أقل يميلون لتناول جرعة قليلة مناسبة. والمرضى الذين يملكون درجة متوسطة من القلق المتعلق بضيق التنفس هم وحدهم الذين يحددون حاجتهم من الدواء بالتطابق مع شدة المرض المحددة موضوعياً. فالعلاج بالاستنشاق هنا لم يكن للربو وإنما للخوف، فالأدوية اللازمة تؤثر إذاً في إطار سيرورة تقوية سلبية. كما أمكن إظهار أن الجهاز الطبي العامل قد أصبح جزءاً من الآليات الإجرائية. فالمرضى الذين يتصفون بخوف عام مرتفع ومتمركز حول ضيق التنفس يحصلون بعد نهاية العلاج المركزي على جرعات أعلى من الكورتيكوستروئيد  ويعودون بتكرار أكبر للمستشفى. بالإضافة إلى ذلك ينطبق على كل الأمراض الفيزيونفسية أن إدراك الأعراض يقود إلى الانشغال المكثف المصبوغ بالخوف بمنظومات الأعضاء المعنية.

وقد وصف غري Gray أربعة مما يسمى "المردودات الأساسية major outputs" عند إدراك منبهات ذات أهمية فيما يتعلق بالخطر وهي في هذه الحال مثيرات استنباهية باطنية مثل بدء ضيق التنفس أو التعثر المتوقع للقلب على سبيل المثال.  وتتمثل هذه المردودات الأساسية في كف أو قطع نشاط جار وارد بشكل غير متوقع على مثير من نوع دلتا ورد فعل توجه على المنبه وارتفاع الانتباه والاستثارة وإلى حد ما القلق أيضاً، وتقويم جذري للتشكيلات المشكلة للموقف. والأخيرة بشكل خاص تطلق بصورة غالبة جداً حلقة مفرغة من إدراك الأعراض وازديادها سوءاً، إذ أن من يبحث عن مثيرات توجه موحية بالخطر فإنه يجدها، ومن يبحث بصورة مكثفة أكثر يجد كذلك أكثر. وبهذا يتم توكيد المخاوف الدائمة، ويمكن للأعراض أن تزداد سوءاً بصورة فعلية في إطار استجابة إرهاق عامة (أنظر الفقرة التالية). ومن الطبيعي أيضاً أن يشكل الانشغال بالمنبه الاستنباهي الباطني نفسه عاملاً رافعاً للاستثارة ومن ثم مقوياً للأعراض بصورة حقيقية.

وفي مجرى تطور اضطراب فيزيونفسي فإنه غالباً ما يتم بسرعة تعلم كيف يمكن إنهاء هذه الحالة المؤلفة من القلق والكف، أو كيف يمكن تجنبها منذ البداية. فمن خلال استخدام ما يسمى "بمثيرات الأمان" والبحث عنها يتم بشكل دائم تقريباً استخدام استراتيجيات فعالة وسلبية. وهنا يمكن لسلوك الانسحاب الخاص بالمرض وسلوك الاعتناء (تجنب سلبي) الحفاظ على الأعراض من خلال الحلقة المفرغة المؤلفة من إدراك العرض والخوف واللجوء كذلك إلى أعضاء الأسرة أو الخدمات الطبية (تجنب فعال). وعلى الرغم من أن سلوك التجنب يقود إلى تجنب قصير الأمد للخوف وعدم الهدوء –أي يوجد تعزيز سلبي- فإنه يمكن عن طريق تعميم المثير حصول انتشار شديد لسلوك التجنب (سلوك التجنب يقدح شرارة تعميم المثير!) وبهذا يتم التوقف عن البحث عن المواقف المهددة، إذا لا يتم اختبارها استناداً إلى محتوى التهديد الفعلي وبهذا تنخفض الكفاءة الاجتماعية في التعامل مع هذه المواقف وتنخفض كذلك عتبة إدراك العوامل الخارجية (كالمتطلبات) و الداخلية التي يجب تجنبها (كإدراك الأعراض والخوف)، وهكذا يظهر أن الآليات الإجرائية ذات أهمية كبيرة جداً بالنسبة لإزمانية اضطراب ما. وفي كل الأحوال توجد هنا أيضاً نقاط استناد علاجية فعالة.

وفي هذا المقام لا بد من الإشارة بصورة مختصرة إلى أنه وفق النتائج الأحدث للأبحاث البيوعصبية يعتقد بأنه لا يمكن التمسك بالعقيدة الصارمة للإشراط الإجرائي والتقليدي، والذي تم اتباعه في هذا المقطع أيضاً. فمن أجل بناء رد فعل متعلم لا يعد الاحتكاك الزمني مع منبه ثان ذا أهمية حاسمة فحسب وإنما المقدار الذي يمكن من خلاله التنبؤ بظهور المثير غير المشروط من المثير المشروط. ومن هنا تعد "الاحتماليةContingence، أي العلاقة التنبئية بين الأحداث إلى جانب "الاحتكاك Contiguity" الزمني هي المحدد\الفاصل وبهذا يذوب التقسيم الصارم للتعلم الإجرائي والتقليدي. إن ما يستقر هنا هو الارتباطات، إما بين المنبه أو بين رد الفعل ونتائجهما. ويمتلك "تعلم الارتباط"  أساسه البيولوجي –وهو أمر مبرهن في هذه الأثناء بصورة جيدة- في ظاهرة ما يسمى "الفاعلية طويلة الأمد Long-Term-Potentation  المبحوثة بشكل خاص في تلفيف حصان البحر. وهنا يتم تسجيل وميض مكثف لعصبونات فعالة بشكل ضعيف مبدئياً، يظهر تحت شروط محدودة (تنبيهات متزامنة ومتكررة من خلال شدات استثارة مختلفة). وهذا يبدو بأنه آلية بيولوجية مهمة لبناء الارتباطات. وبناء على نموذج غري Gray المتعلق بالاكتساب المُنَبِّه الموحي بالتهديد الذي يتم عن طريق منظومة حصان البحر –الحاجز يمكن فهم أنماط السلوك والمواقف المشحونة بالخوف الكثيرة الملاحظة عند المرضى بأمراض "نفسجسدية".

ومن خلال ما يسمى "دراسة أحداث الحياة الحرجة" لم يتم التمكن حتى الآن من الإيضاح بصورة كافية إلى أي مدى تسهم هذه الأحداث كالانفصال أو الوحدة من خلال الموت أو الكوارث الطبيعية…الخ، في تشكل الاضطرابات النوعية في المجال الإنساني أيضاً, ومن المؤكد أن الإرهاقات فوق العادية الناجمة الاعتقال والاختطاف وخبرات الحرب والتصفية ..الخ تقود إلى "ردود فعل الإرهاق التالية للصدمة" غير أن هذه المتلازمة تنتمي لاضطرابات القلق و يتم وصفها هناك بدقة (أنظر الفصل الأول والثاني من هذا الكتاب)، كما أنه من المؤكد أنه يحتمل  لكل "حدث حياتي حرج" أن يشكل بالتوليف مع إرهاقات الحياة اليومية المتكررة الحدوث (المشاحنات اليومية daily hassles) أو غياب الدعم الاجتماعي Social Support، عنصراً مهماً في شبكة عوامل المنشأ المرضي. وإلى جانب المُرهِقات الحادة نسبياً التي تظهر من خلال إرهاقات الامتحانات مثلاً يبدو أن هذه الإرهاقات المزمنة بشكل خاص وارتباطاً بشروط العزلة الاجتماعية أو الاكتئاب أو كليهما تؤثر بشكل ضار على ردود فعل المناعة.

وعلى الرغم من ذلك لا بد من التحذير من الاستنتاج الخاطئ الذي يتم فيه الربط السببي للأشياء التي تظهر مع بعضها بصورة متزامنة. إذا أن تصوراتنا اليومية من النوع "إن الإرهاق يُمْرِض" لا تشكل إلا إمكانية واحدة فقط لعلاقة المرهقات بالعَرَض.

إلى جانب ذلك هناك حدوث مشترك عن طريق المصادفة للإرهاق وتثبيت الأعراض والوضع القائل بأنه في أطوار الحياة الحرجة غالباً ما يظهر عدد كبير من أنماط السلوك الخطر كالتناول المفرط للقهوة والأدوية والكحول ونقص النوم وفرط النشاطات الفوضوية ونقص نشاطات الموازنة الحركية …الخ.

هنا يؤثر الحدث الحرج إذاً كعامل خلفية، تحدث من خلاله إضافات متزايدة لمواد ضارة خارجية المنشأ وهذه تشكل عندئذ العامل الحاسم لاضطراب نوعي. بالإضافة إلى ذلك يمكن الاعتبار أنه في حكم المثبت أن المتغيرات النفسية كخبرة "القابلية للتنبؤ" و "القابلية للضبط" في إطار "الإرهاق التفاعلي" (أنظر فقرة رقم 2)تشكل عاملاً كبيراً بالنسبة "لخصوصية الوقت" أي زمن التثبيت الدقيق لاضطراب ما أو لتفاقم العرض أو للانتكاس.

ولا يمكن ربط عوامل الشخصية "المواقف الخاصة بالاضطراب" أو "مواقف الصراع النوعية" مع اضطرابات محددة. فقد برهن كل من راغلاند وبراند Ragland and Brand  أن الارتباط المبرهن حتى الآن بصورة جيدة بين سلوك الخطر المهدد للقلب (النمط- أ- من السلوكType-A-Behavior ) وظهور أمراض القلب والدورة الدموية لم يعد قائماً. فقد حلل الباحثان من بحث المجموعة التعاونية الغربية Western Collaborative Group Study  المشهورة معطيات 257 مريض جدث لديهم ضمن المجال الزمني الذي يشتمل على السنوات الثماني والنصف الأولى  مرض قلبي تاجي. فلدى أولئك الذين توفوا ضمن الساعات الأربع والعشرين بعد الذبحة كانت النسبة بين النمط "أ" و النمط غير "أ" Non-Type-A- متساوية. حتى أنه قد ظهر لدى الناجين لفترة طويلة والمرضى الآخرين بأمراض القلب التاجية بعد تتبع حتى 22 سنة، أن نسبة الموت عند مرضى النمط "أ" قد كانت أقل بصورة دالة من المرضى الآخرين بأمراض القلب التاجية. وعلى أساس من العدد الكبير لعوامل التأثير الممكنة يتضح أن النحيزة (الاستهداف)  أو الاستعداد الذي كان يسمى سابقاً "نقص العضو" أو "المكان قليل الاستثارة Locus minoris resistentia " يحدد في الحالات النادرة فقط المثال الأوحد لاضطراب ما. في العادة لا بد من وجود عوامل أخرى تنضاف إلى ذلك تجمع اليوم تحت نموذج الإرهاق-الاستهداف متعدد العوامل multifactor Diathesis-Stress-Model  الذي سوف نوضحه من خلال نموذج لحالة:

 

4- عرض حالة

السيدة بارعة تبلغ من العمر 32 سنة وتعمل مهندسة للبناء في مؤسسة للإنشاءات الهندسية في شمال ألمانيا، متزوجة وليس لها أولاد. تعاني من آلام في الأمعاء الغليظة، تظهر من خلال الحاجة المتكررة للتغوط والإسهالات بين الحين والآخر وغازات شديدة. وتظهر الأعراض دائماً قبل ساعات من حصول المواقف التي لا تتوفر فيها إمكانات غير ملفتة للنظر للهروب أو عندما لا يكون موقع أقرب تواليت معروف بالنسبة لها. وكان الجمهور الذي يتألف بشكل خاص من الغرباء والأشخاص المهمين يقوي الأعراض، أما في البيت وفي جو الاسترخاء فيمكن مواجهة المواقف "المحرجة" بدون آلام.

وقد أصبحت في هذه الأثناء تتجنب إذا استطاعت الحفلات في الأماكن المغلقة (المسرح، السينما، الاجتماعات). أما إذا لم يكن بالإمكان تجنب ذلك فقد كانت تسعى إلى عدم الجلوس في الوسط على الأقل. وقد حدث ذلك بالفعل، فاضطر زوجها للذهاب وتبديل البطاقات. كما كانت تتجنب الرحلات الجماعية أو الرحلات التي يتطلب فيها الأمر المبيت خارج المنزل. وعندما يكون لا بد من ذلك لضرورات مهنية كانت تتجنب هذا الأمر من خلال قيامها بأعمال تعويضية قدر الإمكان.

كانت المخاوف متمركزة بالدرجة الأولى في شكل تفكير كارثي للتغوط وفي أن الآخرين يمكن أن يسمعوا أصوات المعدة والبطن.

ظهرت مشاعر الحاجة الملحة للتغوط للمرة الأولى في الطفولة وذلك في أثناء زيارة للكنيسة، غير أن الآلام لم تتعمم إلى مواقف أخرى في ذلك الوقت.

أما حدوث التعميم فقد تم نتيجة لطور من نزيف شديد للمصران الغليظ في سن المراهقة. ولم يتم اكتشاف وجود عمليات التهابية أو سرطانات.

وفي وقت بدء العلاج لم يكن بالإمكان تحديد الأمراض الحادة الباكرة بشكل واضح، بحيث أن الشك قد اتجه في التشخيص في البداية على أساس نن حركية الأمعاء الغليظة Bowel [9]motality  نحو ما يسمى "متلازمة الأمعاء المتهيجة" Irritate Bowel Syndrom" أو "تهيج القولون Irritable Colon".

ولا يوجد لديها قصور في الوظائف الاستعرافية النفسية والاجتماعية، وهي مندمجة بصورة كاملة في الشبكة الاجتماعية.

ومن هنا يتحقق شرط مهم للاضطرابات الفيزيونفسية، والمتمثل في التعلق الواضح لصورة شكوى جسدية بسمات موقفية. وهذا يعني بأن تشكيلات محددة جداً من المواقف المقيمة بأنها مهددة تترافق مع تفاقم العرض. بالمقابل تقود تغيرات بسيطة لهذه المواقف على سبيل المثال من خلال وجود شخص موثوق أو مجرد التأكد من وجود طريق للهرب إلى تحسن الأعراض.

غير أنه قبل البدء بالعلاج لا بد من السؤال فيما إذا كان هناك بالفعل اضطراب فيزيونفسي، أم أن الأمر قد يتعلق برهاب أماكن عامة يترافق بمستويات رد فعل فيزيولوجية مترافقة بآلام في المعي الغليظ.

غالباً ما يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال المنشأ المرضي، فمن جهة ظهر في المراهقة نزيف في المعي الغليظ كان قد فحص وعولج طبياً، ومن ناحية أخرى توجد في الأسرة عدة وفيات بأمراض سرطان المعي الغليظ. وهنا نملك بالنسبة لتطور هذا الاضطراب شرطان مهمان على شكل "استهداف" (نحيزة) أي أنه على أساس من المرض السابق المترافق بتضرر لجهاز المعي الغليظ وأمراض سرطان المعي الغليظ يمكن تخمين وجود استهداف وراثي (أنظر جدول 1). وضمن ظروف ما يقود الاستعداد المشروط أسرياً إلى نشاط مرتفع للمعي الغليظ كان قد سجل (برمج) في الطفولة بشكل مشحون بالخوف، سبب الاهتامام المألوف لإمكانات وجود التواليت. غير أن هذا التخمين تأملي جداً، إذ ليس بالضرورة أن يقود كل استهداف إلى مرض.

إذاً كيف يمكننا تصور بداية الاضطراب؟

 

بالنسبة للتخمين المعبر عنه مراراً حول بدء اضطراب حاصل من خلال الإشراط التقليدي ينقص هما كما هو الحال في غالبية الحالات القابلة للمقارنة أيضاً كأساس. إذ أنه من أجل حصول مثل هذا النوع من سيرورة الإشراط كان لا بد من تجمع مضاعف لمثير غير مشروط وحيادي في البدء. وعلى عكس ذلك كان ينبغي حصول إضعاف سريع لرد الفعل (عدا الإشراط وحيد المحاولة one-Trial-Conditioning: تعلم ميل منفر Taste aversion learning ). كما أنه لا يمكن بطريقة الاسترجاع إلا افتراض مجرد تخمينات حول طبيعة المثير غير المشروط (الظلمة؟ نشاط المعي الغليظ؟) والمثير المشروط (تجمعات الناس؟، نشاط المعي الغليظ؟). إلى جانب ذلك فإنه لم يعد بالإمكان الاستنتاج من الذي ظهر أولاً القلق، أم الحاجة الملحة للتغوط.

وعند تحليل الاضطرابات الفيزيونفسية ينطبق مبدأ تحديد نموذج اضطراب بسيط ذو أهمية بالنسبة للتأثير والتمسك إلى أبعد مدى بمعطيات قبالة للملاحظة أو قابلة للبرهان بالفعل. وفي هذه الحالة يمكن لهذا أن يكون:

  1. نزيف المعي الغليظ المتكرر الحدوث في المراهقة و
  2. العاقبة المباشرة المتمثلة في الذهاب المتكرر للتواليت والمرتبط بفحص وظيفة المعي الغليظ والقلق.

كلا النمطين من السلوك، أي الانشغال بوظيفة المعي الغليظ والقلق (المقوى إضافة إلى ذلك من خلال الاستهداف) يمكن اعتبارهما نتائج حتمية مباشرة لنزيف المعي الغليظ. وبهذا يمكن أن يكون قد وجد في المرحلة الثانية هذه من نموذج العوامل عاقبة بسيطة لمثير غير مشروط ورد فعل غير مشروط (الشكل 1 النقطة "ب").

ولكن كيف نفهم استمرارية الأوجاع؟ كما نعرف من تاريخ النشوء كانت الآلام مترافقة مع انتباه زائد لوظائف المعي الغليظ (تركيز الاهتمام)، وقد حصلت حساسية متزايدة للمثير الاستنباهي الباطني introspective Stimuli تحققت من خلال أصوات المعي الغليظ على سبيل المثال (الشكل 1 النقطة ج). إلا أننا كلنا نمتلك مثيرات فلما نهتم لها في العادة. ولكن في حالتنا ارتبطت هذه الأصوات على أساس من تاريخ التعلم بعواقب خطيرة ومرهقة. بكلمات أخرى تحولت أصوات المعي الغليظ إلى مثير تفريقي من نوع المثير دلتا S-delta تشير إلى وجود "خطر". وتكبح العواقب السلبية إمكانات السلوك بحيث يتم كما هو الحال في مثالنا التخلي منذ البداية عن نشاطات معينة (تجنب سلبي). و لا تقود في الحالة المثالية متلازمة رد الفعل القائمة على  المثير دلتا S-delta  الناجمة عن توجيه الانتباه إلى المثير المهدد وارتفاع عدم الاستقرار والقلق وتعميم الموقف المشكل إلى تكثيف وإدراك متنوع للمثير الموحي بالتهديد فحسب وإنما أيضاً إلى إحداث إثارة فيزويولوجية وبهذا إلى ازدياد حقيقي لردود أفعال الجسد التي يخشى منها. وبهذا يقع الشخص المعني في حالة مستمرة من الألم، يصعب كسر حلقاته المفرغة التي تتكون من إدراك الأعراض وتفاقمها (أنظر الشكل 1 النقطة "د").

كيف نفهم إذاً التوسع المتواصل لصورة الشكاوي؟

في الحالة العادية يمكن وصف توسع العرض الفيزيونفسي من خلال سلوك التجنب. إننا نعرف من التاريخ المرضي أن المريضة غالباً ما كانت من خلال انشغالها بوظيفة المعي الغليظ منصرفة عن محيطها ولم تكن مستعدة بشكل كامل للبذل في العمل. ووفق نموذج غري Gray  يمكن من الناحية المفاهيمية صياغة ذلك كالتالي: لقد وجدت المريضة نفسها باطراد في حالة من "الكف Inhibition" السلوكي أو في "محاصرة سلوكية". ومثل هذا النوع من الحصار تتم استثارته من خلال سلوك التجنب السلبي والفعال. ويمكن أن يكون التبني التعويضي لنشاطات أخرى كي تتجنب السفر في مهمات خارجية أو السعي إلى إرسال الزوج من أجل تبديل أماكن الجلوس مثلاً على سلوك التجنب. كما أننا نعرف من تقارير المريضة أنها تجنبت باطراد المواقف التي كانت شبيهة بالمواقف الصادمة بالأساس في الكنسية (تجنب سلبي)، أي المواقف التي لم يكن بالإمكان فيها الذهاب إلى التواليت بشكل غير ملفت للنظر عند إدراكها لتغيرات المعي الغليظ. فإذا كان بداية يتم تجنب أماكن محددة، ألا وهي الأماكن المملوءة بالنساء فقط، فإنه يتم في مجرى تاريخ التعلم تجنب كل المواقف الضيقة أو المزدحمة أو المظلمة أو المغلقة باطراد متزايد. وكما ذكرنا في البداية فقد اشتمل ذلك الكنائس والحفلات والمصاعد والسيارات وأخيراً أي نوع من الابتعاد عن مكان "آمن". ومن خلال الأشكال المختلفة للتعلم الترابطي حصل توسع للمثيرات التي تشير إلى الأخطار الني كانت في البداية موجودة بدرجة ضيقة فقط. وكانت نتيجة ذلك أن صورة المرض قد تفاقمت وازدادت سوءاًُ من خلال الظهور المتكرر بشكل غالب لمتلازمة الكف (الشكل، 1 النقطة هـ).

 

4-من المُرهِق إلى العضو: اضطرابات فيزيونفسية أخرى

هدف الوصف المسهب إلى حد ما للحالة إلى إيضاح مبادئ الوظيفة الأهم المسؤولة عن الإزمان. ويمكن تعميم المبادئ المذكورة في سماتها الأساسية على كل صور الاضطرابات الأخرى. فإذا ما أخذنا المجموعات الأساس للآي سي دي العاشر ICD-10 فإن ذلك يضم أمراض العضلات والهيكل العظمي (كالصداع التشنجي وآلام تقوس الظهر Low-back-Pain ونقص التوتر Dystonia وأعراض الارتعاش Tremor symptoms  وصرير الأسنان Bruxism والتهاب المفاصل المتعدد Polyarthritis  وروماتيزم البطن)، وأعضاء التنفس (كالربو الشعبي ومتلازمة فرط التهوية)  ومنظومة القلب والدورة الدموية (كفرط التوتر الأساسي، وأمراض القلب الوعائية)،  والجلد (كالتهاب الجلد التحسسي والصداف Psoriasis) وأمراض الجهاز المعدي معوي (كقرحة المعدة والاثني عشري Ulcus duodeni et ventriculi  والأمراض الالتهابية كتقرح القولون Colitis Ulcerous ومرض كرون [10]Morbus Crohn   واضطراب الأمعاء التشنجي irritable Bowel Disease  أو القولون المتهيج Colon Irritable  واضطرابات المري Esophagus والإمساك والإقياء وسلس البول والتبرز اللاإرادي) والجهاز الغدي (كفرط أو نقص إفرازات الغدة الدرقية ومرض السكري) وأعضاء الحس (كفقدان السمع، وطنين الأذن Tinnitus ومتلازمة مينري Morbus Meniré[11]).

أما الشقيقة فقد كانت في السابق تعد من الاضطرابات الوعائية أما اليوم فهي تعد بشكل متزايد ضمن حوادث النوبة الموجهة دماغياً Cerebral. وتشترك كل الاضطرابات الفيزيونفسية بوجود تضرر عضوي يستقر في تغيرات تشريحية أو وظيفية ويمكن أن يتوسع في إطار عوامل غير ملائمة إلى اضطراب واضح. وهنا لا بد من تسمية تركيبة عوامل الشروط البيوفيزيائية والاجتماعية النفسية وطريق التأثير الدقيق بدءاً من خلل التنظيم حتى المرض الظاهر في كل حالة فردية وفي كل اضطراب بشكل دقيق. وهذا لا يتضمن إشارات عامة إلى "الإرهاق" ولا كذلك إلى "الاضطرابات الباكرة" أو إلى العمليات اللاشعورية.

وبناء على ذلك يمكن في مجال أمراض القلب والدورة الدموية أن تتقوى أنماط من ردود الأفعال المتكررة من خلال أنماط السلوك الخطيرة على سبيل المثال كتناول الكحول والتغذية الغنية بالدهون والملح واستهلاك التبغ.

ومن أجل تحديد آلية تأثير ممكنة هنا لا بد من التوضيح التالي: لا يقود النيكوتين في الطور الأول من ردود أفعاله ثنائية المراحل إلى استثارة نقاط الاشتباك الكولينية[12] وبهذا إلى تنشيط الجهاز العصبي الودي وإلى ارتفاع نبض القلب وتقلص الأوعية الدموية فحسب وإنما أيضاً إلى نقص إمداد عضلة القلب بالأوكسجين والأوعية المحيطية. بالإضافة إلى ذلك يضطرب توازن تخثر وتميع الدم، ويحصل تجمع الخثرات  Therombocyten الأمر الذي يقود إلى تناقص مرونة جدران الأوعية. فإذا ما تم الآن إكمال هذه الآلية بردود أفعال الإرهاق الموصوفة في المقطع الثاني والثالث وربما كذلك من خلال إدراك "فقدان الضبط" يتقوى التأثير المرضي للمواد المضرة المذكورة من خلال استثارة دائمة لردود الفعل المتزايدة. وهذا يمكن أن يظهر في جهاز القلب والدورة الدموية من خلال الانقابضات الوعائية للأوعية الحاصلة من خلال مولدات النورادرينالين على شكل ارتفاع مؤقت في ضغط الدم.

ويمكن لردود الأفعال المتكررة من هذا النوع أن تسبب أضراراً صغيرة جداً في الجدران الداخلية للأوعية التي تترسب عليها الخثرات الدموية وخلايا النسيج الضام من جديد. ومن خلال التضررات ترتفع بالإضافة إلى ذلك نفوذية بروتينات البلازما التي تتجمع بدورها في مكان التضرر على شكل ما يسمى بصفائح تصلب الشرايين atherosclerotic Plaques\. ومن الأجزاء المختلفة لشحوم الدم أو البروتينات الدهنية Lipid proteins  تصبح هناك صعوبة في تحطيم البروتينات الدهنية المنخفضة الكثافة والمنخفضة الكثافة جداً Low and very Low density  والتي يرمز لها اختصاراً بـ "LDL" و "VLDL" من قبل المُلتهمات الكبرى[13]أما التنكزات[14] فيمكنها أن تزيد العملية سوءاً. كما يمكن للصفيحات أن تنجرف وتتجول في الأوعية كخثرات، وفي الحالة غير الملائمة يمكنها أن تسد الأوعية. ووفق هذه الأفكار فإنه يمكننا أن نتصور بسهولة أن الأشخاص الذين يميلون استعدادياً dispositional  إلى ردود أفعال الإنجازات العالية ergotrope Reaction [15]ويستجيبون كذلك على المرهقات بطريقة مقواة انتقائياً بردود فعل انقباضية وعائية يبدون خطراً مرتفعاً لأمراض القلب والدورة الدموية.

ويمكن إظهار وجود طرق تأثير مطابقة بالنسبة لكل الاضطرابات الفيزيونفسية وبهذا يكون قد أصبح من الواضح أيضاً أنه لا يمكن أن يوجد تسبيب "نفسي المنشأ" خالص لاضطراب.

إن ما أردنا إيضاحه في هذا الفصل هو أنه ليس من الحكمة فهم "النفسي" و "الجسدي"  بأنهما عبارة عن وحدتين "مختلفتين" يمكنهما أن يؤثرا على بعضهما بصورة متبادلة. وبدلاً من ذلك يتم وصف موضوع الملاحظة، وذلك حسب المسألة المطروحة، بمفاهيم الفيزيولوجيا والبيولوجيا والفيزياء وعلم النفس وعلم الاجتماع…الخ.

وإلى جانب إيضاح المبادئ العلمية لمجريات الاضطرابات فإننا نهدف من وراء هذا الإجراء إلى توضيح تسلسل خطوات التأثير الهادفة الذي ينبغي اشتقاقه من مثل هذا النوع من النماذج.   

 

5-إمكانات التأثير

يمكن تقسيم كل تأثير في الاضطرابات الفيزيونفسية إلى مجالات ثلاثة كبيرة "تقديم المعلومات" و "التنظيم الذاتي" و "كفاءة الإرهاق".

وتنبع تفاصيل هذا الإجراء من التحليل الدقيق للسلوك والمشكلة، حيث تشتق إمكانات التأثير بشكل مباشر من نموذج العوامل. وعليه ينبغي في البدء في مثالنا حول إيضاح فيما إذا كان يوجد قصور في مستوى المعرفة حول الأسس الطبية للمرض والروابط الفيزيونفسية بين السلوك وإدراك العرض والأعراض وكذلك حول الأخطار الحقيقية ومخاطر المرض وإمكانات السلوك الصحي.

فإلى مجال "التنظيم الذاتي" تنتمي إجراءات الاسترخاء. وفي مثالنا يتم التركيز على عضلات البطن والظهر حيث يتمثل الهدف هنا من الكسر المبكر للحلقة المفرغة المكون من إدراك العرض والاستعرافات المضطربة وظيفياً وتفاقم العرض. ويتم هذا من خلال تدريب الإدراك فيما يتعلق بمواقف الخطر والأعراض البكرة. والتأثير يتم عندئذ من خلال استخدام تقنيات مختلفة من الاسترخاء القصير الذي يهدف للتطرق الانتقائي لمجموعة محددة من العضلات.

وعلى المستويات الاستعرافية يتم كسر الاستعرافات المضطربة وظيفياً ("لا أستطيع فعل أي شيء على الإطلاق"!، "عاد ذلك ثانية"!) من خلال تقنيات "وقف الأفكار" على الأغلب وما يلحق بذلك من صياغة تعابير بديلة وبناءة بشكل أكبر لتفسير الموقف،  ("على الرغم من الإعاقة فأنا ما زلت قادر على العمل بشكل كامل وأحقق النجاح بشكل واضح!، إنه لمن طبيعة الاضطراب أن يزداد موقف الخطر الخاص بي سوءاً في بعض الأحيان"!).

وفي مجال "كفاءة الإرهاق" تنبع من نموذج العوامل الموصوف في المقطع الرابع ضرورة رفع مقاومة الإرهاق. ومن بين هذا تخفيض سلوك التجنب الواضح. ومن أجل ذلك ينبغي على الزوج أن يحضر إلى العلاج مع زوجته، لأنه يعزز بشكل غير مقصود سلوك زوجته المتعلق بالاضطراب. ويتبع ذلك تصميم تمارين ملموسة تتعلم فيها المريضة بشكل تدريجي البحث عن المواقف التي كانت تتجنبها حتى الآن والبقاء ضمن الموقف الخطير حتى ينخفض التوتر المخيف. ويشبه إجراء هذا المقطع في جوهره إجراء علاج المخاوف. كما يمكن كذلك القيام بعملية إعادة تصميم استعرافية أو تمرينات المهارات الاجتماعية.

أما ضرورة ذلك فيحددها تحليل السلوك المتعلق بالمرض. هل يلاحظ تفاقم للعرض على سبيل المثال أو استثارة له في تلك المواقف التي لا تستطيع فيه المريضة أن تقول "لا"، أم في المواقف التي تتطلب توكيد مطالب محقة؟ عندئذ لا بد من إجراء التمرينات المذكورة باعتبارها حجر بناء في برنامج التأثير.

بالمقابل ما تزال إجراءات التغذية الراجعة الحيوية تحتل حتى اليوم وظيفة داعمة في مجال التفسير والتعليم. وقد ظهر أن تعديل متغيرات الهدف الجسدية غير قابلة للتحقيق. والمحاولات القليلة التي جرت فيها محاولات اشتقاق طبيعي لوظائف نوعية للجسد شكلت استهلاكاً تقنياً وعملياً غير مبرر بالنسبة للممارسة العملية بدون أن يحدث نجاح بنسبة معقولة.

وينطبق هذا بشكل خاص أيضاً على إجراء أساليب الاسترخاء المدعومة بالإرجاع الحيوي biofeedback والتي يمكن تعلمها من خلال التوجيه الاختصاصي الكفء بشكل أفضل وأسرع بدون الاستهلاك الأداتي. وعلى الرغم من ذلك يمكن أن تكون هناك استطبابات خاصة لطريقة الإرجاع الحيوي البيولوجي كما هو الأمر مثلاً من أجل التوضيح للمريض العلاقات بين الإرهاق والاستعرافات المتعلقة بالهدوء ووظائف الجسد. ويرتبط في هذا السياق كذلك تدريب الاستنباه الباطني المدعوم بالأجهزة المفيد أحياناً في بداية التأثير. ويمكن القول بشكل عام أنه لابد لكل التأثيرات في النهاية أن تقود إلى أقصى درجة من الاستقلالية وتوجيه الذات. ومن أجل ذلك لا بد منذ البداية من الاستخدام الحتمي لتقنيات التوجيه الاستعرافية-اللفظية للسلوك بشكل خاص.

 

6-خلاصة

يتعلق الأمر في الاضطرابات الفيزيونفسية على الأغلب بتغيرات فيزيولوجية أو تشريحية أو كليهما معاً مرتبطة بعوامل متعددة ذات قيمة مرضية، تتصف مجرياتها بتغاير مشترك واضح من عوامل نفسية واجتماعية. وفي المعتاد تقوم التغيرات المرضية للأساس البيولوجي على خلفية شذوذ مكتسب أو مشروط وراثياً وأنماط ردود فعل متكررة وسموم خارجية المنشأ وعوامل إشراط تقليدية يمكنها التأثير على خصوصية الاضطراب. وتحدد آليات إجرائية وأشكال أخرى من التعلم الترابطي من خلال السلوك المرضي بمقدار كبير صورة العرض الملموسة. وليس من النادر أن يترافق التثبيت النهائي مع تأزم –أو أحياناً مع النهاية غير المتوقعة- للإرهاقات النفسية. وتقود في مثل هذا النموذج أنماط مواجهة الإرهاق القاصرة والمكتسبة عبر الحياة إلى تهدم الوظائف التلاؤمية وتسهل ظهور الأمراض الموجودة بصورة كامنة. كما يمكن للصدمات التي تحدث على شكل حوادث أو رضوض أو أمراض أساسية أن تكون على علاقة مع تجلي الاضطرابات الفيزيونفسية.

وغالباً ما يتصف مجرى الاضطرابات الفيزيونفسية مع تغيرات قابلة للتحديد من الناحية الفيزيونفسية والعصبية النفسية. وحتى عندما يتعلق الأمر هنا في العادة بشذوذات غير مترابطة فإنها تعطينا دلائل مباشرة حول مجرى الاضطراب. وبناء على ذلك فإن مهمات النفسانيين العياديين التعرف على هذه التغيرات من خلال التشخيص الدقيق وتحديد هذه العوامل المثيرة والمحافظة وتعديلها بطرق تأثير هادفة.

وعلى الرغم من أن مثل هذا العلاج (المساعد adjuvant ) المرافق لا "يشفي" المرض، إلا أنه يخففه من خلال تأثير الجزء الوظيفي الذي تتضمنه المتلازمة على مجرى المرض ككل. وهنا فإن نموذج الإرهاق-الاستهداف قادر على إحداث التكامل بين العوامل المختلفة ذات الأهمية بالنسبة للمنشأ ومجرى اضطراب ما.

بالإضافة إلى أنه في مثل هذا النوع من الطرق يتم تجنب أن تقود المفاهيم المستخدمة في الفروع المختلفة إلى ازدواجية نفسية-جسدية من جديد والتي تكون عاقبتها انقساماً قاصراً "للوحدة البيونفسية للإنسان". 

 

 

 


[1]  التريسوما-21 (أو متلازمة داون) وهي عبارة عن وجود صبغي ورائي زائد في الخلايا والأفراد، وهو في هذه الحالة الصبغي 21. كما أن تضاعف عدد الصبغيات رقم 8،13،18 يؤدي للمتلازمة نفسها. ومتلازمة داون عبارة عن تخلف عقلي تشكل فيه المنغولية الشكل الأكثر ملاحظة وتوجد ثلاثة أشكال منها. ويزداد تكرار ظهور التريسوما مع تقدم سن الأم.

[2]  مرض هونتينغتون أو رقاص هونتينغتون: مرض عصبي يتصف باختلاجات في الوجه والأطراف وصفه الطبيب الأمريكي (أوهايو-نيورك)هونتينغتون (1851-1916).

[3]  توقف شيء على شيء آخر، اتكالية متبادلة.

[4]  Glucocotricoid : هرمونات محيط الكظر التي تؤثر بشكل خاص على تبادل السكر والدهون والبروتين.

[5]  الحاجز الشفاف Septum-pellucid الحائط الجانبي الواقع بين القرون الأمامية للبطين الجانبي للدماغ، ويشكل لوحة ألياف بيضاء يشتمل في بعض الأحيان على تجويف Cavum Septi Pellucid  (عبارة عن تجويف في الحاجز الشفاف في الدماغ وغالباً ما يكون غير موجود) من الناحية الفيزيولوجية وكجزء من محيط الانفعالات (الجهاز اللمبي Pabez-circle) يعد الحاجز الشفاف مركز تحويل مهم بين تلفيف حصان البحر (قرين آمون) ومجال لب اللوزات Amygdale والهيبوتالاموس. وعند إزالته تحصل تبدلات في السلوك من الناحية الانفعالية والدافعية. وتقود استثارته الكهربائية إلى سلوك عدواني على الأغلب.

[6]  الظهارة: نسيج يكسو سطحاً أو يبطن تجويفاً.

[7]  IgA غلوبينات أمينية وظيفتها مهاجمة مولدات المضادات.

[8]  Parasympathicomimetical  كيماويات تقود إلى استثارة نقاط الاشتباك البعد عقدية.

[9]  مجموع مجرى الحركات العشوائية.

[10]   مرض كرون: التهاب كل جهاز الهضم من البلعوم حتى الشرج.

[11]  نسبة للطبيب الفرنسي Propper Meniré  (1799-1862) ومتلازمة مينري عبارة عن ارتفاع في الضغط في التيه الغشائي في الأذن الباطنية membranous Labyrinth  وتشكل الماء.

[12]  الكولين Cholin  مادة توجد في جميع الخلايا وخاصة المرارة والصفراء وهي ضرورية لأداء الكبد وظيفته.

[13]  إحدى أنواع جهاز المناعة تقوم بعملية البلغمة.

[14]  Necrosis موت موضعي للنسيج الحي.

[15]  مؤثر باتجاه رفع الإنجاز.