كيف يمكننا تشكيل الهويات في مجتمع الاستهلاك؟ How Do We Form Identities in a Consumer Society?

08/05/2019 10:15

كيف يمكننا تشكيل الهويات في مجتمع الاستهلاك؟

How Do We Form Identities in a Consumer Society?

Rami Gabriel Ph.D[1]                      

ترجمة أ.د. سامر جميل رضوان

العالم معقد هذه الأيام. لقد وصل الأمر إلى درجة أنه حتى وجود الذات بحد ذاتها قد أصبح  أمراً صعباً. ففي كتابه بعنوان "ماذا عني In What About Me؟ يزعم عالم النفس الإكلينيكي  بول فرهاغي بأن الكفاح  من أجل الهوية في مجتمع قائم على السوق (Scribe، 2014)، أننا نعبر عن مجتمع الاستهلاك في بناء عن هوياتنا الفردية.

يعتقد بعض الناس أن مجتمعنا الليبرالي الجديد يتيح الحراك الاجتماعي والتوسع الاقتصادي. ويصور فرهاغي Verhaeghe ذلك على أنه شكل من الداروينية الاجتماعية: فمن خلال خلق صراع من أجل إشباع لا يرحم، فإنه يديم عدم المساواة الطبقية وتَشَبُع الذات self-absorption على حساب المصالح الجماعية.

وفي حين أن مفهومنا عن الهوية قد قام حتى الآن  بشكل أساسي على البنى الأسرية وشمل التقاليد الاجتماعية والأخلاق والقواعد والقيم، فإنه يرى أننا في المجتمع الرأسمالي المعاصر نعكس [نعبر  عن] علاقات التبادل الاقتصادية بفعالية وذلك من خلال تعاملنا مع الهوية كمنافسة اجتماعية social competition. وفي حين أن السؤال الملح ماذا عني؟    قد نجح  حتى الآن في إثارة القضية الملحة المتعلقة بكيفية ارتباط هياكلنا الاجتماعية وأمراضنا الاجتماعية بهوياتنا، غير أنه بعض السياق الإضافي ضروري لفهم عملية تكوين الهوية في مجتمع قائم على السوق.

ماذا عني What About Me؟   كتاب لباول فرعاغي Paul Verhaeghe يتناول  "الكفاح من أجل الهوية في مجتمع قائم على السوق" ويعد أحد تلك الكتب التي تتيح، من خلال إقامة روابط بين ظواهر مميزة على ما يبدو، رؤى جديدة مفاجئة حول ما يحدث لنا ولماذا ".

حسب تعبير جورج مونبيوت  من صحيفة الغارديان.  فوفقًا للتفكير الحالي ، فإن أي شخص يفشل في النجاح يجب أن يكون لديه شيء ما خطأ. إن الضغط من أجل إنجاز أو تحقيق شيء ما والسعادة يتطلب خسائر فادحة، مما يؤدي إلى رؤية مشوهة للذات والارتباك والتشتت واليأس وصعوبات التوجه. لقد أصبح الناس أكثر وحدة من أي وقت مضى. تعمل عقلية الأجر مقابل الأداء pay-for-performance mentality اليوم على تحويل المؤسسات كالمدارس والجامعات والمستشفيات إلى شركات - حتى الأفراد يُجبرون على التفكير في أنفسهم على أنهم مؤسسات مكونة شخص واحد. وأصبح من الصعب العثور على الحب، ونحن نكافح من أجل أن نعيش حياة ذات معنى.

في ماذا عني؟ ، يكمن اهتمام بول فرهاغي في كيف أدى التغيير الاجتماعي إلى هذه الأزمة النفسية وغيرمن طريقة تفكيرنا في أنفسنا. إنه يبحث في تأثيرات  30 عامًا من الليبرالية الجديدة، وقوى السوق الحرة، والخصخصة، والعلاقة بين مجتمعنا المبني وهويتنا الفردية. ويتضح أن من نحن، كما هو الحال دائمًا، يتحدد حسب السياق الذي نعيش فيه.

ومن خلال خبرته الإكلينيكية كمعالج نفسي، يُظهر فيرهاغي التأثير العميق الذي يحدثه التغيير الاجتماعي على الصحة النفسية للإنسان، حتى أنه يؤثر على طبيعة الاضطرابات التي نعاني منها.  غير أن كتابه ينتهي بملاحظة التفاؤل الحذر. هل يمكن أن نصبح مرة أخرى أسياد مصيرنا؟ Can we once again become masters of our fate?

إضافة من المترجم

 

لماذا أشتري؟

لتعميق شعورنا بعملية الانعكاس المتطابق mirroring process هذه، أقترحُ أن  الهوية الذاتية في الغرب تتألف من ثلاثة أجزاء:

1. جانب ميتافيزيقي – شيء ما مثل الروح أو الجوهر

2. توجه اجتماعي – وهو في حالتنا، التفرد Individualization

3. جانب عملي - تركيزنا على التعبير عن انفسنا.

والمجتمع الاستهلاكي عبارة عن خليط من عناصر الهوية تلك. إنه يوفر منتجات تسمح لنا بالتعبير عن جوهرنا الفردي. ومن هنا فإن حاجتنا النفسية الطبيعية التي تتمثل  في تحديد من نحن وإلى أي فئة من الفئات الاجتماعية  ننتمي هي التي توجه علاقتنا بالاستهلاك.  وتتجلى هوياتنا في العشائرية tribalism الاستهلاكية أو القبلية الاستهلاكية، ذلك أن  العلامات التجارية [الماركات] تقوم بتصنيفنا حسب الفئة أو العرق أو الجنس أو العمر، إلخ. ويصبح الذوق الفردي هو المحدد الرئيسي لهويتها (Gabriel, 20013).

الهوية في عالم مادي Identity in a Material World

المراهقة هي الفترة التي تتشكل فيها الهوية الفردية. فمن خلال التفاعلات الاجتماعية، نكتشف المكان الذي ننتمي إليه، ومن هي مثلنا العليا، وما هي تطلعاتنا. ومن هنا فإنه ليس من المستغرب أن تحتل العلاقات الاجتماعية الأهمية القصوى في هذه المرحلة. فالمراهقون يراقبون   باستمرار كيف يراهم الآخرون، وذلك حسب الطريقة التي يودون فيها أن يراهم فيها هؤلاء الآخرون. ويرى عالم النفس إريك إريكسون أن فرط اجتماعية المراهقة hypersociality of adolescence   ظاهرة إنسانية عالمية تتضمن مراحل منها على سبيل المثال، تعليق الهوية dentity moratoriums يتاح فيها للمراهقين "تجربة" مجموعة من الأدوار الاجتماعية  وطقوس العبور (مثل سن البلوغ أو المرة الأولى التي يسكر فيها المراهق...الخ) والتي تمهد لمعابر الهوية.

وعبر المجتمع الاستهلاكي، فإن الأفراد يقومون بتشكيل هوياتهم جزئيًا من خلال ما يشترونه. ويمكننا ملاحظة هذه العملية والمشاركة فيها من خلال الوسائط التي تستخدم في الغالب كطرق لبناء الهوية: من الإسقاطات في الوقت الفعلي real-time projections (تويتر Twitter وسنابشات Snapchat) إلى لوحات التخطيط Sketchpad: (انستغرام  Instagram وفيسبوك Facebook) ومنصات المشاريع والشركات   corporate platforms (LinkedIn لينكدإن وباندكامب Bandcamp)، ومنصات التعارف الشخصية (بامبل  Bumbleو تندر Tinder). ويبدو أن هذه المنصات توفر مستوى عالياً من التحكم للمستخدم للانخراط في بناء الهوية الإبداعية والعرض الذاتي. و يجادل البعض بأن الغرور والتفاهات  في وسائل االتواصل الاجتماعي بالاقتران مع  الملذات السهلة للنزعة الاستهلاكية قد ساهمت بالفعل في توسيع مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ. وعلى الرغم من أنه من الصحيح أن الإنسان يعرض  نفسه دائماً للآخرين –سواء من خلال اختيار زوج من الجوارب في  الصباح أو من خلال جيرانه الذين يعيش بينهم-    إلا أن درجة التحكم الممكنة على المنصات الافتراضية تبدو غير مسبوقة في نطاقها الشامل وسعة إسقاطاتها. في السابق كان يمكن معالجة  مسألة التعبير الشفهي أو الدعاية والسمعة والهوية على وسائل التواصل الاجتماعي  بدقة كبيرة. فنحن يمكننا أن نعمل كإعلانات لأنفسنا.

مسارات بناء الهوية

هناك العديد من المزالق المحتملة في هذا الصراع من أجل الهوية.

بداية عندما نفكر في سيكولوجية المراهقة، من الواضح أن هناك منابع واضحة من انعدام الأمن ومشاعر عدم الكفاية نابعة من نقص متصور (وحقيقي) في القوة.  مدفوعًا بما يصفه فرهاغي Verhaeghe  بأنه أساس الليبرالية الجديدة في المنافسة والانفصال، قد تتجلى حالات عدم الاستقرار [عدم الأمان]  هذه في الرغبة في أن يكون الفرد متفرداً. ومن ثم تنشأ محفزات قوية ليكون الفرد متفرداً في نوعه بغض النظر عن الوسائل. فإذا لم تكن الدقة والتمثيل الشفاف كافيين، فيمكن للمرء أن يلوي عنق الحقيقة على منصات وسائط تواصل مجهولة [غفلية]؛ وهذا نفاق  قد يؤدي إلى الخداع، وتضخيم للذات، والوعي الخاطئ. وبطبيعة الحال فإن منصاتنا الإعلامية لا تسمح بالأدلة التصحيحية للتجربة والخبرة.

وبالطبع، يمكن أن يكون الناس غير شريفين في الطريقة التي يقدمون بها أنفسهم شخصياً أو على المنصات الافتراضية، ولكن في التفاعلات المباشرة، لا يمكن التحكم في كل التفاصيل؛ فنحن محاصرون ومكشوفون في أدغال الواقع. وبالنسبة لبعض الأفراد ، قد يؤدي الاعتماد على سلامة وسهولة الهوية الافتراضية إلى تجنب التفاعلات التي تتم وجهاً لوجه، والتي هي في النهاية أكثر صعوبة وتحفيزًا للقلق.

وقد لاحظنا في الوقت نفسه  كيف برهن لعب الأدوار على منصات التواصل والداروينية الاجتماعية للمجتمع الاستهلاكي قدرتهما على خلق أو تعزيز الهوية العشائرية. فيتم تعزيز  تحفيز الهوية والانتماء ويشعر بعض الأشخاص بمزيد من الأمان، ولكن هذا يأتي على حساب توسيع التصدعات الموجودة بالفعل في المجتمع المدني. لا تبحث أبعد من تصلب غرف الصدى[2] echo chamber السياسي في الولايات المتحدة.

في النهاية  فإن البشر حيوانات اجتماعية بغض النظر عن  المجتمع الذي ينتمون له، سواء كان مجتمع التفتيت التفردي atomization للمجتمع الاستهلاكي أو المساواة  الجماعية للدول الاشتراكية. تعكس التكنولوجيا الضرورة الاجتماعية لتزوير الهوية بالنسبة للأشخاص المحيطين بك. وهنا يتساءل المرء كيف تعكس الهوية فشل النظم المجتمعية وما هي أشكال الاغتراب التي يمكن أن تنمو في وسطنا.

 


[1] Posted Apr 05, 2019 Psychology Today

[2] "Echo - chamber" أو غرفة الصدى.. وهو اسم استعاري وكناية عن تضخيم حدث أو معلومة أو فكرة أو معتقد وتسليط الضوء عليه وإظهاره للعامة حتى ما تتوجه نحوه.. وهو ما تصنعه الإعلانات غالبا حتى الآن.. فأنت ترى الإعلان مائة مرة في الساعة، على جميع القنوات، وبألوان مبهرة، وكلمات شديدة الثقة والتأثير فتجرى لتشتري المنتج؛ أو هكذا يظن صناع الإعلان. ولطالما تم استخدام غرفة الصدى في تاريخ الأمم وحاضرها ونجحت كثيرا جدا عندما تمت صناعتها بحرفية وذكاء وباستخدام عنصر بشرى كاريزمى يساعد في نجاحها.. فإذا أضفت لغرفة الصدى صوت قادة الرأي، والوجوه التي تثق الشعوب في إخلاصها وحماسها واستقامة فكرها، تيسرت مهمة غرفة الصدى وسارت الشعوب في طريق متحد.. وغالبًا ما كان ينتج عن نجاح غرفة الصدى أن يبدو المعارضين في حجم أقل حتى وإن كان لرأيهم وجاهته. كان هذا في الماضي القريب.. أما الحاضر المختلف تماما ففيه مئات الألوف من غرف الصدى على الإنترنت.. كل شخص يستطيع دونما أدنى تكلفة أن يصنع غرفة صدى بصور حقيقية أو مزيفة، ومقاطع فيديو كاملة أو مبتورة، وبكلمات صادقة أو مأجورة، وباستنتاجات ذكية أو غبية.. وفى كل الحالات ستجد من يصدق غرفة الصدى التي أنشأتها ويتبعون آراءك البناءة أو الهدامة.. كما ستجد من يهاجمك أيضا فى الحالتين. العجيب أن الإعلام الاحترافي لم يعد يختلف كثيرا عن صناع الميديا الهواة على شبكات التواصل الاجتماعي.. والسؤال هو: هل خفتت أصوات الميديا القديمة لأن الانترنت هزمها، أم لأن صناعها فقدوا استقامة الطريق والمهنية ووضوح الرؤية وسيطر عليهم اتجاه ريح الأموال والتمويل؟ هل صار قادة الفكر المشهورين من أمثال الإعلاميين والكتّاب ونجوم التوك شو أقل تأثيرا على الناس وبخاصة الشباب، لذا صارت غرف الصدى الذين يظهرون فيها بلا صوت ولا صدى؟ وهل أصبح الشباب العاديون الذين لهم قنوات على اليوتيوب وينتقدون الأحوال اليومية أكثر نجومية ولفتا للنظر وقربا لواقع المجتمع، فأصبحت غرف الصدى التي يصنعونها أعلى صوتا وأكبر صدى؟

 

 

للخلف