الصدمة والتحليل النفسي

10/08/2013 10:37

الصدمة والتحليل النفسي

توماس آوختر Thomas Auchter

محلل نفسي من آخن

أ.د. سامر جميل رضوان

1. ما المقصود "بالصدمة"؟

يقصد "بالصدمة" أمران مختلفان. أولاً يقصد بمفهوم "الصدمة" –وهي كلمة إغريقية Trauma، أي الجرح أو الإصابة-جرح أو اضطراب روحي شديد، ويستخدم ثانياً في وصف حدث أو خبرة صادم وحيد (حاد) أو متكرر (مزمن). ويمكن لهذه الخبرة أو الحدث أن تكون على سبيل المثال الموت المفاجئ لشخص قريب أو إساءة معاملة مستمرة لطفل ما. وعليه يتم تعريف الصدمة ذاتياً وموضوعياً على حد سواء. وما نواجهه اليوم لدى المرضى بوصفه "اضطراب ما بعد الصدمة" PTSD هو عبارة عن محاولة روحية، لاشعورية بشكل خاص من المعنيين لتمثل الصدمة فيما بعد والوصول بشكل من الأشكال إلى نوع من التوازن الروحي.

2. كيف يظهر الانصدام؟

هناك من حيث المبدأ نوعان من الاستجابات المختلفة على خبرة صادمة. الأولى تقود إلى تبلد كلي في المشاعر، فيبدو المعنيين بلا مشاعر كلية أو تظهر استجابة معاكسة، حيث تخرج المشاعر عن السيطرة ويحصل فيضان في المشاعر ويتصرف المعنيون على سبيل المثال بشكل "هيستيري" أو "مجنون".

وطبقاً لنوع الاستجابة نلاحظ على الجانب الأول في المستوى السلوكي الجمود والشلل والفتور apathy وعلى الجانب الثاني نجد النشاط المفرط والذي يعتقد أنه يهدف إلى إحداث تأثير معاكس قوي لمشاعر اليأس وقلة الحيلة والخوف المرتبطة بالانصدام. إذاً يمكننا أن نميز بين شكلين أساسيين مختلفين من تمثل التأثير الصادم، أحدهما تعبيري Expressive ، عدواني أو حتى ذهاني، والآخر يتصف بالانسحاب الداخلي والتعكر الاكتئابي ("الحزن الصامت silent grief"). فقد قالت لي إحدى مريضاتي المصدومات مرة "أنا أبكي إلى الداخل". حتى أني أقيم هذا الشكل الثاني على أنه الأسوأ لأنه يترافق مع شلل حركي ونشاطي يائس، في حين أن الأعراض العدوانية-الضاجة تبدي على الأقل بقية من قوة التأثير المشحونة بالأمل. وهذا شبيه بما هو عند الأطفال: فالمعانون "بصمت" يستحقون اهتمامنا الخاص بدلاً من النظر إليهم على أنه تسهل رعايتهم easy-care.

وليس من النادر أن يقود شلل الخوف إلى اضطرابات نمائية شديدة وانتهاء بتوقف النمو. فبعد حرب كوسوفو تمت ملاحظة أطفال كان عليهم أن يشهدوا مشاهد مهولة، لم ينطقوا بعد ذلك لأشهر عدة بكلمة واحدة.

وعادة ما يتم بداية كبت الخبرة الصادمة في اللاشعور ودفنها بعمق في أغوار الروح. وتتنوع كثيراً عندئذ المواضع التي يعود فيها المكبوت للظهور ويحاول فيها التعبير . وهي عملياً تشتمل على طيف "الأعراض النفسية" كلها. وسأذكر بعضها فقط على سبيل المثال: أرق، كوابيس، سلس البول، مص الأصابع، البكاء المستمر، سلوك مؤذ للنفس، "جرح الذات"، فقدان الشهية العصبي، انسحاب اكتئابي وميل متطرف للتعلق. وكذلك العدوانية تجاه الآخرين وشذوذات سلوكية من كل الأنواع واللجوء للمواد المخدرة، كالكحول وعقاقير أخرى وأخيراً كل الأعراض الجسدية الممكنة كالصداع وأوجاع البطن والإقياء وفقدان الشهية.

3. ما هي العواقب النفسية للانصدام؟

الحدث الصادم هو عبارة عن حدث يقع خارج الخبرات الإنسانية المألوفة ويتجاوز حدود القدرة على التحمل النفسي. وتقود شدة مشاعر الهلع والخوف والألم والعجز واليأس وقلة الحيلة –كقلق الموت على سبيل المثال- إلى أن آليات الدفاع والتلاؤم الخاصة بجهاز التمثل والمواجهة العامل في العادة لدى الفرد تصاب بالإنهاك وتنهار. ويصاب جهاز التنظيم النفسي، وبشكل خاص في وظيفته والتي تتمثل في إعطاء الخبرات الإحساس والمعنى ("ما يسمى وظيفة الترميز") بالاضطراب أو بالعطب أو العطل أو قد يتدمر كيلة في الحالات المتطرفة. ومن خلال هذه الهزة ألأساسية يخرج الإنسان عن اتزانه، فيصعب عليه الحفاظ على بنيته الداخلية متماسكة. وتتضرر قدرته على مواجهة واقعه. ويصبح إحساسه الكلي بذاته مهتزاً، ويتم تمزيق و خرق حدوده الذاتية ومن الممكن أن يقود هذا في النهاية إلى مرض نفسي تطلق عليه تسمية "الاضطراب الحدودي". فالتعرض المتطرف للتهديد في موقف صادم، عند الجنود في أفغانستان، يضع الناس من أجل الدفاع في حالة من التوتر والاستثارة الشديدين. وبعد انتهاء الخبرة الصادمة الأساسية تستمر هذه الحالة النفسية من الإنذار والاستعداد المستمر للدفاع الذي يستمر لفترة طويلة يعيق المصدومين من العودة للحياة العادية.

ويعد ما يسمى بالتفكك أو الانقسام واحداً من السمات المميزة للناس المصدومين. وهذا يعني بأن المحتويات النفسية الأساسية تتفكك عن بعضها. وعليه تنفصل على سبيل المثال صور ومشاهد الخبرات الصادمة عن المشاعر المرتبطة بها ويتم تخزينها في الدماغ في مكانين منفصلين وبعيدين عن بعضهما. وبالنتيجة يحصل ظهور لهذه الصور بشكل مفاجئ أو مستثارة من خلال "مثيرات مفتاحية" ("قادحات") أمام العينين من دون أن يستطيع الإنسان عمل أي شيء ضد هذه الصور (ما يسمى "بالارتجاعات flashbacks")، نهاراً أو ليلاً في الكوابيس أو في لحظات أخرى انغمار بحالات من المشاعر غير المفهومة وغير المعقولة أبداً، كنوبات الهلع أو نوبات بكاء غير قابلة للتسكين والتي لا يمكن تصنيفها شعورياً تحت أية صور تخيلية على الإطلاق.

الخبرات الصادمة تجعل الناس في الغالب بكماً، وتؤذي قدرتهم على التعبير عن أنفسهم بكلمات، وصياغة المعاش بعبارات (قارن Laup,2000)، يصبح غير قابل للتعبير عنه (لايمكن التعبير عنه). الصدمة تعقد اللسان. إذ أن الصدمة تؤذي أو تدمر –كما أشرنا- القدرة على الترميز (قارن Bohleber,2000)، الذي هو شرط للإخبار اللغوي. الخبرات الصادمة تصبح غير مترابطة، "بلا معنى" (إذ ليس لها بالفعل أي "معنى")، "تُحفَر" بالجسد، لا يمكن دمجها في الإحساس الواعي بالذات وبالعالم، وغالباً ما يتم تغليفها إلى حد ما وتبقى عندئذ "جسداً غريباً" في أنا-نفس الإنسان ego-Self of human. وغالباً ما قد تجد هذه الخبرات المُخَلَّفة[1] engram جسدياً أو التي لا يمكن التعبير عنها بكلمات أو كليهما معاً طريقها التعبيري في الأعراض الجسدية.

يضطر الناس المصدومين، على الأقل في البداية إلى كبت خبراتهم والتي هم غير قادرين على تحملها روحياً، كي يستمروا في الحياة، إلا أن الصدمة لا تختفي إلا من الوعي وليس من الوجود. بل على العكس الصراعات النفسية غير المحلولة والصدمة غير المتجاوزة تلح في الشعور على التعامل معها (المعالجة). ويمكن لهذا أن يتجلى على سبيل المثال في التكرار اللاشعوري، القهري إلى حد ما، الهدام، وفي كل الأعراض النفسية الجسدية والعصابية الممكنة. إنها تشير إلى أن هناك في الروح شيء ما ليس على ما يرام. وعلى عكس آثار العنف الجسدي فإنه من الصعب جداً تحديد جراح العنف الروحي (Herman,1993) ، ومع ذلك فهي تظل موجودة لفترة طويلة ل بل طوال العمر أحياناً. وليس بالضرورة للإنسان أن يعيش خبرة الصدمة بشكل مباشر، وإنما يمكن أيضاً للمشاهدة اليائسة-المستسلمة للأذى أو القتل لشخص آخر أن تحدث أثراً صادماً.

4. العلاج النفسي التحليلي للانصدامات

مازالت الصدمة تحتل في التحليل النفسي دوراً على درجة كبيرة من الأهمية سواء عند مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد أم في بناء النظرية على حد سواء. وأود هنا فقط الإشارة إلى المفاهيم التي استخدمت "عصاب الحرب" أو خبرات العنف الجنسي. وللأسف فإن هذه المواضيع "كالعنف في الحرب" و "العنف الجنسي" شائعة في الانصدام كما كانت منذ الأزل، وأجد أن مصطلح "العنف الجنسي sexual Violance" أوضح من مصطلح "سوء الاستخدام الجنسي[2] Abuse"، الذي شاع استخدامه كثيراً. إذ أن هذا المصطلح غامض، حيث يوحي بأنه يوجد استخدام "جيد" واستخدام "سيئ للطفل أو المتعلق.

عالج المحللون النفسيون منذ البداية الناس المصدومين بطرقهم ومازالوا حتى اليوم يقومون بذلك بصورة بديهية.

وبما أن الانصدام، كما أشرنا، يمكن أن يتجلى من خلال الأعراض والاضطرابات المختلفة فلا بد بداية من عدم استبعاد وجود انصدام لدى جميع المراجعين الذين يلجئون إلينا. لهذا فلا مناص دائماً من عمل مقاربة دقيقة وحذرة تساعد على تجنب تجدد الصدمة في الجلسة الأولى وفي الجلسات التجريبية اللاحقة للتحضير على المعالجة.

وبعض المرضى يكونوا عارفين بانصداماتهم، عندما يأتون إلينا في الجلسة الأولى، وبعضهم الآخر لا يكون واعياً أبداً بخبرته الصادمة، إلا أنها من الممكن أن تظهر للضوء بشكل جزئي حتى في الجلسات التجريبية، وبعض الانصدامات الأخرى لا تظهر في الوعي إلا في مجرى عملية المعالجة التحليلية النفسية الطويلة. الصدمات يمكن أن تظل قابعة خارج الوعي لفترات زمنية طويلة، بل حتى لعقود، كما هو الحال في انصدامات الحروب.

وتهدف المعالجة التحليلية النفسية للمرضى المنصدمين إتاحة الفرصة لدمج الصدمة في الشخصية أو على قول الفيلسوف البولوني ليتسك كولاكوفيسكي: "الحياة على الرغم من الماضي".

في وصفي النموذجي للطريق العلاجي سأعتمد في أفكاري على المحلل النفسي البريطاني دونالد وينيكوت Dobald W. Winnicott لعلاج المرضى المتأذين نفسياً بشدة وعلى بعض الخبرات في علاج المرضى المصدومين.

الخطوة الأولى والأساس الذي لابد منه لكل الجهود العلاجي هو خلق علاقة علاجية موثوقة ومانحة للأمان وصادقة بين المريض والمحلل النفسي. فلابد من ترسيخ إطار علاجي آمن، يمكن ضمنه في لحظة معينة يحددها المريض أن يتحدث بالصيغة التي يراها مناسبة عن خبراته الصادمة. الشرط لهذا هو ألا يخاف المحللون النفسيون بشكل مفرط من العنف و الآثار النفسية للخبرات الصادمة. شجاعتهم وسعة أملهم فيما يتعلق بمواجهة الصدمة يمكن أن تمثل بالنسبة للمرضى مثالاً وحافزاً على المجازفة في البدء بالتوضيح الذاتي. ومن بين الشروط في ذلك القبول غير المشروط للمريض والاعتراف غير المشروط بسردهم، أي برواية انصدامهم. وتقتصر التدخلات في البداية إلى حد كبير على الرواية –قبل أي تأويل (واسع). غير أنه لابد في بعض الأحيان اتخاذ موقف واضح من الحدث. وأتذكر هنا مريضة تم إجبارها وهي طفلة صغيرة على القيام بأفعال جنسية من قبل زوج أمها، واعداً إياها بألا يضرب أمها. وكان استنكاري العفوي: "لقد ابتزك"، ضرورياً في هذه اللحظة ومفيداً للمريضة.

ويسهم في الضمان العلاجي كذلك إخبار المريض في كل وقت وبشكل صريح وواضح قدر الإمكان حول العملية العلاجية والخطوات اللازمة للعملية. كما تفيد بشكل عام المعلومات التوضيحية حول الانصدام وعواقبه الداخلية كي يتمكن المريض من تنظيم وفهم خبرته بشكل أفضل. وكثيراً ما أمكن من خلال ذلك إلى حد ما تخفيض قلقهم "غير المفهوم".

وهذا الجو "الداعم" يتيح للمرضى بعدئذ وبالسرعة الملائمة لهم –والمرضى المصدمين لديهم في الغالب وعلى الرغم من كل "لخبطتهم" إحساساً موثوقاً جداً "بالتوقيت Timing"، أي بما هم قادرون على فعله- "العودة" إلى الخبرة أو الخبرات الصادمة وإلى ما قبل الصدمة (ما يسمى بالنكوص). وفي الخطوة التالية يتم الاقتراب من الصدمة: "على المريض العودة بمساعدة صدمة النقل إلى الحالة التي كان قد وصل إليها قبل حصول الصدمة الفعلية" (Winnicott,1974, P. 275).

ويعد الوصول إلى الصدمة و إعادة إحيائها –المتكررة ربما- في حماية العلاقة العلاجية الجزء الأخطر والأكثر حساسية و جرحاً من العملية العلاجية. إذ أن المريض يشعر بأنه بلا حماية وعاجز ومستسلم وقليل الحيلة، كما كان عليه الحال في الصدمة الأساسية، وربما تصح مقارنته بالحيوان الذي يبدل جلده الآن. ومن المفيد أحياناً الإيصال للمريض بشكل واضح بأن خوفه "من ألا يتحمل" "أن يضيع في الذكريات" أو "ألا يكون قادراً على التوقف عن البكاء" أو ما يشبه ذلك، هو خوف طبيعي، إلا أنه غير مبرر، إذ أنه بالمقارنة مع الموقف الصادم الأساسي الذي كان فيه مستسلماً وعاجزاً وضعيفاً وصغيراً ومن دون مساعدة فأن الوضع اليوم يختلف بوضوح: فالمريض لم يعد ذلك الطفل وإنما هو راشد وليس لوحده وإنما بمرافقة معالجه. وأحياناً أستخدم صورة أننا نمسك يد الطفل ونقوده إلى الجانب الذي يقف فيه هو كراشد والجانب الآخر أنا كمعالج.

ويتيح الشعور النامي الجديد للمريض عندئذ أن يجد المدخل إلى مشاعر اليأس والاستسلام والحزن والخيبة والغضب والحنق والعداوة والثأر و التي تم كبتها في الموقف الأساسي لأسباب متعلقة بالبقاء. وأحياناً قد يقود ذلك إلى أن الصادم قد –أو لابد له من أن- يواجه فعله التدميري بهذه أو تلك الطريقة –يتحدث كل من ليونهارد شينغولد (Leonhard Shengold,1989) وأورسولا فيرتس (Ursula Wirtz,1989) بالضبط عن "قتل الروح". ومن بينها التبليغ أحياناً. وفي حالات أخرى على سبيل المثال، إذا كان الجاني متوفياً، لا يكون بالإمكان إلا عمل مواجهة داخلية معه. إن تكرارات الإخفاق الأصلي للمحيط، التي تحدث في أثناء العلاج، والخبرات المرتبطة بذلك من الغضب المقبول تدفع عمليات النضج التي انزلقت في الانسداد إلى الحركة من جديد (Winnicot,1974, P.275) . إن "ذوبان عمليات الحياة المجمدة" يقود إلى النمو من جديد (Auchter,2002).

المهم (بداية) أن يتم إيجاد الكلمات ثانية بالنسبة لما "لا يمكن التعبير عنه inexpressibly"، أن يتم التمكن من "الحديث عن الصدمة". ومن خلال مثل هذا النوع من التحويل الشافي إلى كلمات[3] تصبح شيئاً فشيئاً المشكلات التاريخ حياتية غير المحلولة، إذا ما سار كل شيء على خير، "ماضياً" (Alexander & Margarete Mitscherlich,1977,P.82) . ويمكنها إن صح التعبير "أن توضع نفسياً في الملف للحفظ". وعندئذ تتوقف عن الاستمرار بتغليف حاضر ومستقبل الإنسان بصورة مفرطة وذلك بفضل التفعيل الشافي للقوى الخلاقة.

ويمثل العمل التحليلي مع المرضى المصدومين تحدياً مرهقاً وممتعاً في الوقت نفسه. على المحلل النفسي أن يكون مستعداً وقادراً على الخوض في "صدمة الانتقال". وهذا يعني، وبشكل خاص عندما يتم إيصال العملية إلى "إعادة" الصدمة، أيضاً تحمل "تماهي الجاني offender identification "[4] وعدم صده. ومن المهم جداً النسبة لنجاح العلاج التقبل المؤقت وتحمل والتطرق في الوقت المناسب لما يسمى "بالنقل السلبي". ولا يمكن تجنب "سوء الفهم" بين المحلل النفسي والمريض، وتعاملهما مع ذلك شديد التأثير علاجياً. فإذا ما قادت محاولة التفسير إلى معرفة أن المحلل قد ارتكب خطأ فإنه لامناص من الاعتراف بهذا الخطأ بصراحة وطلب العفو من القلب. "ولسوف يغفر المريض خطأ المعالج إذا ما سار علاجه بصورة باعثة على الرضا بشكل عام؛ أما عدم الصدق (عدم الجدية) أو تمويه الأخطاء فلن يغفرها المريض. فقد عانى المريض في طفولته منها كفاية" (Masterson,1980, P.107).

ومن الممكن أن تقود شدة "النقل السلبي" المعالج إلى تخوم إمكاناته وقدراته. فإذا ما وصل المعالج إلى هذه الحدود عليه أن يحددها بوضوح، لأن المريض المصدوم يعيش الآخر المقابل له كما يعيش نفسه –عاجزاً ويائساً وقليل الحيلة. فالمطلوب إذاً عمل توازني بين "تقبل" العدوانية –المنبثقة من المريض – ولكن من دون أن يسمح بتدميره في وظيفته العلاجية (Winnicott). ولوضع الحدود في الوقت المناسب وظيفة علاجية على درجة كبيرة من الأهمية، وأيضاً كَعَرْضِ تماه  Identification offer بالنسبة للمريض. ومن ناحية أخرى فإن تأمين الحدود يتيح للمحلل النفسي ممارسة ما يسمى "بوظيفته الحاوية Container Function " (Bion). وهذا يعني: "أن المحلل النفسي يستوعب في العملية العلاجية المشاعر الثقيلة للمريض ويعيدها إليه في الفرصة المناسبة في صيغة مُعالَجَة بحيث يكون المريض قادراً على تقبلها" (Auchter & Strauss, 2003, P.52) .

وبما أن العمل العلاجي مع المرضى المصدومين يمثل مهمة متحدية ومنهكة، فإنه من البديهي ألا يقتصر التخصص على مثل هذا النوع من الاضطرابات لوحدها. ومن هنا فإنه لابد من النظر بعين الريبة إلى ما يسمى "بعيادات الصدمة" أو "معالجي الصدمات" الذين لا يعالجون سوى أولئك المرضى.

لايمكن لأي نوع من التحليل النفسي الجيد والموفق أن يزيل خبرة الصدمة من العالم. وأحياناً أستخدم مع مرضاي المصدومين صورة الصدمة "كثقب في الأنا" مزقته الخبرة الصادمة. ويمكن للمعالجة التحليلية النفسية في أفضل الأحوال أن تضيق حواف الثقب قليلاً نحو الوسط، ليصبح أصغر. وعلى كل محلل نفسي يعمل مع الناس المصدومين أن يدرك حدودهم وحدوده كلية.


[1] الخبرة المخلفة: الأثر الباقي في الدماغ من خبرة ما

[2] شاع في العربية استخدام مصطلح الإساءة كمرادف لسوء الاستخدام .

[3] تحويل الخبرة الانفعالية المعاشة إلى كلمات

[4] يقصد هنا أن المريض يرى في المعالج صورة للجاني وتصبح الاتهامات كلها موجهة ضد المعالج.

 

للخلف