العلاج النفسي بالمحادثة- الغيير من خلال الفهم

العلاج النفسي بالمحادثة- الغيير من خلال الفهم

. حول الفرق بين الإرشاد والمعالجة النفسية

رابط التحميل: www.4shared.com/office/Hnlfu9FV/Clientcentred_Psychotherapy.html

قدم التصور المتمركز حول المتعالج في ألمانيا - بصورة مغايرة لما هو الأمر عند روجرز - باعتباره علاجاً نفسياً. غير أن العاملين في مجال الخدمة الاجتماعية و في مجال التربية الاجتماعية لا يقومون بمعالجة نفسية لمتعالجيهم. وحتى إن حاولوا ذلك بعد أن يكونوا قد أجروا تأهيلاً ((إضافياً)) مناسباً فإنهم غالباً ما يفشلون محبطين مع متعالجي الخدمة الاجتماعية[1] ويمكن للمرء وصف مجال الفاعلية للعاملين في الخدمة الاجتماعية بالمعنى الأوسع كفاعلية للإرشاد. ولكن أين تكمن الفروق الخاصة بين المعالجة النفسية والإرشاد ؟

 

لقد شغلت مشكلة تحديدهما مجموعة من الباحثين بدون أن يتوفر حتى الآن حلاً مقبولاً باعتباره حلاً وحيداً. وسوف نقوم بعرض الآراء حول هذه المشكلة؛ ولابد للمقولات التالية حول العلاقة بين المعالجة النفسية والإرشاد النفسي أن تكون ممثلة تعليمياً لتنوع الرؤى:

لم يطور اتجاهان علاجيان واسعا الانتشار - المعالجة النفسية بالمحادثة والمعالجة السلوكية -  (حتى الآن) تصورات خاصة بالإرشاد. فبالنسبة لهما فإن القانونيات التي تحدد التصرف العلاجي وتأثيراته لدى المتعالجين في كل المواقف التي يتعلق فيها الأمر بتعديل السلوك الإنساني هي نفسها. فروجرز مثلاً قد سمى أحد كتبه  الصادرة في عام1942 ((العلاج النفسي والإرشاد)) دون أن يميز بين هذين المجالين من النشاط.

فإذا  تم التفريق بين الإرشاد والمعالجة النفسية، فعادة  يتم ذلك وفق واحد أو أكثر من المعايير الأربعة التالية. وهنا يفهم مصطلح ((الإرشاد)) بشكل مختلف، كما ويتم تضمين الإرشاد أهدافاً مختلفة:

(1) نوع وشدة الاضطراب: فوفق رؤيا واسعة الانتشار يعتبر العلاج النفسي فاعلاً في اضطرابات (الشخصية) ((الشديدة))، في حين أن الإرشاد يعتبر مناسباً في المشكلات الراهنة ((الخفيفة)).

(2) ويرتبط بالنقطة الأولى بشكل وثيق أن أهداف التأثير من خلال الإرشاد والمعالجة النفسية مختلفة. إذ يفرق هوبين (Houben, 1975، صفحة 116) بين استعادة ((كفاءة الوظيفة الكاملة لوظائف الأنا الشاملة)) (أي مثلاً الإدراك والتفكير والتذكر والتمييز وضبط الذات والواقع) من خلال المعالجة النفسية والتقوية الخاصة للأنا مباشرة بالنسبة لسيرورات القرار الصعبة في مواقف الأزمات من خلال الإرشاد (صفحة 123 وما بعدها). وأحياناً يعتبر الإرشاد بديلاً لمعالجة نفسية لازمة في الواقع؛ عندئذ لا تكون مهمته الاستعادة الكاملة أو إعادة بناء شخصية المتعالج، وإنما التخفيف العابر - وضمن ظروف معينة - للوضع الراهن. وبهذا المعنى يكون الإرشاد قابلاً للمقارنة مع محاولة تأجيل إجراء عمل جراحي من خلال المعالجة الدوائية أو للحلول مكان العملية الجراحية التي لم يعد بالإمكان القيام بها.

(3) نوعية التأثير العلاجي: حتى عندما نذهب من أن المبادئ الفاعلة في الإرشاد والمعالجة النفسية هي نفسها أو متشابهة، فإنه يتم التفريق بين كلتا الطريقتين من المساعدة. فمن المفترض أن كلتا الطريقتين تتطلبان تأهيلاً مختلفاً. ويرى بيركينز  (1973Bierkens,، صفحة 22): ((إن العلاج النفسي يملك هدفاً خاصاً و يشترط خبرة خاصة. أما في إدارة المحادثة…..فهذا موجود بدرجة ضئيلة جداً !)).

(4) نوع الإجراء وسمات الموقف الخارجي: بالفعل يمكن هنا من هذا المنظور ملاحظة وجود فروق واضحة بين المعالجة النفسية والإرشاد.

وسوف نقوم بعرض بعض هذه الفروق بدون مراعاة المضامين النظرية الكامنة ورائها:

الإرشاد Counseling

 

العلاج النفسي Psychotherapy

 

  • يقتصر في الغالب على فترة زمنية قصيرة.
  • عليه في الغالب أن يتصرف بدون وجود دوافع كافية عند المسترشد.
  • يحدث عادة في فترات متباعدة (عند الحاجة).
  • يتخلى عن الاستخدام الهادف للمواد اللاشعورية.
  • يحتوي على إجراءات توجيهية إلى حد ما.
  • غالباً ما يجري بتكليف مؤسساتي.

 

  • يحتفظ بالعلاقة متباعدة. لا يتم التعرض للنقل والنقل المعاكس بصورة هادفة.

 

 

  1. يستمر لفترة أطول.

 

  1. يشترط دوافع قوية للمتعالج

 

  1. يحدث بشكل منتظم.

 

  1. يعمل بشكل أساسي مع مواد لا شعورية.
  2. أقرب إلى عدم التوجيه.

 

  1. يقوم على التفاهم الحر بين المعالج والمتعالج.
  2. يعمل من خلال العلاقة الوثيقة ويستخدم النقل والنقل المعاكس.

 

 

 

ونريد أن نضع هذه الإمكانات من التفريق بين العلاج النفسي والإرشاد مقابل تفريق آخر مشتق من فهمنا للمعالجة النفسية (بالمحادثة):

إننا نفهم مصطلح ((الإرشاد)) بمعنى واسع جداً؛ إنه يشتمل على كل الإجراءات - غير العلاجية النفسية - من المساعدة المتخصصة مهنياً في حل المشكلات الإنسانية. وضمن هذا الإرشاد يقع عدد كبير من الإجراءات التربوية والتدريبية والرعاية والمساعدات الداعمة أو المواسية…الخ. وتتميز كل هذه الإجراءات بأنه من خلالها يتم تقديم عرض علاقة محدد للمسترشد ؛ وتتم المحافظة على هذا العرض من العلاقة طوال مدة الإرشاد - وهذا يمكن أن يستمر أيضاً لبقية حياة المسترشد - ولا يصبح نفسه موضوعاً لسيرورة العلاج.

بالمقابل يتم القيام بالمعالجة النفسية (بالمحادثة) بهدف معالجة تعامل المتعالج مع عرض علاقة المعالج (وبهذا أيضاً - كما كنا قد أظهرنا - علاقة المتعالج بنفسه)، بهدف تعديل العلاقة العلاجية وعلاقة المتعالج مع نفسه.

غير أنه لم يتضح بعد بهذا الاقتراح للتمييز بين الإرشاد والمعالجة النفسية متى يكون العلاج النفسي ملائماً ومتى يكون الإرشاد هو المناسب. سوف نعالج هذه المسألة في سياق السؤال عن وظيفة التصور المتمركز حول المتعالج في العلاقات غير العلاجية النفسية non - psychotherapy  في المقاطع التالية:

 

 

 

 

 

3. حول قابلية التصور العلاجي النفسي بالمحادثة للاستخدام في الخدمة الاجتماعية

عرضنا حتى الآن رؤيتنا حول أن المعالجة النفسية لا بد وأن تختلف عن الإرشاد وأكدنا على أن السمة الفاصلة هي العمل في علاقة المتعالج بنفسه في العلاج النفسي.

بالإضافة إلى ذلك نحن ندَّعي أن التصور المتمركز حول المتعالج له مكانته ليس في العلاج النفسي فقط وإنما في كل شكل من الإرشاد، بل أنه لا يمكن التخلي عنه.

ولبرهان هذا نريد الاقتراب أكثر من الفرق بين المعالجة النفسية والإرشاد من زاوية التصور المتمركز حول المتعالج. إننا نميز بين إجراء معالجة نفسية بالمحادثة والسعي إلى موقف علاجي نفسي بالمحادثة في العمل مع الناس.

يتميز إجراء المعالجة النفسية بالمحادثة بكون المعالج متعاطفاً بطريقة منسجمة و مُقَدِّرة؛ ويتألف تصرفه من المصارحة فقط عما فهمه من خبرة المتعالج ومن مرجعيته التي يقيم  متعالجه من خلالها  خبرته. وتطلق على هذا التصرف في ألمانيا تسمية ((التعبير عن محتويات الخبرة الانفعالية)) (قارن الفصل I).

فإذا  كان العلاج النفسي غير فعال فإن هذا التصرف لن يكون غير مساعد فحسب وإنما مظلل كذلك؛ إذ يحتمل أن يعاش كشيء هزلي Farce  يوضحه المثال التالي - المتطرف إلى حد ما -:

تصور أن يسألك عابر في الشارع عن الطريق إلى محطة القطارات. فهذا العابر إذاً يملك مشكلة، وقد استنجد بك لتنصحه. وقد سمعت شيئاً ما عن المحادثة المتمركزة حول الشخص. ولهذا تجري معه محادثة من النوع التالي:

العابر: هل تستطيع أن تدلني أين تقع محطة القطارات؟

المرشد: إذا كنت أفهمك بشكل جيد، فأنت غير متأكد أين تقع محطة القطارات في هذه المدينة؟

العابر: أجل، أجل هذا ما قلته؛ ولكن أتستطيع أن تصف لي الطريق إلى هناك؟

المرشد: هل هذا صحيح، بأنك تتوقع مني معلومة دقيقة؟

العابر: يا إلهي هل تريد السخرية مني ؟ أسألك شيئاً ما وأنت تلف وتدور !

المرشد: أستشف من تعبيرك بعض الغضب، هل أنا على حق؟

 

ومن المتوقع في هذا النوع من إدارة المحادثة أن العابر سوف يتأخر عن موعد القطار.

ويوضح هذا المثال بطريقة واضحة أن التعبير عن محتويات الخبرة الانفعالية يمكن أن يكون أداة غير ملائمة على الإطلاق لحل المشكلات. ولكن كيف يحصل أن الكثير من العاملين في المجال الإرشادي والعلاجي ((يعبِّرون بطريقة لفظية)) أو حتى   ((يترجمون)) بشدة  في كل المواقف الممكنة (وغير الممكنة) ؟

لنتأمل مثال محطة القطارات مرة أخرى بدقة ولسوف نستنتج أن ((المعالج)) في الواقع قد فهم ((محطة القطارات)) فقط؛ وعلى الرغم من أنه ((يعبِّر)) بصورة جيدة ولكنه لم يفهم ما الذي ((يريده)) المتعالج منه بالفعل. بكلمات أخرى: لقد أضاع  ((المعالج)) الاستجابة بصورة تعاطفية للمتعالج ؛ كما وأنه قد ((نسي)) مطلب تحقيق التقدير، وعلى أية حال ليس من المتوقع أن يشعر ((المتعالج)) بأنه مقبول؛ كما وأن ((المعالج)) قد تخلى عن أن يكون أصيلاً، إذ أنه لا يدرك أن علاقته ((بالمتعالج)) غير سليمة ؛ وعلى ما يبدو فإن ((المعالج)) يملك مشاعر 

(ربما مشاعر عدم اليقين وبأنه مغلوب على أمره) تجاه هذا العابر، مشاعر يخفيها خلف التعبير الملموس تقنياً. فلو كان المرشد المسؤول متعاطفاً بطريقة أصيلة و مُقَدِّراً لكان ببساطة قد دل العابر إلى طريق محطة القطارات. فالتعاطف إذاً يمكن أن يعني ((التعبير)) كفهم غير ملائم والتخلي عنه طبقاً لذلك بهذه الصياغة نرغب أن نوضح أنه لا يجوز للتعبير عن محتويات الخبرة الانفعالية أن يكون هو التعبير الوحيد للمتغيرات الجوهرية للمعالجة النفسية بالمحادثة - أي كجزء تكاملي للتصور إن صح التعبير -، وإنما إن تحويل نتيجة الجهد التعاطفي إلى مصارحة لغويّة للمتعالج هي عبارة عن صيغة للتعبير عن السعي إلى التعاطف المقدر والأصيل بطريقة مفيدة بالنسبة للمتعالج. وهذه الصيغة مقبولة عندما - وعندما فقط - يتعلق الأمر عند متعالج ما بعلاقته بنفسه وينسجم أكثر مع ذاته، أي تكون مناسبة فقط عندما يكون لا بد من التعبير عن الموقف العلاجي النفسي بالمحادثة من خلال صيغة التعبير عن محتويات الخبرة الانفعالية.

إن ما يميز التصور المتمركز حول المتعالج هو سعي شريك المحادثة (المعالج \ المرشد) إلى الفهم الأصيل والمقدر غير المشروط للمتعالج - حتى عندما لا يظهر ذلك في التعبير عن محتويات الخبرة الانفعالية. ونطلق على  السعي إلى هذا الفهم تسمية الموقف العلاجي النفسي بالمحادثة أو الموقف المتمركز حول المتعالج. إننا لا نقصد بهذا الموقف سمة في الطبع للمرشد أو المعالج وإنما اتجاهاً فاعلاً نحو متعالج ملموس في موقف ملموس.)

يمكن ملاحظة كم يحدث أن يتم الخلط بين الفهم والتعبير في كثير من مواقف الصراع (كالصراعات بين الشريكين وبين الزملاء). فإذا  ((عبر)) زوج بطريقة التمركز حول المتعالج عن اتهامات زوجته ويستاء إضافة إلى ذلك، بحيث أن ((هذا السعي للفهم)) يجعل زوجته أكثر حنقاً، عندئذٍ على المرء أن يوضح له أنه لا يتصرف بصورة أصيلة ولا مُقَدِّرة بتعابيره، وإنما يتهرب من زوجته وبهذا من المواجهة مع نفسه. إن الموقف المتمركز حول المتعالج في هذا الموقف سوف يعني أن المرء يفهم أن زوجته تواجه العلاقة معه وليس علاقتها بنفسها، بحيث يتقبل مشاعرها تجاهه وبأن يتساءل - لأنه يشعر بعلامات من عدم التقبل  لديه - ما الذي تسببه له مشاعر زوجته هذه وماذا تعني له.

الموقف المتمركز حول الشخص كما يوضحه هذا المثال أيضاً وكذلك تطبيقه في العلاج النفسي لا يعني  ((كن لطيفاً مع المتعالج))؛ إنه دائماً مطلب المرشد \ المعالج من نفسه بأن يفهم ما الذي يجري في المتعالج وما الذي يتمناه وما الذي يخيفه…الخ، وبأن يتقبل ما الذي فهمه من المتعالج وأن ينقب عن طريق التعاطف الذاتي في ردود فعله الانفعالية الخاصة على المتعالج عما يعيقه لفهم المتعالج وتقبله (قارن الفصل I و II). وربما تكون ماهية الوظيفة التي يمكن أن يمتلكها التصور المتمركز حول المتعالج في الإرشاد قد اتضحت من خلال هذا العرض. وسوف نتوسع فيما يلي من الحديث في هذه الوظيفة ونجسدها من خلال الأمثلة.

والحالة التالية تشبه - ظاهرياً - إلى حد ما مثال محطة القطارات:

في الواقع يمكن للمرء مشاهدة السيدة العجوز التي تعيش في الطابق الأرضي من بناية ما دائماً عندما يمر من أمام مسكنها واقفة عند النافذة ؛ وفي فترات متقاربة أحياناً ومتباعدة أحياناً أخرى تسأل العابرين من أمام مسكنها عن الساعة؛ وعادة ما تحصل على المعلومة المرغوبة بدون أن يظهر بعد ذلك أي تعديل على سلوكها.

ولتضع أنفسنا مكان مرشد متمركز حول المتعالج ولنتأمل ما الذي يعنيه مطلب الموقف المتمركز حول المتعالج بالنسبة للمرشد في هذا الحال الملموس:

الانسجام: كما عرضنا في الفصل الأول يفهم تحت مطلب الانسجام بشكل خاص أن المرشد مدرك لمشاعره أو يمكنه أن يصبح مدركاً لها. وفي هذا المثال يعني هذا الأمر بالنسبة للمرشد إلى حد ما، إنه سوف يدرك  أنه دائماً يشعر بالرغبة في أن يمر أمام السيدة بسرعة قدر الإمكان عندما يلتقي بها. ومن الناحية ((الموضوعية)) فإن هذا أمر غريب، فهي لا تسأل إلاّ عن الوقت فقط، فلماذا إذاً  ردة الفعل الانفعالية الشديدة هذه ؟

فإذا ما تأمل المرشد أحاسيسه بدقة فسوف يكتشف عندئذٍ: إني أعرف أن هذه السيدة لا يهمها الوقت على الإطلاق بالدرجة الأولى؛ و لابد أن يكون لها مطلب آخر، قد تكون نتيجته أكبر بالنسبة لي وإلاّ لما كنت أرغب في أن أمر من أمامها بسرعة كبيرة قدر الإمكان. هذه السيدة تثير في داخلي شيئاً ما، ليس له أي سبب مباشر في البدء. إذا فالمرشد يمكن أن ينظر لخبرته الخاصة، إذا  كان صريحاً كنوع من الأداة لإدراكه، التي تساعده في أن يعرف عن الآخر أكثر مما يُخْبِرهُ هذا الآخر بكلماته.

التعاطف: بعد أن واجه المرشد ردود فعله الانفعالية الخاصة بهذه الطريقة يمكنه الاهتمام  المرجعية الذاتية لهذه السيدة ثانية، وأن يكتشف رغبتها بالتواصل. وفي اللقاء التالي لا يخبرها عن مجرد الوقت فحسب وإنما يظل واقفاً لفترة قصيرة.

وتبدأ السيدة تحدثه بأنها تملك هذا المنزل ولا تستخدم فنه إلاّ غرفة واحدة فقط، وأنها لم تعد تستطيع المشي كما كانت في السابق وأنها كانت تذهب مراراً إلى الكنيسة  أما اليوم فهي لم تعد تعرف أي شخص.

وتدفعها محاولات المرشد لفهم ما تقصده للتطرق بشكل مباشر إلى وحدتها. بكلمات أخرى: يمكنها التخلي عن الطريق المُرَمَّز من خلال السؤال (" كم الساعة") و التطرق مباشرة لمشكلاتها ومعايشتها.

التقدير غير المشروط: كمرشد يفهم ما الذي تريده هذه السيدة في الحقيقة، و لا يعود يدركها بأنها غريبة الأطوار كما في السابق؛ ففهمه يتيح له ؛ أن يتقبلها أكثر، رغبته في الجري بسرعة من أمامها، تصبح أقل. إنه يشعر بأنه حر ومقرر فيما إذا كان يملك مزاجاً ووقتاً لمواصلة الحديث مع السيدة.

غير أن وضعها ما زال كما هو لم يتغير، بغض النظر عن إمكانات الحديث مع المرشد وما قد يرتبط بذلك من ارتياح. والخطوة الثانية يمكن أن تكون في التفكير مع المرأة بالإمكانات المتاحة لإخراجها من وحدتها، وربما مرافقتها عند التنفيذ لأول مرة لهذه الإمكانات إلى مطعم للكبار في السن مثلاً.

ويتضح من خلال هذا المثال بعض وظائف الموقف المتمركز حول الشخص والتني تتمثل في:

  1. السعي لفهم ردود الأفعال الانفعالية الذاتية (التعاطف الذاتي) كإمكانية لفهم الآخرين بصورة أفضل.
  2. فهم وتقبل شريك المحادثة كمساعدة من أجل تحقيق إدراك أفضل لذاته وصراحة أكبر تجاه الخبرة.
  3. فهم الآخر كشرط للتمكن من تقبله.

 

ويقود هذا المثال إلى ملاحظة أخرى أيضاً إلا وهي إن المشكلة التي تشكل مناسبة للمرشد من أجل الإرشاد، ليست على الأغلب هي المشكلة التي تكون المساعدة ضرورية بالنسبة لها في الواقع. لنتصور متعالج ما يدرس في المعهد اختصاص علم الاجتماع، وبعد وقت قصير يلجأ إلى مركز الإرشاد الطلابي لأنه غالباً ما يأتي إلى جلسات السيمينار متأخراً، بدون أن يتمكن من القيام بشيء تجاه ذلك؛ عدا عن ذلك يعاني من صعوبات في ((عمل الاستمارات)) اللازمة أثناء الدراسة الأساسية. وعلى الرغم من حضوره للكثير من المحاضرات - على الغالب يأتي متأخراً - فإنه لم يقدم في الفصل الثاني أية استمارة على الإطلاق. ويعزو ذلك إلى ظروف الدراسة غير الملائمة وإلى كثير من الانشغال في وقت فراغه (إلى عمله السياسي المكثف  مثلاً).

يمكن للمرشد أن يكون قد حاول بعد هذا العرض وضع برنامج دراسة مع هذا الطالب يحتوي على تقييد لنشاطه خارج المعهد وعلى مكافآت ذاتية للحضور إلى السيمينارات في الوقت المناسب. بالإضافة إلى ذلك اقترح المرشد مايلي:

1- إنجاز محاضرة بالمشاركة مع طلاب آخرين من أجل تحقيق دافعاً إضافياً وضغطاً خارجياً.

2- البحث عن موضوع يرتبط مع التزامه السياسي بعلاقة وثيقة يمكنه إنجازه بسهولة.

3- و لأنه يشعر بأنه أكثر ثقة من الناحية اللفظية أفضل من الكتابية فيمكنه أن يشترك في حلقة دراسية عند أستاذ يثق به بصورة كبيرة.

4- مراجعة الأستاذ الذي يريد تقديم الامتحان لديه والتحدث معه حول صعوباته بهدف إيجاد حل ممكن.

 

وعلى هذه الاقتراحات أجاب الطالب:

بالنسبة للنقطة الأولى:

 ((إني لا أعرف أحداً يملك اهتمامات مشابهة لاهتماماتي))

بالنسبة للنقطة الثانية:

((أتعرف: إن ما يمكنني قوله لا يمكنني من خلاله التقدم في هذا المعهد)).

بالنسبة للنقطة الثانية:

((إنها إمكانية جيدة بحد ذاتها ولكن الأستاذ الوحيد الذي يمكنني الذهاب إليه فعلاً يعالج مواضيع لا تهمني)).

وحول النقطة الرابعة:

((قلما اعتقد أنه يوجد لدينا أستاذ مستعد للاهتمام بمشكلاتي بصورة مكثفة، بالمقدار الذي هو ضروري !)).

 

ربما يكون في كل هذه المقولات شيء صحيح؛ إلاّ أن الأكثر احتمالاً هو أن رفض كل الاقتراحات يمكن عزوه إلى أنها تمس المستويات الخاطئة. إذ أنه يمكن أن يتعلق الأمر بالكيفية التي يمكن بها للطالب أن يأتي بها إلى جلسات السيمينار، وإنما ما الذي يمنعه من عدم الرغبة في الحصول على الاستمارات.

لم يقم المرشد المتمركز حول المتعالج في هذا الموقف بطرح أية مقترحات أخرى كما وأنه سوف يفهم الرفض العفوي لكل إمكانات حل المشكلة كتصريح واضح للطالب حول نفسه؛ إن سعيه التعاطفي لفهم هذا التصريح ربما سيقود إلى المحاورة - المُمَثْلَنة - التالية:

المرشد ((إنك ترفض كل مقترحاتي؛ الواقع إنك يائس ولم تعد تؤمن بإمكانية قدرتك على إنهاء جلسات البحث بنجاح)).

المتعالج: ((لا، ليس لذلك بالفعل أية فائدة؛ حتى عندما أحصل على استمارة في جلسة بحث، ماذا بعد ذلك ؟)).

المرشد: ((ألن يخفف ذلك عنك شيئاً))

المتعالج: ((أجل، وهكذا علي أن أعذب نفسي حتى نهاية الدراسة))

المرشد: ((ألا يجعلك الأمل بإنهاء الدراسة أكثر تفاؤلاً ؟))

المتعالج: ((لا، إذ ماذا سيحصل بعد ذلك؟ بطالة ! وحتى عندما أجد عملاً فلا أعتقد بأنني سأكون سعيداً ضمن ظروف العمل هذه بالنسبة لعامل في الخدمة الاجتماعية))

المرشد: ((إذا كنت قد فهمتك جيداً فإنك في الواقع لا تريد هذه المهنة أبداً ؟))

 

تعقب الطالب والمرشد في هذه الجلسة ((ما الذي يعيقني ؟))، وأمكن بالنتيجة بالتعاون مع المعالج اكتشاف أنه في الواقع قد رغب دائماً بدراسة الفيزياء - حيث حصل في هذه المادة على نتائج جيدة باستمرار وحظي بسبب ذلك باهتمام كبير من والده الذي كان من جهته يتمنى لو كان فيزيائياً - إلاّ أنه على أساس من التزامه السياسي شعر بأنه من واجبه أن يحقق أهدافه في مهنة اجتماعية. بالإضافة إلى ذلك تهيأ له بأنها خيانة لو أنه كان قد التزم بنشاط مضاد للمفاعلات النووية ودرس في الوقت نفسه اختصاصاً مرتبطاً يرتبط بصورة وثيقة مع ((التقدم)) الذي يقاومه. ولهذه الأسباب كانت رغبته بدراسة الفيزياء قد ((ضاعت)) بشكل كامل؛ ولم تنسجم مع مفهومه عن ذاته ومن هنا كان عليها أن تُزال من الخبرة المقبولة، إذا  كان لها ألاّ تهدد باستمرار وجود مفهوم الذات.

فإذا  أمكن جعل الرغبة الأصلية للطالب واضحة ثانية، وأمكن كذلك تقبل هذه الرغبة، فإنه سوف يتمكن عندئذٍ من أن يستبين لنفسه في محادثاته اللاحقة مع المرشد فيما إذا كان من المناسب أن يكمل دراسته في الخدمة الاجتماعية (ربما بهدف دراسة الفيزياء فيما بعد والبحث لاحقاً عن مجال عمل يستفيد فيه من معارف كلا المجالين)، أو فيما إذا كان من الملائم القيام بالتبديل الفوري لدراسته.

إن وظيفة إدارة المحادثة المتمركزة حول المتعالج التي عرضت هنا هي وظيفة تعقب المشكلة وجعل المعنى الحقيقي للمشكلة واضحاً للمتعالج وبهذا فتح الطريق لإمكانات الحل المناسب.

وتوجد إمكانية خاصة لتعقب المشكلة بمساعدة الموقف المتمركز حول المتعالج في أن هذا الموقف ينمي إدراكاً وفهماً لردود أفعال المتعالج على إمكانات الحل المتوفرة أو المقدمة من المرشد. فعندما يفهم المعالج - كما في هذا المثال - أن دفاع المتعالج ضد اقتراحات الحل ليست شيئاً غير التأثير الغامض لرغباته غير المقبولة من قبله ذاته (لأنها تهدد مفهوم ذاته)، وعندما يفهم المرشد من خلال ذلك هذه الرغبات ويساعد المتعالج على فهم وتقبل هذه الرغبات أيضاً، فإن عدد الأفكار والرغبات والأحاسيس المتوفرة لدى المتعالج سوف تكبر، وعندئذ تصبح الأفكار والقرارات الجديدة ممكنة على هذا الأساس الأوسع.

إلاّ أنه يندر أن تحل المشكلة بحد ذاتها مع مثل هذه الخطوة اللاحقة من إيضاح مشكلة باحث عن الإرشاد. إذ يمكن لطالبنا هنا أن يعاني من اضطرابات تركيز أيضاً، و وأن يكون قد لاحظ عدم القدرة الغريبة هذه في عدم التمكن من الحضور بصورة مبكرة لجلسات السيمينار . ويمكن لهذا أن يعني: أنه على الرغم من أنه قد أدرك بأنه يملك رغبة دراسة الفيزياء إلاَ أنه يشعر بشكل ثابت، وإن كان الأمر في البداية على شكل أعراض، بأنه يرفض بشدة أن يكون شبيهاً بوالده، ويرفض تنمية رغباته طبقاً لذلك. عندئذ كانت هذه المشكلة ستشكل كاشفاً للمعالجة النفسية. وبغض النظر عنا إذا كان المرشد نفسه كفواً لذلك وقادراً (زمنياً من ناحية مهمته) على إجراء المعالجة النفسية بنفسه فعليه هنا طرح فاعلية المعالجة النفسية التي تتمثل في:

ظهور أن مشكلة الطالب هي مشكلة نفسية ويجب توقع حل المشكلة من خلال إزالة عدم الانسجام بين مفهوم الذات والخبرة الذاتية، وأن يظهر مجرى الإرشاد أن المتعالج يستطيع الاستجابة لعرض علاقة المرشد المتمركز حول المتعالج (قارن الفصل V).

 

[1] يبدو أن المشكلة عامة؛ وهناك محاولات بشكل خاص لتسليح الخدمة الاجتماعية الفقيرة بالنماذج النظرية وإرشادات السلوك الملموسة باستخدام أساليب علاجية كما يتضح ذلك في كتاب هوفمان 1977 تحت عنوان ((الطرائق العلاجية في الخدمة  الاجتماعية)).