العلاج الأسري الإيجابي

العلاج الأسري الإيجابي

من المقدمة

  1. ما هو العلاج الأسري؟

عندما يتتبع المرء المنشورات الحديثة فإنه سوف ينشأ لديه الانطباع وكأن العلاج الأسري اختراع جديد من المطبخ الكيماوي للعلاج النفسي: مشكوك فيه باعتباره انحراف عن الأساليب العلاجية الراسخة، مثير للإعجاب باعتباره اكتشاف جديد لعلاج الأمراض النفسية، معروض باعتباره أسلوب خاص لعلاج الأطفال.

إن المعنى التقليدي للعلاج الأسري ضيق جداً. إنه يعني أنه في المواقف العلاجية لا يتم العمل مع أشخاص منفردين وإنما مع مجموعة، تتضمن على الأقل الأب والأم وطفل. إلا أن هذا لا يمثل في المواقف العلاجية إلا جزء واحد فقط من الحياة اليومية للعلاج النفسي الأسري.

غير هذا الأسلوب يضع لنفسه حدود ضيقة، إذ أنه ماذا لو لم تعد الأسرة الأصل موجودة، أو إذا لم يكن أفراد الأسرة مستعدون للدخول في إجراءات علاجية، أو إذا ما كانت التوترات الأسرية شديدة إلى درجة أن الأسرة لا تريد أن تجتمع تحت سقف علاجي أسري واحد.

لهذا سنحاول ألا نفهم العلاج الأسري مجرد فئة علاجية خاصة، وإنما هو عبارة عن أسلوب تفكير، يتلاءم مع الإنسان كمخلوق اجتماعي. فعندما نتحدث عن علاج أسري فإننا نقصد العلاج الذي يشمل من حيث إمكاناته في قطبي العلاج الفردي و العلاج البيئي، الذي يتمحور بشكل أساسي حول الأسرة و الظروف الأسرية.

 

  1. ماذا يعني العلاج الأسري؟

يستمد العلاج الأسري التقليدي تصوره عن الإنسان من علم النفس المرضي. ومن هنا فإن موضوعه المرض. و هدف العلاج لديه هو التغلب على هذه الأمراض، بشكل يشبه إزالة عضو مريض الجراحة. وعلى الرغم من أنه بهذه الحالة يتم في بعض الأحيان إزالة المرض إلا أن  هذا لا يعني أن الصحة قد عادت. 

والمريض يتعلم هنا أول ما يتعلم: ليس من حقي أن ألجأ للعلاج إلا إذا كنت مريضاً. فينزلق الاضطراب أكثر نحو مركز الصدارة. وبهذا تضيق الإمكانات العلاجية بشكل أكبر.

وترجع هذه الأحادية إلى ظروف تاريخية-ثقافية. ويمكن التقليل منها إذا ما كنا مستعدين إلى التفكير بنماذج أخرى من التفكير، التي تعطي لمفاهيم المرض أهمية مختلفة و تقدم طرقاً بديلة من العلاج.

فعلى عكس الأسلوب العرضي و العلاج النفسي التقليدي الذي لا يهتم إلا بالطفل، الذي انزلق في الساقية، يفترض للعلاج الأسري الوقائي أن يكون بالضرورة علاجاً أسرياً "إيجابياً" فهو يراعي إلى جانب المجالات المضطربة القدرات الكامنة في الفرد والأسرة. و الإيجابي يعني هنا حسب معناه الأصلي (في اللاتينية Positum) الحقيقي، القائم. والحقيقي والقائم ليس بالضرورة الصراعات والاضطرابات وإنما القدرات التي يحملها الإنسان. ومن المنظور العلاجي يهمنا هنا بشكل خاص القدرة على تمثل الصراعات و المساعدة الذاتية.

فمن أجل فهم سلوك ملحوظ نحتاج إلى معلومات عن الخلفية التي وحدها تعطينا مقياساً للحكم اللاحق. وهذا يعني مراعاة الظروف عبر الثقافية والظروف التي تمنح السلوك في تاريخ الحياة الشخصي معناها. و نؤكد على الخلفية الاجتماعية النفسية التي تنبثق منها الديناميكية النوعية للصراع، ونحاول توسيع نظرتنا لمفاهيم المرض و إكماله استناداً إلى الإمكانات العلاجية الجديدة. فالإجراء الإيجابي يعني أننا نطمح إلى تحقيق شمولية واسعة حول إمكانات تفسير عرض ما أو صورة مرضية، بهدف التأثير على فهم مرض أسرة مريضة و الفهم الذاتي لهذا المرض و من ثم ضبط التداخلات المزعجة من المجال قبل الطبي:

  • يذهب المبدأ عبر الثقافي من أن العلاقة بالمريض تختلف من ثقافة إلى أخرى. ومن ثم فإنه تنجم أيضاً فروق فيما يتعلق بضغط المعاناة و التقويم الشخصي للمرض.  كما وتختلف تصرفات الأسرة والمجتمع تجاه المريض وذلك ارتباطاً بالإطار الثقافي.
  • تدلنا النظرة التاريخية لمفهوم المرض إلى أن الاتجاهات السائدة في مجتمعنا اليوم نحو الأمراض و الناس المرضى نفسياً ليست بديهية و من ثم فهي ليست ضرورية، كما قد تبدو الأمر للوهلة الأولى. فتطور مفهوم المرض يتجلى في التعامل مع المرضى ومن ثم أيضاً في الإمكانات التي يمكن فيها لأفراد الأسرة أن يؤقلموا أنفسهم فيها معه.
  • يتضمن التصور الفردي للمرض مفهوم مرض الإنسان الفرد. ولا يمكن فهمه إلا من خلال التطور الشخصي و المنظومة الأسرية المرجعية.

وتعتبر هذه النسبانية relativize  لمفهوم المرض مهمة بالنسبة لديناميكية الأسرة بشكل خاص. ففيها يحتل المرض وظيفة محددة. إنه يسهم بشكل جوهري في العلاقة بين أفراد الأسرة. وهنا يحتل شكل المرض، سواء أكان نفسياً أم نفسياً جسمياً أم ذهانياً أم جسمياً، أهمية ثانوية.

وبعد ذلك نسأل كيف يتم تقويم وإدراك الاضطراب أو المرض الواحد  في الثقافات الأخرى، كيف يتعامل الناس الآخرون من الثقافة نفسها والأسرة مع المرض أو الاضطراب، ما هي الأهمية الخاصة التي تمتلكها الصراعات بالنسب للشخص نفسه، وما هي المحتويات التي تقوم عليها.

لنفترض أن فتاة تريد الانفصال عن منزلها وتعاني من صعوبات في ذلك مع أمها. فتنشأ صراعات نمطية بين الأجيال ومخاوف انفصال وعدوانيات و مشاعر ذنب كتعبير عن أزمة ثقة تؤثر على كلا الفريقين. ويمكننا التخفيف من هذا الأسلوب في الاستجابة من خلال سؤالنا لأنفسنا كيف يمكن لأم وابنتها من محيط ثقافة أخرى، في الشرق مثلاً،  أن تتعاملا مع موقف مشابه. كما ويمكننا السؤال كيف يتعامل الأفراد الآخرون من الثقافة نفسها، بل حتى الأم وابنتها في وقت آخر، مع المشكلة نفسها. وأخيراً نسأل أنفسنا ما هي الأهمية التي يمتلكها مثل هذا الانفصال بالنسبة للأم و الابنة و ما هي المحتويات التي تقوم عليها الصراعات (التوفير، النظام، الجنسية، الثقة، اللباقة، الدقة..الخ)، ما هي الوظيفة التي يحتلها الصراع في تطور العلاقات الأسرية، وبهذا ما هي المزايا الإيجابية التي يستجرها للمشاركين بالصراع. وهذا الإجراء ينهي الطريق العصابي ذي الاتجاهين لبنية التواصل و يمنح كلاهما، الأم والبنت الاستبصار في علاقاتها و إمكانات حل المشكلة.

 

  1. إرشادات للقارئ

يصف كتاب العلاج الأسري الإيجابي في الفصل الأول أهمية الأسرة والطرقات والطرائق القائمة حتى الآن  في العلاج الأسري. ونحاول هنا الابتعاد عن الاتجاه الأضيق للعلاج الأسري و تقديمه هنا كطريقة من طرق التفكير العلاجي.

ويدور الفصل الثاني حول وسائل العلاج الأسري الإيجابي، الذي يمثل أساس العمل العلاجي.

  • يقول الأسلوب الإيجابي: يمتلك كل إنسان مجموعة من القدرات؛ كل اضطراب و مرض يحقق للمعني و محيطه الاجتماعي وظائف محددة، وهذا يعني: إنه يمتلك صفات إيجابية. من العرض نصل إلى الصراع.
  • تتيح الأشكال الأربعة لتمثل الصراع مدخلاً إلى تصور المرض المنادى به حتى الآن.  فإذا ما اعتبرنا أشكالاً أحادية الجانب من تمثل الصراع على أنها إطار متضيق من الواقع، فإن هذا النموذج يتيح لنا ضبط الإطار الواقعي و توسيعه.  
  • تقوم أبعاد-المُثل العليا الأربعة على تاريخ حياة أسرة المريض و تفيد كمدخل إلى رحلة في الماضي.
  • تشكل الكفاءات (القدرات) الأساسية الكفاءات (القدرات) الممكنة (الكامنة) التي يمتلكها كل فرد بغض النظر عن صحته الجسمية والنفسية و وضعه الاجتماعي. إنها أساس العلاقات الإنسانية و المجالات التي يجد فيها البشر أشياء مشتركة بينهم على الرغم من كل الفروق الفردية و الثقافية.
  • القدرات (الكفاءات) الراهنة هي المعايير الاجتماعية النفسية، تعتبر الأسرة ممثلة لها وتمنح أفراد ألأسرة قوانين حياتهم المشتركة. ويتم قياسها في الممارسة العلاجية الأسرية عبر قائمة التحليل التفريقي Deferential analytical Inventory. وتظهر هذه القائمة الظروف الموضوعية للصراعات الفردية والأسرية و الاجتماعية.
  • تمثل أطوار التفاعل الثلاثة نموذجاً من مشكلات العلاقة، التي تتعدل مضمونياً من خلال الكفاءات (القدرات) الأساسية و الراهنة. 
  • تمثل الأطوار الخمسة من العلاج الأسري الإيجابي إستراتيجية علاجية، يمتزج ضمنها العلاج الأسري والمساعدة الذاتية بشكل فاعل. إذ يتم قيادة أسرة المريض  خطوة فخطوة باتجاه المساعدة الذاتية وفق مبدأ: إذا ما احتجت إلى يد للمساعدة فابحث عنها في نهاية ذراعك.

ويهتم الفصل الثالث، "ممارسة العلاج الأسري الإيجابي"في البداية بـ:

  • التصورات التي تمثل التطوير المضموني لمبدأ الكفاءات الراهنة والتي تتدخل في حياة كل إنسان "كدفة موجهة".  وسوف يتم توضيح أهمية التصورات بالنسبة لنشوء الصراع و تمثله واستخدام أدوات  العلاج الأسري الإيجابي عن طريق عرض الحالات.
  • ومن ديناميكية التصورات سنشتق شجرة التصورات التي تتيح إمكانية علاج متعدد الأجيال.
  • و يدور المقطع الأخير من هذا الفصل حول التصورات عبر الثقافية التي يمكن من خلالها استقراء ديناميكية نشوء الصراع بشكل واضح، و الذي يمثل بالنسبة للقارئ استثارة نحو تجريب نماذج تفكير بديلة.

إن الأسلوب الذي أعرضه هنا يتطابق في بنيته الأساسية مع الطرق التي اتبعتها في كتبي، العلاج النفسي الإيجابي والعلاج النفسي في الحياة اليومية و التاجر والببغاء.

وهنا لم أتطرق إلى الأساس النظري في العلاج النفسي الإيجابي، بل أني حاولت نقل أدوات العلاج النفسي الإيجابي على موضوع العلاج الأسري و تعميق الأفكار النفسية-العلائقية الأسرية المميزة للعلاج الأسري الإيجابي.  وهذا يتفق أيضاً وقناعتي أن العلاج الذي لا يراعي الخلفية الأسرية بشكل مباشر أو غير مباشر يفقد إمكانات علاجية جوهرية.

لم يكن للكتاب نصيب من الظهور دون الأسرة التي ترعرعت فيها ودون الأسرة التي أسميها "أسرتي". وهنا أود أن أشكر زوجتي السيدة مانيجي Manije و كذلك ولدي حامد و ناويد،  والذين ستثيرونني دائماً في إعادة التفكير باستمرار في مفاهيمي و موقفي. وشكري الخاص لزميلي  ديتر شون المتخصص النفسي، لملاحظاته النقدية وعلى تعاوننا المثمر عبر السنوات الذي أسهم بالكثير في ظهور هذا الكتاب.

كما أود أن أشكر زميلي المتخصص النفسي هانس دايدنباخ (معالج سلوكي) لملاحظاته النقدية على المخطوط و اقتراحاته التعديلية.

لقي كتابي هذا تشجيعاً وإشرافاً من معلمي السيد فيللي كولر الذي ساعدنا باستمرار لإيجاد المعيار الصحيح.

سكرتيراتي السيدة كريغر و كيرش و شولتزه ساعدني دون كلل أو ملل في العمل الكتابي الدقيق للمخطوط.

وكان للجو الخلاق الذي أمنه لي المشاركون في مجموعة خبرة فيسبادن العلاجية النفسية و أعضاء الجمعية الألمانية للعلاج الإيجابي الأثر الكبير بالنسبية لي. لقد قدموا لي تصوراً مدهشاً حول الكيفية التي يمكن فيها للأعضاء المنتمين لتخصصات علاجية مختلفة و ممثلي المؤسسات الاجتماعية المختلفة و الممارسين في الحياة اليومية الأسرية أن يتعاونوا من خلالها سوياً وبشكل إيجابي.

نصرت بيسيشكيان Nassrat Peseschkian

من الفصل الأول

الفصل الأول

مدخل إلى العلاج الأسري

  1. الأسرة بوصفها جنة ونار

جاء مؤمن للنبي إلياس يسأله عن الجنة والنار، رغبة منه في توجيه طريق حياته وفقاً لهما. "أين النار-أين الجنة؟" بهذه الكلمات تقرب من النبي، إلا أن النبي لم يجب. أخذ السائل من يده و قاده عبر ممرات مظلمة في القصر. وعبر بوابة حديدية دخلا إلى صالة كبيرة. هناك تزاحم كثير من الناس، فقراء وأغنياء، أجساد تغطيها خرق بالية، وأخرى مرصعة بالجواهر. وفي وسط الصالة وضع على نار حامية قدر كبير فيه حساء يغلي، ناشراً رائحته العبقة في الصالة. و حول القدر تزاحم أناس نحيلون و غائرو الأعين، يحاول كل منهم الحصول على نصيبه من الحساء. تفاجأ مرافق النبي إلياس إذ أن الملاعق التي كان يمسك بها هؤلاء الناس كانت كبيرة بحجمهم. و في نهاية الملعقة كان فيها مقبض خشبي. أما باقي الملعقة التي كان محتواها يكفي لإشباع إنسان ، فقد كان من الحديد وكان حامياً جداً من شدة حرارة الحساء. بتهافت شديد غرف الجائعون في القدر. كل واحد كان يريد نصيبه، إلا أن ولا أي منهم حصل عليه. فبالكاد كانوا يستطيعون رفع ملاعقهم الثقيلة من الحساء، ولكنها بما أنها كانت طويلة جداً، فلم يتمكن حتى الأقوى فيهم إيصالها إلى فمه. ومن سخرية القدر كانت الأيدي والوجوه تحترق أو كانوا في طمعهم الجشع يرشقون جيرانهم بالحساء من فوق أكتافهم. فهجموا على بعضهم يتقاذفون الشتائم و تعاركوا بالملاعق.  أمسك النبي إلياس مرافقه بيده قائلاً: "هذه هي النار!" تركا الصالة ومضيا إلى أن لم يعودا يسمعا صوت صراخ الجحيم. وبعد تجوال طويل في ممرات مظلمة دخلا صالة أخرى. وكان يجلس فيها كذلك الكثير من الأشخاص. وفي وسط الصالة تم كذلك وضع قدر يغلي من الحساء. وكان كل واحد من الموجودين يحمل الملعقة الكبيرة التي كانا قد رأياها في الصالة السابقة. إلا أن الناس كانوا هنا شبعانين، ولم يكن يسمع في الصالة إلا مجموعة صامتة راضية وصوت الملعقة المغمورة في الحساء. وقد كان الحاضرون متجمعين كل اثنان مع بعضهما. أحدهما كان يغمس الملعقة ويطعم الآخر. فإذا ما كانت الملعقة ثقيلة على أحدهما هب اثنان آخران لمساعدته بملاعقهما، بحيث استطاع كل واحد أن يأكل بهدوء. فإذا ما شبع الأول تبادل مع شريكه الدور. قال النبي إلياس لمرافقه: "هذه هي الجنة!".

هذه الحكاية المتوارثة على لسان العامة التي تعود لآلاف السنين، مأخوذة من الحياة. وهي مفيدة دائماً في كل مرة نرى فيها نزاعات في الأسرة، الخلاف بين الأب والأم، النزاع بين الأولاد و العدوانيات في علاقة الوالدين و الأولاد؛ عندما نتأمل صراع شخص ما مع محيطه و المواجهات بين المجموعات والشعوب. إن "النار" في القصة هو العمل إلى جانب البعض الآخر و ضد البعض الآخر. "والجنة" بالمقابل تقوم على الاستعداد للبناء علاقة إيجابية مع الآخر. كلاهما –الناس في الجنة و الناس في النار- يعانيان من المشكلات نفسها أو من مشكلات متقاربة. إلا أن وجودهما في الجنة أم النار يتعلق بكيفية حلهما لمشكلاتهما. وكل أسرة فيها شيء من النار وشيء من الجنة. وبيدنا إمكانية الاختيار. أما مدى حجم فرصة الاختيار فإنها تتحدد في جزء كبير منها بخبرتنا، التي تعلمنا من خلالها كيفية حل مشكلاتنا و من خلال استعدادنا لاستغلال خبراتنا و منحها للأشخاص الذين نعيش معهم.