العلاج النفسي-متى يكون مفيداً

العلاج النفسي-متى يكون مفيداً

من الكتاب:

رابط التحميل 

www.4shared.com/office/1yriuSqF/___online.html

الأحكام المسبقة حول العلاج النفسي

استطلع أحد طلابي أشخاصاً لا يملكون خبرات شخصية مباشرة مع العلاج النفسي.

  1. سؤال: كيف تتصور العلاج النفسي؟
  • جواب1 : يجلس الإنسان مع المعالج النفسي ويتحدث حول الأمور التي تشغل باله، حول الماضي والطفولة والأسرة والأصدقاء. ويقوم المعالج النفسي بعد ذلك بتقويم ذلك ويحاول تفسير أين تكمن المشكلة.
  • جواب2 : أتصور وجود أريكة أو سرير يستلقي عليه المريض ويتحدث كثيراً. ويقوم المعالج النفسي بتسجيل الملاحظات ولا يتحدث كثيراً.
  1. سؤال: ما فائدة العلاج النفسي برأيك؟
  • جواب: من أجل اكتشاف وجود الأمراض النفسية. إذ يمكن لهذه الأمراض أن تقود إلى مشكلات جسدية. وأعتقد أنه يمكن للعلاج النفسي أن يفيد المعرضين لخطر الانتحار. وكذلك يستطيع الوالدان المرهقان أن يجدا المساعدة في العلاج النفسي، فإذا لم يراجعا عيادة نفسية فإن طفلهما قد يحتاج في المستقبل إلى علاج نفسي. وربما يستطيع العلاج النفسي المساعدة على تحسين مشاعر القيمة الذاتية و وعي الذات كي يتمكن الإنسان من التعامل مع مشكلاته بشكل أفضل.
  1. سؤال: ما هو مصدر معلوماتك عن العلاج النفسي؟
  • جواب: من التلفزيون، من المسلسلات والأفلام والأصدقاء الذين يتعالجون.
  1. سؤال: هل كنت لتذهب إلى العلاج النفسي؟
  • جواب: نعم. أعتقد أنه على الإنسان مراجعة العيادة النفسية عندما لا يعود قادراً على مساعدة نفسه. إذا ما كنت أعاني من مشكلات فسوف أفعل بالتأكيد. غير أني أعتقد أنه من الصعب إيجاد معالجين نفسيين جيدين. فإيجاد طبيب خاص ليس بالأمر الهين، فما بالك بالمعالج النفسي الجيد.

 

تعتبر مثل هذه الإجابات إجابات نموذجية بالنسبة للتحول الذي يحدث في مجتمعنا. فالعلاج النفسي يصبح أمراً بديهياً باطراد. وينظر إليه على أنه مساعدة ممكنة في الأزمات الحياتية ويتم اللجوء إليه أيضاً.

غير أن من يراجع اليوم بالفعل معالجاً نفسياً يكون معرضاً لخطر الوصم الاجتماعي المتمثل بأنه ربما يكون مجنوناً. وغالباً ما يتم تقييم العلاج النفسي على أنه إقرار بالضعف غير الطبيعي واليأس. و يقوم الإنسان بإخفاء كونه في العلاج النفسي عن أصدقائه ومعارفه. أو قد يقسم أصدقائه ومعارفه إلى قسمين: القسم الأول منهم يعرف والآخر لا يعرف. ففي العمل يفضل عدم ذكر ذلك وإلا سوف يعاني الإنسان بسبب ذلك من الإجحاف المهني والترقية والنجاح.

وتسود للأسف هذه الأحكام المسبقة أو الاتهامات تجاه الأشخاص الذين يتعالجون نفسياً حتى بين الأطباء والمتخصصين النفسيين.

استنتجت ولاء التي تحدثنا عنها سابقاً قائلة: إن كثير من الناس يخجلون من الحديث عن أمام الآخرين حول أزماتهم النفسية، لأنه هناك دائماً من سيقول بأنك مجنون، إنها تتوهم، وكل معاناتها هي من نسج خيالها. ويشعر الإنسان مراراً بهذه الاتهامات. وحتى عندما يذهب الإنسان للعلاج النفسي، يشعر بأن أمراً ما لا يسير على ما يرام في الطابق العلوي لديه. ولا يعتقد أي إنسان أن المشكلات قد تحدث نتيجة شدة الإرهاق أو التعب أيضاً.

وما زالت تسود حتى الوقت الراهن بين الناس فكرة أن الطب العصبي أو الدوائي هو المسؤول عن معالجة الاضطرابات النفسية. ويرتبط هذا الاعتقاد بأن أسباب الاضطرابات النفسية تكمن في اضطرابات عمليات الاستقلاب الجسدية.

 

هل تورث الاضطرابات النفسية؟

تجتاح مؤخراً الفكرة القائلة: إنه يفترض أن يكون للاضطرابات النفسية موقعاً ما موجوداً على الخريطة الجينية للإنسان.

غير أن هذه الفكرة مجرد تصور مضلل وتعبر عن جهود يسعى إليها الطب النفسي ذي التوجه الطبي الجسدي وعلم التقنيات الوراثية، لا يستطيع أصحابها التفكير سوى بالأسباب الجسدية لكل نوع من الظواهر النفسية، لأنهم مأسورين بمنظومة تفكير العلوم الطبيعية.

وتظهر بين الحين والآخر تقارير حول محاولات تجري في إطار أبحاث الوراثة باكتشاف أماكن تموضع السمات النفسية في الذخيرة الوراثية للإنسان. وعندئذ يرتبط مع هذا على سبيل المثال توهم التمكن من العثور على نوع من الشذوذ الوراثي في الذخيرة الوراثية للمجرمين الجنسيين. وترتبط مع هذه الفكرة فكرة أخرى قريبة منها تتمثل في أنه إذا كان الأمر كذلك فليس من المستبعد تصنيف الناس بناء على خارطتهم الوراثية وإجبارهم على إجراء العلاج. وعلينا الحذر من هذه الجهود التي تدعي العلمية لأن مثل هذه الأفكار يمكن أن تخفي ورائها أفكاراً عنصرية ومهينة للكرامة الإنسانية.

وللأسف غالباً ما يتم تعزيز الاتهامات حول الحتمية البيولوجية للسمات النفسية بين الناس. وتسهم في ذلك المجلات والجرائد من خلال نقلها لمثل هذه الأشياء. يقول أحد العناوين المثيرة الذي نشرته إحدى المجلات: "تماماً مثل البابا- ذكاء وشخصية و مواهب- معارف جديدة حول الوراثة. من يرث ممن؟" وبهذا العنوان يقوم التحرير الذي يوهم الناس هنا بأنه يقدم معلومات موثقة علمياً بإحياء أحكام مسبقة وقديمة جداً حول تاريخ الإنسانية ويبيع خليطاً غامضاً من الصحافة العلمية على أنه آخر ما توصلت إليه أبحاث الوراثة. غير أن الدراسة الدقيقة للمقال توضح أن الصحفيين وباحثو الوراثة لا يعرفون حول الموضوع بدقة. ومع ذلك تقدم الخدمات للأحكام الوراثية البيولوجية المسبقة بلا خجل. فالموضوع يمثل دائماً صفقة بالنسبة لمحرري الجرائد والمجلات. إذ أن حوالي 30% من السكان يعتقدون أن صفات مثل الذكاء والطبع والعناد تورث بيولوجياً، و 59% يعتقدون أنها تورث في جزء منها وفي الجزء الآخر يمكن التأثير بها من خلال التربية وتأثيرات المحيط. و 10% لا يعتقدون بالتوريث البيولوجي. وهذه المعلومة يمكن اعتبارها أهم معلومة من هذا المقال.

إن المشكلة مع "مجرمي المكاتب المتنفسنين" [1] هؤلاء أنهم لا يمتلكون معارف علمية موثوقة و أحياناً ويعتنقون بوقاحة أحكاماً مسبقة ويستغلون كل ما يجلب لهم الربح وينشرون بهذه الطريقة الجهل بين الشعب من جديد.

ليس كل ما يلمع ذهباً، وليس كل ما هو مكتوب صحيح، سواء كان في المجلات أم الجرائد أم في الكتب أم في الراديو والتلفزيون أو الإنترنت. لا بد من الحذر والتعامل مع ذلك بصورة ناقدة. بل أن الأمر يمكن أن يكون دائماً على عكس ذلك، غالباً ما يكون العكس هو الصحيح.

 

ليس للعلاج النفسي أية علاقة بالطب النفسي

هناك خطأ آخر شائع في التفكير يتمثل في الاعتقاد أن العلاج النفسي يعني الطب النفسي أو العكس. والأطباء النفسيون هم المسؤولون عن انتشار هذا الحكم المسبق. وقد حدث الأمر في البداية بشكل متردد ولكن بعد الحرب العالمية الثانية حاول الطب النفسي بنوع من الجشع والطمع المهني تصنيف العلاج النفسي ضمن طرق العلاج الطبي و اعتباره طريقة من الطرق العلاجية الأخرى. ومن هنا أتى هذا الحكم المسبق لدى الجمهور باعتبار العلاج النفسي من مجالات عمل الطبيب النفسي. فالاتهامات المنتشرة بين الناس هنا لها أسباب تاريخية.

وقد حاول سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي والعلاج النفسي الحديث التحذير من هذا التطور بلا طائل. وعلى الرغم من أن سيجموند فرويد قد كان طبيباً بالأصل ومتخصصاً بالعصبية، غير أنه بصفته مبدعاً للتحليل النفسي أصبح معالجاً نفسياً وكان يعتبر نفسه معالجاً نفسياً أيضاً. لقد أسس المهنة الشفائية "العلاج النفسي". إن من يعتبر العلاج النفسي من التخصصات الطبية فإنه يرتكب بذلك خطأ فادحاً.

وأرغب بتوضيح الموضوع من خلال إيراد مقارنة. لقد كان الأديب الإنطباعي impressionist آرثر شنتسلر الذي عاش في الوقت نفسه الذي عاش فيه فرويد طبيباً بالأصل. ولكن هل يعقل أن تخطر على بالنا فكرة تصنيف  الأدب   ضمن المجال الطبي، لمجرد أن هذا الأديب الذي أبدع كوميديا "الرقصة" وأعمال أدبية أخرى  كان طبيباً؟

إن هذا بالتحديد ما يتم فعله في الأطر الطبية السائدة مع العلاج النفسي. إنها تعتبره، هذا إذا ما اعتبرته، كطريقة ضمن إطار الطب الجسدي القائم على العلوم الطبيعية. وبالنتيجة لا يمتلك مؤسسو العلاج النفسي الفعليين، من غير الأطباء مكاناً في هذا النظام التسلطي.

وترى هنا عزيزي القارئ أن العلاج النفسي عبارة عن تخصص متنازع عليه. وغالباً ما تكون الآراء بين الخبراء الحقيقيين والمخمنين متباعدة جداً. فكيف يمكن لشخص  لا يعرف الكثير أو لا يعرف على الإطلاق أن يجد طريقه؟

وفي هذا المكان لا يبقى سوى أن يظل الإنسان مدركاً لحقيقة أنه لا توجد حقيقة ثابتة في مجال العلاج النفسي. والخبير الذي يدعي امتلاكه لمثل هذه الحقيقة واليقين، لابد من التشكيك به منذ البداية. ومن هنا فإننا ننصح دائماً:

 

انتبه من العلاج النفسي!

إن موضوع العلاج النفسي يسبب الخوف لكثير من الناس أو يمثل بالنسبة لهم حدثاً لا يمكن تصوره. ففي كل الأحوال ستمس الحياة النفسية العميقة وغير العميقة، وبالتالي فكثير من الناس لا يريدون أن يحدث ذلك معهم. وفي الوقت نفسه لا يبحث هؤلاء عن المعلومات من أجل فهم أفضل للعلاج النفسي. وطبقاً لذلك تنمو الخيالات بشدة حول ما يمكن للعلاج النفسي أن يكونه أو لا يكونه.

 

المعالجين النفسيين: لا هم صانعوا معجزات ولا دجالون

يمكن هنا وصف اتجاهين: الأول المبالغة بالتقييم والثاني الحط من القيمة. فإما أن يتم رفع المعالجين النفسيين إلى منزلة على أنهم صانعوا المعجزات الجبارين أو وضعهم في مرتبة النصابين والدجالين. فمن جهة ينظر إليهم على أنهم أصحاب كرامات ومن جهة أخرى على أنهم دجالين.

إن التوقعات العالية التي يمكن توقعها من العلاج النفسي يمكن أن تكون معيقة جداً

فعندما يطلب المتعالج من المعالج أن يحل له جميع مشكلاته بسرعة دون أن يكون المتعالج فاعلاً في الحل، فإن ذلك قد يعبر عن اتجاه حياتي مدلل ومتمركز حول الذات وأناني عند المتعالج ويشكل جزءاً من المشكلات النفسية التي يعاني منها. فالمتعالجين ينقلون قناعاتهم واتجاهاتهم التي يحملونها حول الحياة إلى المعالج النفسي. غير أن الأريحية والتوقعات الكبيرة لا يمكن أن تشكل اتجاهات يستطيع الإنسان من خلالها مواجهة الحياة والتحكم بها بشكل فاعل – ولا حتى العلاج النفسي.

وعندما يظهر لمتعالج ما أنه لم يحقق النجاح المتوقع من العلاج بسرعة، تنقلب التوقعات غير الفاعلة و التأليه المترافق مع ذلك للمعالج النفسي إلى حالة من العدوانية. وأحياناً تظهر ميول شريرة جداً تعبر عن نفسها من خلال  التقليل من قيمة المعالج والتشكيك به وبعلمه ..الخ.

وللأسف فإن المسؤول عن الانتشار الواسع للحكم المسبق السائد حول دجل العلاج النفسي هو الأطباء أيضا. حتى الأطباء الممارسين للعلاج النفسي أنفسهم معرضون لهذا التهكم من زملائهم الأطباء الجسديين. فغالباً ما يستهين المتشددون في الطب البيولوجي بمبادئ طب علاجي نفسي قائم على المحادثة.

 

المعالجات الضارة؟

تشير خبراتنا العلاجية في عيادتنا أن هذا الحكم المسبق له مبرراته في بعض الأحيان. فهناك بالفعل أشخاص قد تضرروا من العلاج النفسي. فمن الممكن أن يكون قد تم استغلالهم في العلاج النفسي لإشباع حاجات المعالج النفسي. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون الاستغلال جنسياً، إذ هناك الاستغلال الانفعالي أيضاً. أو ربما نسوا من خلال التحليل النفسي طويل الأمد كيفية إجراء حديث حقيقي مع أشخاص محيطهم. وقد يحصل أحياناً أن يتم إرجاعهم إلى طور الرضيع ولا يعودوا يعرفون كيف سيجدون طريقهم نحو هنا والآن وما يشبه ذلك من متاهات أخرى.

وليس من النادر هنا أن يكون الطب النفسي الدوائي هو الدجال في هذا الإطار. فعند التدقيق بأمر هؤلاء الأطباء الذين ما زال الناس يضعونهم  بشكل مبالغ فيه في مرتبة "الآلهة التي ترتدي الأبيض"، فإننا غالباً ما نستنتج أنهم لا يعرفون إلا القليل جداً من العلاقات النفسية العميقة للاضطرابات النفسية وغالباً ما يتسرعون دون أي اعتبار في وصف الأدوية النفسية. وهذا الأسلوب من التعامل يقود مع الزمن إلى مشكلات أكثر من المساعدة أو الحل الذي تقدمه.

 

إحذر من الدواء النفسي

كن حذراً من الطبيب الذي يؤكد لك عن قناعة مصبوغة بالصبغة العلمية بأنه قد أعد لك الدواء المناسب لمشكلاتك النفسية. فإزالة المشكلات النفسية بواسطة الأدوية الجسدية أمر مشكوك به من جهة. من جهة أخرى قد تشكل  الأدوية النفسية مساعدة عابرة إلى أن يتمكن المرء من إيجاد اتجاه جديد في إدارة حياته ويستطيع حينئذ البدء بالتعامل مع المشكلات النفسية. ولكن العلاج النفسي بالأدوية النفسية إحدى طرق العلاج الموجودة منذ 50 سنة تقريباً والتي تعمل لدى كل مريض وفق مبدأ المحاولة والخطأ. ولهذا ينبغي على كل مريض على حدة أن يختبر بنفسه وبتعاون مسؤول مع الطبيب الموثوق والمسؤول أيضاً، فيما إذا كان العلاج بالدواء النفسي مفيداً له أم لا.

 

الحبوب – ليست دواء لكل داء

وهناك كثير من المرضى الذين يتوقعون أن تحقق لهم الأدوية الشفاء العجيب الكامل. ويلعب الحكم المسبق القائل: إن سبب الاضطرابات النفسية يكمن في اضطرابات العمليات الحيوية  الجسدية دوراً هنا في اعتبار أن الدواء يؤثر على هذه العمليات الحيوبة  ويعيد التوازن. وغالباً ما يظهر أن هذا الاعتقاد بالدواء النفسي يعبر عن الأريحية والتوقعات العظيمة المتوقعة من الدواء. فإذا  كان هناك دواء يمكنه أن يغير كل شيء نحو الأحسن، فلن أضطر لمواجهة متاهاتي الحياتية وعاداتي الضارة بالصحة. ويشكل سوء استهلاك الأدوية النفسية الذي يحدث بشكل متكرر جزءاً من المشكلة المتمثلة بأن هذه توصف من أجل الشفاء، متجاهلين المشكلة الناجمة عن التعلق بهذه الأدوية الأمر الذي لا يجوز لنا أن نقلل من أهميته أبداً.

ويقوم الحكم المسبق المتمثل بأن سبب الاضطرابات النفسية يكمن في التركيبة البيولوجية للجسد وبالتالي فهي تقع ضمن نطاق عمل علم الأدوية النفسية والطب العصبي على حقيقة الوجود الفعلي لمثل هذه الارتباطات في غالبية الحالات بين اضطرابات العمليات الحيوية والاضطرابات النفسية. غير أن الصور المرضية النفسية التي تنجم فيها التضررات والإصابات والخلل عن الأساس الجسدي لحياتنا النفسية لا تشكل إلا جزءاً بسيطاً من الاضطرابات النفسية المعروفة. أما الجزء الأكبر والأوسع ، والذي لأجله تم تطوير العلاج النفسي، فلا يوجد له أية أسباب جسدية. فالنفس و حياة الشخص المعني وأسلوب إدارتها هي المضطربة وليس الجسد.

 

من الصعب تفسير النفس من العلوم الطبيعية

يصعب على الناس الذين يفكرون بطريقة علمية طبيعية- طبية جسدية تفسير أو فهم العلاقات النفسية. ويتهم هؤلاء العلاج النفسي بأنه يتعامل مع شيء غير موجود أو مع شيء لا يمكن قياسه فعلاً. وفي الواقع من الصعب للمشاعر والانفعالات والفضائل والتصورات الأخلاقية و الجَلَد والبراعة والتخيلات والأفكار والقيم والعوامل النفسية الأخرى المؤثرة أن تكون قابلة للفهم من الناحية العلمية الطبيعية.

ومع ذلك فنحن نستطيع فهم هذه العلاقات النفسية – وهذا كان الاكتشاف العظيم لطليعي العلاج النفسي كسيجموند فرويد و ألفريد آدلر. يمكننا فهمها حتى في تطرفها وشذوذها، في اضطراباتها وصراعاتها. كل ذلك ممكن إذا دخلنا إليها مدخلاً علمياً إنسانياً. ويرى كثير من المعاصرين أن العلاج النفسي يكون "للمرضى" فقط: وبما أني لست مريضاً فلست بحاجة للعلاج. ومن البديهي أنه لا يمكن إجبار أي شخص على البدء بالعلاج، ذلك أن العلاج النفسي لا ينجح إلا إذا قام على الاختيار الحر للأشخاص المشاركين، أي للمعالج والمتعالج معاً. فمن خلال الحوار الحر والمنفتح يتم توسيع المعرفة بالذات وبالحياة وتعميقها من أجل أن يتمكن هؤلاء شخصياً من بناء حياتهم بشكل أكثر نجاحاً.

 

العلاج للشريك أيضاً

كثيراً ما نلاحظ أن أحد الزوجين يبحث عن العلاج  لأنه "مريض" في حين يرفض ذلك الزوج الآخر لأنه "سليم".

 

 

حضرت شهيرة للعيادة النفسية بسبب اضطرابات قلق شديدة. و شيئاً فشيئا اتضحً أن سلوك زوجها قد أسهم في زعزعتها. وبعد تباطؤ ومماطلة حضر الزوج بلا إرادة كبيرة منه بين الحين والآخر إلى الجلسة مع زوجته. واستغلينا هذه المناسبات للتطرق بإسهاب للمواضيع والمشكلات الجوهرية في علاقة الزوجين وتفسيرها. وأحياناً كان الزوج يتحدث حول نفسه ويفكر حول تصرفاته بصورة نقدية. غير أنه ظل لفترة طويلة متمسكاً بتقديره (الخاطئ) لنفسه. كان يرى أنه لا يعاني من أية مشكلات وأن زوجته مريضة نفسياً بغض النظر عنه. والآن وبعد سنتين من العمل العلاجي مع الزوجة ومع الزوج في بعض الأحيان، أخبرنا بأن الجلسات قد أفادته أيضاً. فقد أصبح متفاهماً مع زوجته بشكل أفضل وأنه قد عرف الآن ما الذي ينبغي تحسينه.

 

و لاتمثل هذه الحكاية حدثاً فردياً، بل قاعدة. ولحسن الحظ هناك الكثير من الاستثناءات التي تؤكد لنا هذه القاعدة.

 

هل العيادة ورشة تصليح؟

من الأفكار المنتشرة كذلك حول العلاج النفسي أنه عبارة عن ورشة تصليح. ففي إطار مجتمعنا القائم على المنافسة والإنجاز ينتظر من الإنسان أن يكون قادراً نفسياً على الإنجاز. وعندما تظهر اضطرابات نفسية بحيث لا يعود الإنسان "يعمل"  نفسياً أو عندما "يتعطل"، فإن من مهمة العلاج النفسي إعادة "تصليح" هذا الشخص بالشكل المطلوب.

غير أن هذا الأسلوب من التفكير المنبثق عن المهن الحرفية والصناعية لا يتناسب مع الاضطرابات النفسية أو ينطبق عليها. ولو كان المعالج يسعى إلى أن يلائم متعالجيه مع المعايير الاجتماعية السائدة متجاهلاً موضوع التعامل مع كينونة وشخصية متعالجيه وتنميتهما، لكان سيتهم بحق بالمطابقة أو التكييف Conformist.

إنه لمن الصعب حساب النجاحات والإنجازات الشخصية التي يمكن اكتسابها في العلاج النفسي من خلال معايير التقييم السائدة في مجتمع يقوم توجهه الاقتصادي على الإنجاز والمنافسة.

وربما هذا هو السبب الكامن خلف عدم تمتع  العلاج النفسي بسمعة طيبة في الدوائر الاقتصادية. فالعلاج النفسي، كما يتهمه هؤلاء، لايكون إلا للضعفاء والنساء فقط.

 

وربما يعلم الوصف التالي الذي يقدمه متخصص اقتصادي أولئك الذين يعتقدون هذا الاعتقاد شيئاً:

 

قررت بعد أن أنهيت دراستي في الهندسة الاقتصادية في الجامعة عام 1992 في سن 27 تعميق حبي للتقنيات البيئية من خلال تحضير الدكتوراه. وكنت أملك أفكاراً معينة وكذلك أبدت بعض الشركات اهتمامها، واستطعت أن أكسب أستاذاً في الجامعة يعمل في مجال النفايات في صفي. واتفقنا على التعاون الحر في بعض مشاريعه الجارية، الأمر الذي أعطاني حرية أكثر إلى حد ما لمواصلة تنمية أفكاري ومنحني فرصة أن يشرف على رسالتي.

وعلى غير ما هو متوقع تبين أنه من الصعب الحصول على تأييد لأفكاري من أستاذ جامعي ذي اتجاه تقني بيئي، فلا أنا استطعت الحصول على وسائل البحث ولا لمست اهتمامات الشركات الموعودة. وترافق هذا التطور ببطء مع كساد متزايد أدى إلى كبح جو التمويل بشدة. ومن هنا سعيت على كل المستويات من أجل دفع تطويري على كافة الأقنية والمستويات. وعليه فقد نشرت في السنوات الخمس الماضية أكثر من ثلاثين مقالاً حول موضوعي وشاركت في معرضين. ومع ذلك لم أتمكن من الحصول على شركاء متعاونين وموثوقين وثابتين أو على دخل مستقر، باستثناء المكافآت من العمل في مشروع الأستاذ.

وبما أن مجرى الأمور مع بعض شركائي لم يعد يعني لي شيئاً، قدمت طلب حق الحماية في عام 1994. وقد أدى هذا إلى جانب التزامي المكثف بفكرتي إلى غضب الأستاذ الجامعي، إلى درجة أنه بالنتيجة قد أوقف تعاوننا. وقبل ذلك بفترة قصيرة انتهت علاقتي بشكل مفاجئ بأم ابنتي البالغة ست سنوات بعد علاقة استمرت عشر سنوات. وازداد الطين بلة بإصابتي ببلوى مالية إضافة لما أنا فيه من إخفاق مهني وأسري.

والخلاصة أني بدأت أشكك بطريق حياتي على الرغم من زوجتي الجديدة والمحبوبة والعلاقة الجيدة جداً مع أهلي وأصدقائي. وعانيت بين فترة وأخرى من الاكتئاب. وشعرت بأني لن أستطيع الخروج من أزمتي بقوتي الذاتية ولا من خلال مساعدة أحد المقربين لي من أصدقائي أو غيرهم.

ومن هنا وبعد بعض التردد قررت اللجوء قبل سنتين للعلاج النفسي، الذي خفف لي في البداية من ضعف الدافع الذي كنت أشعر به. وأنا نفسي تفاجئت بهذه النتيجة. فقد أنجزت منذ سنة مسودة رسالتي البالغة 200 صفحة. وحصلت على مشتر لمشروعي من شركة تصنع الآلات والأجهزة. واستطاع بمساعدة النوع الذي اخترعته من الآلات بيع مصنعين. بالإضافة إلى ذلك يُعرض الآن نموذج أولي من أفكاري في مركز بحث مشهور متخصص تصنيع النفايات ويتم اختباره بشكل مكثف.

وبشكل عام يمكنني القول أنه حتى لو انقطعت عدة حبال في الحياة فلا بد وأن يظل منها حبلاً يمكن الوصول إليه والإمساك به. وكان العلاج النفسي بالنسبة لي هذا الحبل. فمن خلاله أبت قواي وطاقاتي الإبداعية على الاحتراق من خلال الأفكار اليائسة والمستسلمة واستطاعت أن تفيد المجتمع وبالتالي الناس".

 

 

ما الذي يفترض فينا قوله بناء على هذا المثال حول الحكم المسبق القائل: إن العلاج النفسي لا يحل المشكلات بل يقود إلى مشكلات إضافية جديدة؟

وربما يكمن في هذا الحكم (المسبق) جزء من الحقيقة. فليس كل علاج نفسي يكون علاجاً نفسياً. وتختلف في الواقع مهارات ونوعية المعالجين النفسيين. وينطبق هذا الأمر سواء على الأطباء أو النفسانيين أو التربويين أو غيرهم الذين يمارسون العلاج النفسي.

روت لي مؤخراً صوفي فرويد، حفيدة سيجموند فرويد والتي عاشت تطور التحليل النفسي منذ نعومة أظفارها بأنها قد سألت في محيط معارفها في بوسطن عن الخبرات التي جمعها المرء عن التحليل النفسي. وقد أجاب ثلث المسؤولين تقريباً بأنه لم يتغير معهم أي شيء بعد العلاج. فلم يكن هنا العلاج النفسي لا ضاراً ولا نافعاً. أما الثلث الثاني فقد استفاد من التحليل النفسي. فقد ارتفعت لديه طاقة الحياة وتغير الكثير في حياتهم. غير أن الثلث الثالث والأخير قد اشتكى بأن التحليل النفسي قد أدى إلى كبح في بعض مجالات الحياة و قاد أحياناً للضرر بالفعل.

 

العلاج النفسي ليس خدمة مجانية

العلاج النفسي عبارة عن خدمة ويكلف مالاً. ولكن علينا الإشارة إلى أنه لا يجوز أن يكون العلاج النفسي مجاناً ولا أن يكون غالياً. ومن الغريب بالنسبة لنا مؤسسات وأفراد مدى السهولة التي ننفق فيها أموالنا لإشباع حاجاتنا المادية بغض النظر عن تكلفتها. وما أبخلنا إذا ما تعلق الأمر يتعلق بصحتنا النفسية وتنمية شخصيتنا.

 

رفاهية مجتمع البطر؟

يرى البعض أحيانا أن العلاج النفسي يعبر عن ظاهرة رفاهية لعصرنا المدلل. فهل حللنا جميع مشاكلنا  لنتفرغ  فيه للاهتمام "بسقيفة " حياتنا النفسية.

علينا ألا نطلق مثل هذه الأفكار باستهتار. إذ تستنتج الدراسات المهتمة بانتشار الاضطرابات النفسية أنه في أوقات الأزمات الحرجة (كالحروب)، تدفع المخاوف الحقيقة المخاوف الناجمة عن الاضطرابات النفسية للخلفية، أي أن المخاوف الناجمة عن الاضطرابات النفسية تختفي وتحل محلها المخاوف الحقيقية. وينخفض عدد الأمراض النفسية بشكل مفاجئ في حين أن يرتفع  عددها في زمن البطر.

غير أن المسألة ليست مسألة إما أو. فليس من المعقول العمل على إحداث أوقات أزمات شديدة من أجل تخفيض انتشار الاضطرابات النفسية. إذ أن هذا التحمس للحرب الذي قرأنا عنه في تقارير الحرب العالمية الأولى في عام 1914 يشكل نفسه دليلاً على اضطراب نفسي شديد للمجتمع ككل.

 

الحرب تعبير عن الاضطراب النفسي

لا تمنع مواقف الأزمات الشديدة ظهور أشكال محددة من الاضطرابات النفسية فحسب وإنما تقود إلى إنتاج أشكال جديدة من الاضطرابات. وتمثل الحرب شكلاً متطرفاً من الاضطرابات النفسية للمجتمع ككل.

وقد استنتج سيجموند فرويد مرة أن كل من يعمل من أجل الحرب إنما يعمل ضد الحضارة، والعكس. ومن هنا يمثل العلاج النفسي شكلاً مهماً من العمل التثقيفي والتربوي للإنسان. إنه يعمل على بناء الأثقال الموازنة للميول التدميرية المتنامية في عصرنا. ويستطيع العلاج النفسي في الحالة الفردية تشجيع الناس الخائفين، على تنمية إرادتهم على تحمل مسؤولية الحياة بالرغم من كل المنغصات. فالعلاج النفسي  يمثل عملاً تربوياً واجتماعياً أساسياً.

فكيف علينا التعامل من هذه الزاوية مع الحكم المسبق القائل: إن العلاج النفسي يهتم بأشياء غير مهمة؟ ما هو هدف النبش العميق –هكذا يبدو السؤال الناقد- للطفولة وللأحداث البعيدة جداً؟ ما فائدة بعث الماضي؟  فهنا والآن (الحاضر) أهم بكثير من الماضي. وحتى هذا الخيار خاطئ  والمسألة ليست إما أو، إذ يمكن أن يحل محله سواء الماضي أم هنا والآن. فليس من مهمة العلاج النفسي البحث في ماضي المريض فقط أو  حاضره فحسب وإنما كلاهما.

 


[1] إشارة إلى هؤلاء الجالسين وراء مكاتبهم مدعيين معرفتهم بعلم النفس دون أن يعرفون من حقيقته شيئاً.