المشاعر من وجهة النظر البيولوجية العصبية

18/10/2013 11:08

المشاعر من وجهة النظر البيولوجية العصبية

Gabriele Ehlers & Stephan Ehlers

أ.د. سامر جميل رضوان

قلما يمكننا تصور وجود الحياة من دون مشاعر. ولكن ما هي المشاعر؟ ولماذا هي مفيدة؟

يقول إيريك كاندل الباحث في الدماغ والحامل لجائزة نوبل: "إن أمتع فرع من فروع البحث في أيامنا هذه هي بيولوجية الانفعالات (العواطف)". أما أنطونيو داماسيو أحد علماء العصبية  الذي اشتهر  بأبحاثه حول الوعي  فيرى أن الانفعالات هي المُخرِج الخفي" لحياتنا اليومية. والثابت أن: الانفعالات (المشاعر، العواطف) ليست موروث حيواني للتطور يمنعنا من إيجاد الطريق للحكمة و المنطق، بل أنها مفيدة جداً، إذ أنها تحفز القرار الصحيح والسلوك –إلا أنها يمكنها إذا ما تم تفسيرها بشكل خطأ أن تعيق الإنسان من إيجاد هذا الطريق.

 الظاهر أن تيارات كهربائية تمر بسرعة كبيرة داخل شبكة ضخمة من العصبونات. لنتذكر ما تقدمة لنا حواسنا الخمسة من الخارج، وتعيد توجيهه أو تحويله، وتربط خلايا، وتغير من ارتباط المشابك و موجات التنبيه. كل ما نفكر به ونحسه ونحبه أو نكرهه ينطلق من دماغنا. إلا أن هذه القدرة الفريدة في الطبيعة –الإحساس بالمشاعر- توقعنا في مآزق في كثير من مجالات حياتنا أو تضعنا أمام مهام تبدو غير قابلة للحل.

فلتتخيل الموقف التالي: أنت مدير مشفى ولديك مناوبة ليلية ويأتيك اتصال بحصول حادث سير فيه عشرة مصابين بإصابات خطيرة وهم في طريقهم إليك بسيارات الإسعاف وليس لديك إلا ستة أسرة فارغة و غرفتي عمليات و طبيبين مناوبين. فأي المرضى تجري له عملية أولاً؟ الأطفال أم الراشدين، كبار السن أم اليافعين؟ وكيف سيكون قرارك لو اكتشفت فجأة أن زوجتك بين المصابين وابنتك البالغة خمس سنوات؟ وبغض النظر عن القرار الذي ستتخذه في مثل هذا الموقف فإن الأمر مستحيل من دون مشاعر (عواطف) وهذا لا ينطبق فقط على المواقف المتطرفة وإنما على كل المواقف في حياتنا، أي على المهنة.

نحن نمتلك قاعدة بيانات إنذار عاطفية

وحسب ما يرى أحد باحثي الدماغ المشهورين في مجال الانفعالات جوزيف لي دوكس Joseph LeDoux،  فإن المثيرات الانفعالية (العاطفية) تستثير عمليتين في الجهاز العصبي المركزي، وكلاهما لهما منبعهما في التالاموس إلا أن كل منهما يتخذ بعد ذلك مساراً مستقلاً.

1-  العملية الانفعالية Emotional Process

تعد اللوزة المسؤول الرئيسي عن التوجيه الانفعالي. والتوجيه الانفعالي هو مطابقة المثير مع أنماط عامة من المثيرات من أجل التصنيف كخطير أو غير خطير.  ويطلق لي دوكس على هذا الطريق تسمية "سريع وقذر  Quick and Dirty". ووظيفته التحضير للاستجابات السريعة (كالهرب) و هو عرضة للخطأ.  فالتصنيف هنا لا يتم على أساس نمط تنبيه مولود وإنما متعلم. فاللوزة تتولى نمط منبه مرتبط بالخبرة.  وبالتالي فهي ذاكرتنا الانفعالية.

2. العملية الاستعرافية Cognitive Process

 

يطلق لي دوكي تسمية التوجيه الاستعرافي على العملية الثانية. ووظيفتة التحكم بالمعلومات التي يتم اكتسابها عن طريق التوجيه الانفعالي،

وهو توجيه مستهلك للوقت (يستغرق وقتاً طويلاً).  وتبدأ هذه العملية في التالاموس وتمر باللحاء ما قبل الجبهي  وكذلك عن طريق مسار جانبي عبر تلفيف حصان البحر. فما الذي يعنيه هذا بالنسبة للممارسة العملية: فعندما نتعلم على سبيل المثال أن نخاف من شيء ما، أي يتم ترسيخ مثير انفعالي يتم تشكيل ارتباطات جديدة بين مجموعات محددة من الخلايا في دماغنا. وتطلق على مثل هذا النوع الحوادث التعلم الإشراطي.  وتكون نتيجة حادثة التعلم هذه عندئذ الشبكة المشروطة.  ويطلق لي دوكس على هذه الشبكة المشروطة تسمية التجمع الخلوي cell assembly.

وبالتالي فإن هذه الروابط الخليوية، أي التي تشكل ذاكرة المثير المتعلم، هي بمثابة السجلات لما تعلمناه ، إنها شيء يشبه قاعدة بيانات الإنذار.

وكما تظهر الدراسات العلمية فإنه يمكننا تعلم فك هذا  الارتباط بين الروابط الخليوية والسلوك. وعلى الرغم من أن المثير يستمر بتنشيط مجموعة الخلايا إلا أن الارتباط بينها وبين السلوك الانفعالي ينقطع –على الأقل إلى وقت معين-.

فقد نخاف إلا أننا لن نهرب. كما  يمكننا تعلم قطع الارتباط بين المثير والمجموعة الخليوية التابعة لذلك الأمر الذي تكون نتيجته عدم ظهور الشعور بالأصل. ومع ذلك تظل التجمعات الخليوية باقية. ومن هنا فإن قاعدة البيانات لا تمحى وبالتالي أيضاً فإن إمكانية الارتباط ثانية بين المثير والاستجابة تظل قائمة.  وهذا ما يم

كن أن يحصل على سبيل المثال في حالات الضغط. فيتم تنشيط المثير ويعود ثانية للاتصال بالتجمع الخليوي وتنفجر الاستجابة الانفعالية ثانية.  وكل هذا ممكن ولكن جهازنا العصبي لا يسهل علينا عملية تغيير ألا نستجيب بطريقة انفعالية.

بكلمات أخرى: ذلك صعب جداً ويحتاج إلى جهود كبيرة لقطع الارتباطات بين تجمعات خليوية خاصة بنوع معين من الانفعال والاستجابة الانفعالية. ويزداد الأمر صعوبة هو أن قاعدة بياناتنا الإنذارية الانفعالية هي عبارة عن جهاز يتم باستمرار إدخال البيانات فيه، فهو عبارة عن جهاز مفتوح، ولكن ليس من السهولة بمكان استبعاد المعلومات التي تكون قد دخلت به. فجهازنا الانفعالي مبرمج بناء على طريقة تصميميه البيولوجية على تخزين المثيرات وليس على إزالتها. 

كما أن الانفعالات لا تخضع لدائرة تحكم عصبية ثابتة. فلنترك لبرهة مستوى الخلايا ولننظر ما الذي يحدث على المستوى، الأعلى، أي الباحات الدماغية عندما يغمرنا الغضب مثلاً. عموماً هناك ثلاثة جهات مسؤولة عن ذلك.

1. تقوم أجزاء من جذع الدماغ والدماغ الأوسط بتنظيم وضعنا الدافعي وغرائزنا. وهذه الأجزاء تمثل أساسنا الدافعي إن صح التعبير، الذي تقوم عليه مشاعرنا. إ

ضافة إلى أن حالة الاستثارة العامة لعضويتنا موجودة هنا.  ويعتقد أن حالة الاستثارة المعنية تحدد مدى شدة غضبنا.

2. تنشأ في الجهاز اللمبي انفعالات مثل الحنق أو الغضب. فهي تنشأ هنا بداية كاستجابات عفوية لاشعورية على مثيرات معينة. كما يشمل الجهاز اللمبي الهيبوتالاموس –وهي بنية دماغية لا تبلغ نسبتها سوى 1% من دماغنا ككل، إلا أنه يمارس تاثيراً كبيرة على انفعالاتنا (مشاعرنا) و لديه ارتباط وثيق بالغدة النخامية Hypophysis . ويتحكم الهيبوتالاموس وبالارتباط مع الغدة النخامية، والتي هي أهم غدة هرمونية لدينا، ي بتفاعل مواد استثارتانا الجسدية. ومن خلال ذلك تتدخل عضويتنا بشكل فجائي في بعض الأحيان في الهجوم: إذ تسبب هنا هرمونات التوتر كالأدرينالين ارتفاع ضغط الدم وتسرع نبضنا بشدة، وتتحسن تروية بعض الأعضاء بالدم ويتم تأمينها بمواد مغذية، ويقف شعر رأسنا.  كما تؤثر هرمونات أخرى ونواقل عصبية في الغضب والحنق. فالنورادرينالين يؤثر كالأدرينالين–وكذلك الدوبامين - بشكل خاص على اليقظة والاستثارة . و بهذه الطريقة يتهيأ جسدنا خلال ثوان قليلة على موقف مثير للغضب مثلاً. كما يعمل الجهاز اللمبي على أن يتناسب تعبيرنا مع الخبرة الانفعالية، والتي ينعكس على شكل نغمة الصوت والإيماءات والتعابير.

3. اللحاء أو القشرة Cortex ويحتل أعلى مرتبة في تمثل الانفعالات. فهو يجعلنا ندرك المثيرات الحسية بشكل واع وهو مسؤول عن العمليات الاستعرافية كالتفكير والكلام. ويلعب هنا اللحاء الجبهي دوراً خاصاً في خبرتنا الانفعالية. ويرجع الفضل لهذا اللحاء الجبهي في أننا قادرين على كبح حنقنا أو  نزوعاتنا الغاضبة .  فعبر مخنا نكون قادرين على توجيه استجاباتنا الانفعالية. 

الانفعالات هي خبرات محفوظة (مخزنة)

تلعب المشاعر دوراً مهماً آخر في سياق اتخاذ القرارات الصحيحة والخاطئة. فإلى أي مدى تكون القرارات التي نتخذها منطقية أو انفعالية أو كليهما؟ 

في تسعينيات القرن العشرين بين أنطونيو داماسيو بشكل مثير بأن القرارات الإنسانية والتخطيط طويل الأجل و المتابعة المثابِرة للبرامج ترتبط مع منظومة تقييمنا الانفعالية، وتندرج ضمنها. فقد استنتج على سبيل المثال بأن بعض المرضى بأمراض عصبية يتخذون قرارات خاطئة بشكل منتظم  على الرغم من وجود ذاكرة عاملة و ذكاء جيد لديهم.  ولا يستطيعون تحويل  الاستبصار المنطقي إلى سلوك مطابق. والسبب هو التقييم الانفعالي في اللحاء ما قبل الجبهي. فإذا غاب هذا التقييم الانفعالي مثلاً على أساس اضطراب ما، فإن المعنيين يتخذون قرارات غير منطقية، ويفتقدون للذاكرة الانفعالية بالنسبة لمواقف باكرة شبيهة والتي تمثل جزءاً مهماً من ذخيرة خبرتنا.  فالانفعالات وإلى جانب المحكات التي ناقشناها سابقاً، عبارة عن خبرات محفوظة.   ووفق نظرية داماسيو (نظرية التحديد الجسدي Theory of somatic Marker ) فإنه يتم تعليم (تحديد) كل خبرات الإنسان انفعالياً . فإذا اتخذ هذا الشخص قراراً فإن هذا التعليم يتيح عندئذ إجراء تقييم لاشعوري سريع للموقف المعطى.  أما الناس الذين لديهم تضرر في اللحاء ما قبل الجبهي فلا يمكنهم الاعتماد على التعليمات الباكرة ومن ثم عليهم تقييم كل موقف من جديد.

فالانفعالات إذاً هي شيء أساسي للتفاعلات البين إنسانية والتصرفات. ومن دون انفعالات سنفقد كلية الأساس لحياة يومية موفقة. بكلمات أخرى: انفعالاتنا (مشاعرنا) تحدد بشكل كبير ما نحن عليه وما نفعله.

 

للخلف