البحث عن الهوية في حياة إيريك إيركسون وأعماله

البحث عن الهوية  في حياة إيريك إيركسون وأعماله

من مقدمة الكتاب

لقد انطلق إيركسون دائماً من ثلاثية النفس والجسد والمجتمع مما جعله لا ينظر للإنسان على أنه دمية تحركها مجموعة من النوازع الدافعية ولا حزمة من الأدوار الاجتماعية ولا مجرد مخلوق عاقل موهوب عقلياً. فلا المورثات ولا المنظومة الأسرية «المجنونة» هي وحدها المسؤولة عن الاضطرابات النفسية. إذ أن كل سلوك إنساني، سواء كان سليماً أم مريضاً، يتحدد من خلال عدد لا متناهي من العوامل، أكثر مما يمكن لأية نظرية علمية أن تدركه.

        تطلق على إيركسون تسمية رائد أزمة الهوية. ففرويد قد رأى أن مصدر الاضطرابات النفسية هو الصراعات غير المحلولة في الطفولة إلا أن إيركسون لم ينظر للمشكلات الحياتية وأزمات الراشد بأنها مجرد انعكاس لخبرات ومخاوف الطفولة. ومن ثم فقد وسع نظرية النمو التحليلية النفسية وطرح نموذجاً شاملاً لمراحل الحياة، حيث يواجه الفرد طبقاً لذلك في ثمانية "أزمات" نمائية -منذ الولادة وحتى الموت- مهمات ومشكلات أساسية للوجود الإنساني.

        لقد أظهر إيركسون بمهارة تحليلية فائقة نمو الهوية في كل مرحلة من مراحل دورة الحياة "وأزماتها" المرتبطة بها، وشغلته قضية الاستبداد، وحلل نمو الشخصية الاستبدادية المتطرفة والجذور الطفولية لها، ونمو بذور التعصب الديني وتطوره إلى تطرف مدمر، وركز على المراهقة التي تعد المرحلة الحاسمة في نمو الشخصية المستبدة عندما تتوفر لها مجموعة من العوامل التربوية والمحيطة، مركزاً على اللحظة التاريخية في إظهار وطغيان هذه الشخصيات وتلاعبها بمصير أتباعها المتحمسين "طيبي" النية أحياناً.

        ويمثل الشعور السليم بالهوية التعبير عن الإحساس بالمشاركة، الإحساس بالشعور بالتجذر. فالإنسان يعيش في محيط جغرافي مألوف، في علاقات واهبة للأمن، يشعر بالاعتراف في أدواره. ويرتبط الإنسان مع الآخرين في صورة للعالم تغطي الخبرة الذاتية بما يشبه الشفافية، ترتب عالم الخبرة، وتمنح التوجه والمعنى. ويتحدث إيركسون عن «الإحساس بالاعتراف الاجتماعي»: «الإحساس بأن الإنسان موجود في العصر والمكان المناسبين» وعن الإيمان «باستواء واستمرارية صورة مشتركة عن العالم»، في حين تترافق أزمة الهوية من المنظور النفسي الاجتماعي مع «الإحساس بعدم الأمان وإرهاق الدور والتشرد والاغتراب».

          ويقابل الهوية الفردية، أي هوية الأنا الهوية الاجتماعية النفسية التي تشمل كل انتماءات الإنسان للجماعة، وهذه الهوية تتضمن الكثير مما هو منسجم، ولكن الكثير أيضاً مما هو متناقض ومتنافر. وكل بناء للهوية يعكس محيطاً ثقافياً اجتماعياً وتاريخياً لا يقارن بغيره. وبغض النظر عن المكان الذي يترعرع فيه الإنسان، تنشأ أشكال شديدة التنوع من الكيفية التي يفكر فيها الإنسان حول نفسه ويعيش فيها العالم ويواجه وجوده، وقد صور إيركسون بأسلوبه الأدبي الرائع مدى تشابك هوية الأنا والجماعة، الذي يمتد من جماعات الأنداد الشابة غير الرسمية إلى الجماعات الكبيرة شديدة التنظيم ومن المفهوم البيولوجي للعرق إلى المفهوم السياسي للدولة.

          لم يكن التحليل النفسي الفرويدي بداية معنياً بالمحيط الخارجي كثيراً وإنما انصب تركيزه على إطلاق القوى الخلاقة في داخل الفرد، ولم يهتم إلا في أواخر حياة فرويد بالمجتمع الخارجي كحقيقة قائمة بعد انتشار الأفكار النازية. فأقر فرويد في أواخر حياته –متشائماً- بتأثير القوى المتنوعة للمحيط الاجتماعي، كالعرق، أو الطائفة، ورأى أنه في أوقات الأزمة سرعان ما تنهار الأحكام والضوابط الأخلاقية عند الإنسان تحت تأثير الغوغاء. ووصف الناس "المثقفين والعاقلين" في مرحلة الثورة أو ما قبل الثورة على أنهم أشخاص يمكنهم في أي وقت أن ينتسبوا للحشد أو يمكن أن للحشد أن يسحبهم، فيتحولون إلى ممارسين لذلك الذي كانوا يحاربونه قبلاً. وتجلت مهارة التحليل النفسي في نبش الجذور الكامنة في أعماق اللاشعور للميل نحو العنف والتطرف عند الإنسان وعلاقة كل ذلك بنمط التربية.

          وقدم إيركسون بفكرة التنظيم المتبادل رؤية تحليلية عميقة للعلاقة بين الفرد والمجتمع، ونزوع الأنا والمؤسسات الاجتماعية نحو التنظيم المتبادل وكان الهدف الأخلاقي والتربوي عنده هو دفع كل أشكال العلاقات الإنسانية إلى مزيد من الاستعداد للحوار والتسامح والديمقراطية، والتأثير إيجابياً على العلاقة بين الوالدين والأطفال وعلى التربية وعلى الحركة المدنية. فبين أهمية التطقيس والمنابع الأساسية للطقوس والشعائر. واستناداً إلى ما أظهره التحليل النفسي ومدى قوة سيطرة الميل للاستجابات الاستبدادية على الحياة النفسية للطفل. وميل الراشدين في نوبات غضبهم وأحكامهم نحو النكوص المؤقت إلى أساليب خبرة استبدادية، موضحاً ذلك من خلال أمثلة عديدة من الاضطرابات كالمرضى الحدوديون الذين لا يستطيعون تحمل أي تناقض في علاقاتهم الوثيقة، ويتأرجحون بين تقديس أعمى وتبخيس متطرف للآخرين، في حين يلجأ المتعصبون من كل الأطياف إلى استئصال أشواك الشك الإيماني اللاشعوري من خلال مزيد من الخضوع الأكثر تطرفاً لسلطة مقدسة تقديساً أعمى.

          فعندما تمر الشعوب بفراغ في الهوية يحصل نكوص دائم إلى عوالم استبدادية من الأفكار لدى جماهير واسعة، حيث يتولد فيها الاستعداد للتطرف. وهذا ما يحصل عندما تفقد الثقة بالتنظيمات السياسية القائمة أو تهزم نتيجة الحرب أو عندما ينهار مجتمع لسبب ما فإن الهوية تصبح مزعزعة لدى طبقات واسعة من الشعب. فتمتزج المخاوف الواقعية مع مخاوف الطفولة متحولة إلى مزاج هلع يهدد بالانفجار. فإذا ما أضيفت إلى ذلك الأزمات الاقتصادية فإن الغالبية العظمى من الناس تصبح مستعدة للعدوى بالشعارات التعصبية. فإما أن يميل المرء للدفاع عن النظام المُهَدَّد ضد التحديث، كما هو الحال في العودة إلى الأصولية الدينية. المتعصبة، ويعيش كل العقليات التقدمية على أنها معتد مهدد للمناقب الخاصة التي أصبحت هشة. أو يتلاءم كلية مع اتجاه انقلابي، كما هو الحال في الثورات الدموية للتاريخ، يعد بالخلاص من خلال استئصال متطرف للتنظيمات والسلطات القديمة، إلا أنها في النهاية تعود لتمارس ما كانت تدعي أنها تحاربه. والتاريخ أكبر شاهد على ذلك.

          والمؤسسات الاجتماعية ضرورة مكروهة لتناقضها مع أهداف الفرد وطموحاته، أو بلغة التحليل النفسي لأنها تتناقض مع الأنا، إلا أنها ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. والآلية نفسها التي تنطبق على الفرد تنطبق على المؤسسات. فهي عندما تنشأ وتترسخ تميل مع الزمن إلى الجمود، إلى مولد للحفاظ على ما هو قائم، للحفاظ على مناصب أصحابها، فتتحول من دافع ومحرك لعملية التطوير والتنمية إلى معيق لها ويسيطر عليها الجمود، وتمارس الاستبداد والقهر على أفرادها عبر هرمية السلطة. إنها تصبح فاسدة تمارس الفساد وتنميه، فينشأ تكتل لاشعوري بين أصحاب السلطة فيها، يسعون من خلاله عبر شحذ آليات الدفاع الأولية إلى نوع من التواطؤ في الحفاظ على مصالحهم أكثر من الحفاظ على مصالح المؤسسة بحد ذاتها أو مصالح الأفراد الذين ينتمون لها والذين تمثلهم، فيصبحون هم المؤسسة والوطن، فيبقى الشكل وتضيع الروح. لهذا تقوم المؤسسات الناجحة بالعمل المستمر على تجديد طاقم أفراد إدارتها كل فترة لا تتجاوز السنة أو السنتين وأحياناً أقل لتضمن عدم جمود لمؤسسة في عالم المنافسات الاقتصادية والسياسية والعلمية وعالم المعرفة. ولعل من أسباب الجمود القائم في مؤسساتنا التعليمية وفشلها الذريع، وتفريغها مفهوم الحرية الأكاديمية من معناه الحقيقي، وتخلفها العلمي والإداري هو ذلك الشكل من التنظيم المؤسساتي المولد للجمود، من خلال رسوخ الإدارات المزمن الذي تحولت فيه نزعة الحفاظ على المنصب –نزعة الخوف من فقدان موضوع الأمان الطفولي ونزعة الخوف من انسحاق الأنا الهش المهدد-  إلى الهاجس الذي يقتل كل روح للتطوير والتجديد ويدفع للبيروقراطية وقمع كل شكل من التطوير خوفاً من التهديد بتشتت هوية الأنا الفردية التي تماهت مع المؤسسة تماهياً مرضياً لترى أنها هي المؤسسة والمؤسسة هي، وأنه بزوالها تزول المؤسسة.

          غير أن إيركسون يظل في النهاية معالجاً نفسياً. فعبر مسيرته العملية استنتج جزءاً كبيراً من معارفه من العلاج النفسي. وأظهر أنه ملاحظ لامع وراوي محترف، يعرف كيف يظهر بعبارات قليلة الصراعات المركزية لمريض ما الكامنة خلف الأعراض النفسية المعقدة. وقد قام إيركسون بعمل طليعي في مجال العلاج النفسي للأطفال واليافعين وأدخل مفاهيم مهمة مثل «تشتت الهوية» في علم الأمراض التحليلي النفسي. يضاف إلى ذلك تحليله للأحلام من خلال رؤيتها من منظور الرسام وليس من المنظور اللغوي فأعاد تفسيرها بطريقة أخرى ومن منظور الهوية وأزمتها. لكنه كان رائداً أيضاً في مساهمته من خلال الدراستين البيوغرافيتين على مارتن لوثر وغاندي في تخصص التاريخ النفسي، محاولاً تطبيق نموذجه في نمو الهوية على شخصيتين تاريخيتين يكن لهما إعجاباً صريحاً.

          والمتتبع لسيرة حياة إيركسون، ذلك الفنان والمحلل النفسي الذي لم يكن يحمل سوى الشهادة الثانوية ومع ذلك فقد منح العضوية النظامية في رابطة التحليل النفسي العالمية وكان من أواخر من تم قبوله في جمعية التحليل النفسي من غير الأطباء في الولايات المتحدة الأمريكية ومنح لقب الأستاذية في أكبر الجامعات، وعمل في أرقى المؤسسات العلمية العالمية، والتف حوله الطلاب المتحمسون وكانت فصوله الدراسية مزدحمة، وعاش مع الهنود ودرس سيرة شخصيات تاريخية ونادي بالسلم العالمي وكان ضد العنصرية والفقر وذلك الباحث في دورة الحياة وأزماتها، رائد مفهوم الهوية وتشتتها وأزماتها في علم النفس، الباحث عن الجذور الأخلاقية للسلوك الإنساني ونمو الضمير، والذي درس الميول التعصبية والاستبدادية والسطوة التي تمارسها على الشخصية، وميوله الإيمانية والسلمية التصالحية التي صبغت شخصيته الخجولة طوال عمره لا يمكنه إلا وأن يشعر بذلك الجانب الإنساني العميق الذي صبغ شخصية إيركسون طوال حياته وأن يكن له الاحترام والتقدير لإسهاماته الغنية والواسعة، كإنسان وعالم، كما لابد له أن يلاحظ أيضاً مدى ارتباط السيرة الذاتية لإيركسون بمنهجه العلمي، ورسمه لدورة الحياة.

          لقد ترافقت الترجمة بشحنة انفعالية إيجابية كبيرة مست المترجم تركت أثرها فيه عبر فصول الكتاب كله وذلك من خلال الأسلوب الرائع الذي عرض فيه المؤلف سيرة إيركسون وأعماله، وطبيعة سيرة حياة إيركسون كلها، وإنجازاته العلمية ومواقفه الشخصية، ويأمل المترجم أن يكون قد تمكن من إيصال جزء من تلك الشحنة عبر الترجمة والتي لا يمكن عدها على الإطلاق على أنها نقل مجرد من لغة إلى أخرى بل هي عصارة فكر وإحساس والتزام رافق المؤلف عندما كان يعمل على الكتاب.  

          يعتقد البعض أن كتب السير الشخصية لا تثير اهتمامات القراء،- اللهم إلا إذا تعلق الأمر بالفضائح والبحث عن الإثارة للشخصيات الهامشية- وبعض دور النشر أو المؤسسات لا تتشجع على الدخول في مثل هذه المغامرة كثيراً. إلا أن الأمر حين يتعلق بالهوية وأزمة الهوية، ومراحل دورة الحياة، منذ الطفولة وحتى نهاية الحياة، والأزمات التي تترافق مع كل مرحلة، وظهور الاستبداد في الشخصية وميول التعصب والتطرف بنتيجة هذه الأزمات في المراهقة وظهور الشخصية الديماغوجية والكاريزمية في اللحظة التاريخية وتأثير سطوة الأنا (السلطة الداخلية والسطوة الخارجية (سلطة المجتمع)، لا يستطيع على الإطلاق المرور على كل هذا من دون أن يفهم سيرة حياة إيركسون الشخصية منذ الطفولة وحتى نهاية الحياة. ومن هنا فلا يمكن تجنب ربط السيرة الشخصية مع دورة الحياة عند إيركسون. فهما يتداخلان بصورة شديدة ليتحول الشخصي إلى علمي، أو ليشهد تحويل التجربة الشخصية إلى منهج علمي، قلما استطاع باحث استثماره بهذه المهارة.