السلطة والاضطرابات النفسة

10/08/2013 09:27

السلطة و الاضطرابات النفسية

ترجمة أ.د. سامر جميل رضوان

على الرغم من ارتباط "السلطة" بمجموعة من التداعيات الأقرب للسلبية منها للإيجابية من استغلال السلطة أو إساءة استخدامها أو التعسف والقمع، إلا أن غالبية من هم في السلطة يدركون واجباتهم ومسؤولياتهم ويكونون على قدرها و يشعرون أن كل هذا يكلفهم الكثير من الطاقة الجسدية والنفسية والذهنية.

ولكن ما الذي يمكن أن يحدث لو أن هذه الشروط لن تعد متوفرة، من خلال القصور الجسدي أو الذهني أو النفسي على سبيل المثال، أي تراجع القوى واضطرابها و مرضها؟ ما الذي يحدث لو كان المعني بهذا ليس شخصاً في قمة مؤسسة من أو مؤسسة و إنما في قمة هيئة اتخاذ القرارات لدولة ما؟ فهنا لا بد وأن تكون العواقب وخيمة، وفي حالا منفردة قد تكون مدمرة مصيرياً. و كلما كان النظام أكثر استبدادية  absolutist، أي كان أقل قدرة على اللجوء لإجراءات تصحيحية ضابطة كانت النتائج أكثر جسامة.

ما الذي يعرفه التاريخ منذ العصور الغابرة حتى عصرنا الراهن من أمثلة؟ و ما الذي كان من المفترض أن يتم فعله، وبشكل خاص تصحيحه في الوقت المناسب أو دعمه أو منعه؟ و بشكل خاص من و ما هي المؤسسات و في أي نوع من التراجع الصحي ومن هم المتخصصون؟ وكيف هو الأمر اليوم في الأنظمة الديمقراطية؟

سنقدم فيما يلي بعض الأفكار حول هذا الموضوع مستعينين بأمثلة من التاريخ الحديث.

"لو تمكن المرء من إبعاد "القائد" المريض عقلياً آدولف هتلر من السلطة في الوقت المناسب ليس بالضرورة في عملية اغتيال- لكان قد تم توفير الكثير على ألمانيا والعالم". وعلى ما يبدو فإن هذه التنهيدة التي نسمعها مراراً بمعاني مختلفة لا تثير أية معارضة. والأمر نفسه ينطبق على ج. دبليو تجوغاشفيلي J.W. Dschugaschwili ، الذي من المؤكد أن أحد لم يعد يعرفه تحت اسمه الحقيقي و لكن المعروف في تحت اسم الديكتاتور الروسي ستالين Stalin  الذي أحدث خراباً هائلاً في بلده وبلدان كثيرة أخرى. و يعتقد اليوم أنه كان مريضاً نفسياً كذلك.

إلا أن هناك القليل جداً المعروف عن سياسيين شرفاء ذوي مكانة عالمية من نحو البريطاني تشرشل Churchill و الأمريكي روزفلت اللذان لم يقررا مع ستالين مصير ألمانيا المهزومة فحسب وإنما مصير أمم أخرى، و اللذان كذلك لا يمكن اعتبارهما سليمين (ولكن في عصرهما لم يعدّا كذلك بشكل رسمي، ذلك أن التراجعات في الصحة في ذلك الوقت كان يعد من أسرار الدولة، وعندما ظهرت لاحقاً إلى النور كانت فضيحة إلى حد ما)..

لهذا عبر الأطباء النفسيون و علماء النفس المسؤولين في مثل هذه الأمراض مراراً حول كيفية التعرف إليها في وقت مبكر، و التمكن من تقبله و "تنظيمه" على الأقل بطريقة مقبولة لدى كل من الطرفين، إذ أنه إذا كان شخص ما مريضاً نفسياً و لايتحمل مسؤوليات كبيرة فإن الأمر ليس مشكلة، أما رجل الدولة المزعزع نفسياً أو حتى المضطرب أو المريض فهو بالمقابل مشكلة كبيرة.

ومن المطالعات المفضلة حول هذا الموضوع الكتاب القديم حول "الجنون والسلطة" للانغه-آيشينباوم W. Lange-Eichenbaum، الذي لم يضم في طياته السياسيين فقط، وإنما الممثلين الباكرين للتخصصات المختلفة (الأدب و الفن التشكيلي و الموسيقى والاقتصاد والجيش...الخ). وفي هذه الأثناء انبثق من هذا الكتاب 11 جزء جمعت فيها حتى عصر محدد كل السير الذاتية المرضية Pathograpia ، أي عرض تأثيرات المرض على نمو وإنجاز شخص ما. وأحياناً يتولد لدى المرء الانطباع، على الأقل للوهلة الأولى: هل هناك عظماء في مجالهم، يتوقع أن يكونوا أصحاء نفسياً بالفعل؟ 

قد يكون هذا موضوعاً شيقاً على درجة عالية من الأهمية، إلا أنه علينا هنا أولاً  أن نعالج المشكلة على أساس مساهمة جديدة في مجلة طب نفس المستشفى Krankenhauspsychiatrie   تحت عنوان السلطة و الروح": الأمراض النفسية لدى زعماء الدول، على أساس تاريخي أكثر من المرضي، بما في ذلك الأمثلة المطابقة اليوم.

فهناك تمت الإشارة في المقدمة إلى أنه: "على الرغم من أن التاريخ يعرف أمثلة كثيرة عن الصحة العقلية المتأذية في رؤوس الدول مع عواقب وخيمة إلى حد ما، إلا أن  هذا الموضوع ليس موضوعاً للنقاش العلني نسبياً". لهذا سنقوم فيما يلي بتقديم عرضاً توليفياً.

 

الحافة الضيقة بين المصلحة الفردية والعامة

غالباً ما يجد الأطباء –هكذا يذكر الباحثون-  أنفسهم في دور أمين السر و المطلع من جهة والخبير الملزم بالموضوعية من جهة أخرى. و غالباً ما تكون الحافة بين مصالح الفرد والمصلحة العامة ضيقة. وهذا ينطبق على كل طبيب و بشكل خاص على ما يسمى بالطبيب الخاص للشخصيات الكبيرة، و على الأخص الطبيب الخاص للسياسيين الكبار. إلا أن الأمر يصبح حساساً جداً إذا ما تم تشخيص مرض عصبي، كما كان يسمى في الماضي،  لدى القادة السياسيين، أي وجود اضطراب نفسي يمتد من الزهايمر إلى الاضطرابات القهرية بصورة أوسع مما يمكن للمرء أن يتصوره لدى الجمهور.

و ليس بالضرورة أن يكون مرضاً جدياً. فهناك عدد كبير من الاضطرابات الوظيفية الدماغية، يمكن تفسيرها على أساس السن. إلا أن ما ينبثق عن ذلك عندئذ مشكلات معرفية بشكل خاص Cognition ، أي ما يمكن أن نفهمه عموماً تحت مصطلح الكفاءة العقلية (التعرف، التمثل، الاستنتاج). وهناك مشكلة أخرى  تتمثل في ما يسمى بإدراك الواقع. أو باختصار: هل المعني مازال قادراً على التعرف على الواقع و تفسيره مثلما يقوم به شخص سليم بالمستوى نفسه من التأهيل؟

إنها تلك الخسارة التي على كل إنسان أن يتقبلها في يوم من الأيام عندما يصل إلى السن المناسب. إلا أن السؤال المطروح: هل المعني ما زال يتولى ومهمته المشحونة بالمسؤولية وما الذي يعنيه إذا ما تراجعت قدراته العقلية، وبشكل خاص قدراته على الاستجابة الذهنية، وعندما يضمحل انفعالياً و يبدأ بسوء تقدير الواقع.

و على الرغم من أن الناس في الوظائف القيادية في العادة أكثر خبرة و أكبر سناً ومن ثم أقرب إلى ما يسمى  دفع الضريبة البيولوجية للخسارة المعرفية في الكبر. إلا أن الأمر يصبح إشكالياً بصورة خاصة ليس في تلك المجالات التي يكون  فيها السن تقليدياً متقدماً بشكل فوق الوسط للوصول إلى قمة القيادة سواء كان الأمر سياسياً أم اقتصادياً، فحسب وإنما أيضاً وبشكل أوخم ألا تكون هناك ميزة وجوب أو لزوم الخروج على التقاعد في وقت محدد.  فما الذي يعنيه هذا؟

يمكن صياغة الإجابة بصورة لطيفة، أي لماذا يفترض لأدمغة العسكريين والسياسيين و رجال الاقتصاد أن تكون مصممة بشكل مختلف عن الطيارين والمهن المقاربة، الذين يعفيهم المرء من مهامهم "في وقت مبكر" على سبيل الاحتياط؟ فرؤساء الدول معرضون للطيف نفسه من أسباب الموت و بشكل خاص ساعة الموت مثلهم مثل ي مواطن عادي–بغض النظر عن خطر الاعتداء-  كما نعرف من المراجع المطابقة.

 

أمثلة تدفع للتأمل

  1. واحد من أشهر الأمثلة التي يفترض أن تجعلنا نتأمل على الأقل هو ملك  الدانمرك  كريستيان السابع Christian VII. . هذا الملك الذي جلس في القرن الثامن عشر لأكثر من أربعة عقود على عرش الدانمرك و وأغرق محيطه بالخوف و الرعب، يعتقد أنه كان يعاني –بتشخيص رجعي-  من الذهان الزوري (البارانويا)( من اضطراب هذياني، هذا إذا لم يكن فصاماً) الذي لم يسبب الكثير من المآسي لأن طبيبه الخاص شتروينسي C.v.Streunsee  لم يتعرف على هذه الظاهرة فحسب وإنما استطاع أن  يحيدها مراراً بطريقة علاجية سلوكية، حيث ترقى من خلال ذلك إلى موجه للدولة (وهو ما عجل في مصيره المأساوي).
  2. مثال ثان هو الرئيس الأمريكي توماس و يلسون Thomas Woodrow Wilson  في بدايات القرن العشرين الذي عاني لسنوات طويلة قبل استلامه الحكم من ارتفاع شديد في الضغط يصعب ضبطه مع تأذ عابر في التروية الدموية للدماغ، بحيث كان يتوقع له أن يموت قبل أن يستلم سدة الحكم.

كان ويلسون الرجل الأساسي في مؤتمر السلام بباريس، حيث تم تقرير مصير ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. وحتى في ذلك الوقت لفت النظر إليه من خلال النسيان و التصرف غير المناسب و الحدة كما عانى لاحقاً من سكتة متسعة و شلل نصفي. وقد تم إخفاء ذلك لفترة طويلة، ولاسيما أن زوجته و طبيبه الخاص قد استمروا عملياً بإدارة المنصب وحالا دون أن يتدخل الكونغرس ونائب الرئيس في الوقت المناسب.   

وكل أولئك العارفين بشيء ما من التاريخ الحديث يعرفون أن هذا كان مجرى وخيم العواقب بداية للولايات المتحدة الأمريكية نفسها و لأوربا بكاملها فيما بعد، وبشكل خاص ألمانيا و العالم الغربي كله. فقد قيل بأنه هنا قد تم غرس البذور الأولى للحرب العالمية الثانية، التي مهد لها من خلال المرض الشديد لسياسي بارز، عانى من نتائج ما يسمى بالخرف الوعائي vascular Dementia .

  1. إلا أنه على ما يبدو فإن الأمر الأشد كارثية هو مرض جوزيف فيساريونوفيتش  تجوغاشفيلي Jossif Wissarionowitsch  Dschugaschwili الذي عرف بجوزيف ستالين Josef Stalin  و الذي لم يكن فقط ديكتاتور الإمبراطورية الروسية أو الاتحاد السوفيتي فحسب وإنما حدد أيضاً بشكل حاسم بوصفه شريك مباحثات صلب لزعماء الدول الغربيين (الذين لم يكونوا كذلك سليمين نفسياً وجسدياً) مصير أوروبا الشرقية وأجزاء من بقية العالم و مصير السلم العالمي في العقود التالية –ومتأثراً على ما يبدو بمعاناته الخاصة بصورة مقصودة.

توفي جوزيف ستالين ("الرجل من الفولاذ") في أواسط القرن العشرين نتيجة نزيف دماغي، بعد عدة نوبات  تعطي كلها دليلاً يستحق التفكير على تطور خرفي سابق، أي الضعف العقلي الناجم عن ضعف التروية الدماغية.

إلا أن ستالين كان قد أظهر منذ وقت مبكر الكثير من سمات اضطرابات الشخصية الزورية (الهذيانية) (البارانوئية). و يمكننا تصور العواقب . فهي لم تمس الملايين من الضحايا الأبرياء فحسب، وإنما أحد أبناءه من زواجه الأول و زوجته و عشيقته و على ما يبدو عدة أطباء خاصين. و ستالين لم يطغى على أمته الكبيرة (المجموعة بالعنف من شعوب متعددة) وإنما أرعب نصف العالم و قاد بعد الحرب العالمية الثانية البشعة إلى أن لا يعود سباق التسلح يعرف حدوداً.

و أكثر ما يرعب فيه كانت نزواته، وبطشه و حساسيته المتطرفة تجاه النقد، وسلوكه اللئيم و القاسي تجاه الآخرين و شكه وأناه المتضخمة و تمركزه على ذاته غيرته المرضية -بشكل خاص في زيجاته-. 

  1.  و بما أننا أشرنا في المدخل إلى أنه بالتعاون مع اثنين من رؤساء الدول الآخرين اللذان لم يكونا سليمين نفسياً وجسدياً على ما يبدو، قد قرروا مصير ألمانيا وشرق أوروبا (يالطة 1945)، فإن واحد من أشهر الرؤساء الأمريكيين فرانكلين ديلانو روزفلت Franklin Delano Roosevelt  لم يكن معاقاً بشدة من خلال شلل الأطفال فحسب وإنما كان يعاني منذ سنوات من علامات قصور في القلب مع ضغط دم شديد، وهو ما لم يظل من دون عواقب على قدرته في الإنجاز و بشكل خاص من الناحية العقلية والانفعالية. أما سميّه و أحد سابقيه السياسيين قبل بضعة عقود، الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت Theodor Roosevelt  اعتبر هوسياً، أي كان يعاني من ارتفاع مرضي في المزاج. راجع التفاصيل في عروض الحالات في نهاية هذه المقالة.
  2. و الحليف الثالث في ذلك الوقت كان ونستون تشرشل Winston S. Churchill رئيس الوزراء البريطاني المشهور على مستوى العالم لعبقريته في مجالات عدة، الذي لم يكن نصيبه قليلاً في نصر الحلفاء ضد الرايش الثالث و نبغ من خلال سيرته السياسية الباكرة (و الأدبية كذلك). و هو بدوره كان على ما يبدو هوسياً-اكتئابياً.

ففي أطواره الهوسية (ولحسن الحظ كانت تحدث في الأوقات التي كان المرء بحاجة إليها، أي في أوقات الأزمات الكبيرة لبريطانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية) كان لا يجارى ذهنياً وجسدياً و من ثم سياسياً، إلا أنه في أطواره الاكتئابية كان "على الحافة" لأشهر عدة بل حتى معرضاً لخطر الانتحار. بالإضافة إلى ذلك فقد عانى من عواقب نوبات متعددة و ذلك في آخر أيامه في منصبه. وهذا كله عرف بعد موته، وكان قبلاً أحد أسرار الدولة المحفوظة بشدة، وقاد بعد نشره (من قبل طبيبه الخاص بعد موت تشرشل) إلى فضيحة. أنظر التفاصيل في عروض الحالات. 

  1. أما عن الأمراضية النفسية لأدولف هتلر فهناك الكثير من التكهنات. ومما لاشك فيه أنه كان هناك مرض باركنسون، المعروف أن  له عواقب نفسية أيضاً، وبشكل خاص الاكتئاب مع تعكر المزاج و الانفعال و سهولة التشتت مع التشاؤم و حتى أفكار الانتحار. كما هناك حديث عن التهاب دماغي encephalitis شافي و عن تسمم من خلال "الحبوب المضادة للغاز"، يكمل ذلك تعلق بالأدوية في نهاية حياته. إلا أنه لا أحد يعرف بالضبط، ذلك أنه تم تدمير المذكرات كلها عند الهجوم على برلين وما تبقى لا يعدو كونه إشاعات لا معنى لها حول "أنفلونزا دماغية" لهتلر، وهي التسمية الشعبية في ذلك الوقت لالتهابات محددة في الدماغ (epidemic Econom-Encephallitis).

وكلاهما، التهاب الدماغ و مرض باركنسون يمكن أن يفسرا جزءاً من طبيعة هتلر، ولكن الجزء الأصغر فقط. إذ أنه قد يكمن خلف كل ذلك بنية شخصية محددة كانت تطلق عليها في الماضي تسمية السيكوباثيا، تسمى اليوم اضطرابات الشخصية، وهو ما يتيح عدة إمكانات في تفسير طبيعة هتلر بالذات و ما زال يناقش حتى اليوم بين الخبراء بصورة خلافية. فقد كان في كل الأحوال بالنسبة لألمانيا و العالم كله كارثة.

 

رؤساء الدول في الماضي القريب

لا يستثير التأمل رؤساء الدول في الماضي فحسب، والذين يمتلئ التاريخ بهم عملياً في كل العصور حتى في العهد القديم، و إنما في العقود الماضية القريبة أيضاً.

لقد تم انتخاب الرئيس الفنلندي أورهو كيكونين Urho Kekkonen بعمر يناهز 78 عاماً رئيسياً لفنلندا للمرة الرابعة، ومن المؤكد ليس بدون سبب، فقد كان محبوباً و صالحاً سياسيا إلا أنه اضطر بعد ثلاث سنوات للاستقالة بسبب الخرف Dementia  الذي احتفظ به سراً. وكان قبل ذلك مثالاً للصحة التي لاتبلى. فقد تم تقديس شخصه. فلعقود طويلة جعل بلده سياسياً بعيداً عن الصراع بين الغرب والشرق بسبب الحرب الباردة و لعقود بعد ذلك. إلا أنه في النهاية كان مشتتاً و عاجزاًَ بحيث أنه تم الاعتذار عن اللقاءات الرسمية المهمة بسبب "الأنفلونزا" ناهيك عن المشاهد المخجلة (التي جالت العالم كصور بعد ذلك).

و لايمكن اتهام الناخبين بأنهم في النهاية لم ينتخبوا كيكونين الحقيقي وإنما انتخبوا تصورات رغباتهم عن الملك الذكي والمعافى للأبد. و يطلق علماء الاجتماع على مثل هذا الأمر "الحكم الكاريزمي" الذي يترقى فيه الحاكم بسبب صفات محددة و لاحقاً لايعود أحد يشكك فيه، وكلما طال أكثر، قل الانتقاد. 

وقد قاد هذا لاحقاً إلى أنه على الرئيس الفنلندي أن يقدم تقريراً صحياً كل سنة.

كان رونالد ريغن واحد من أكثر الرؤساء الأمريكيين نجاحاً، على الأقل من الخارج. و كانت ظروف انطلاق جيدة لأن سابقه الرئيس جيمي كارتر ظل باهتاً خارجياً وسياسياً، مع العلم أنه حصل على جائزة نوبل للسلام بسبب تدخلاته النزيهة أخلاقياً وسياسياً. و قد قدم ريغن نفسه بوصفه قد كان في السابق ممثلاً محبوباً، ليس فقط في أدوار الكاوبوي، في تلك الصورة المثالية التي ربما لا يأخذها الأمريكان على محمل الجد بشكل كبير، و لكن يحفظونها في قلوبهم في الواقع، ألا وهي صورة "الفشار" الناجح ، سواء في الحياة اليومية أم في السياسة.

و حتى بعد الاعتداء عليه في عام 1981 و عملية سرطان الأمعاء في عام 1985 مع ضرورة تناول الأدوية القوية المسكنة للألم والمهدئة لم يسلم مهامه إلى نائبه، إلا فيما ندر. إلا أن الأطباء و علماء النفس و الصحفيين يتساءلون اليوم فيما إذا كانت قد تراجعت قدراته العقلية في ذلك الوقت. إذا أنه لاحقاً، أي بعد انتهاء مدة رئاسته ظهر بنفسه في وسائل الإعلام و أعلن أنه يعاني من خرف الزهايمر، هو خطوة مثيرة للإعجاب لأنه بهذه الخطوة قد "نزع" عن هذه المعاناة الوصمة ومن ثم نزع جزء من الخجل عن كثير من المعنيين و أقاربهم. 

و قد تطول القائمة في عصرنا الراهن، بدءاً من الأمراض الجسدية مع عواقب نفسية واجتماعية نفسية وصولاً إلى الهذيان المثير، من نحو أنور حوجة Envar Hodscha الدكتاتور الألباني على سبيل المثال، وإن كان لا ينتهي الأمر في الدولة (الغربية الديمقراطية) الحديثة كما هو الحال لدى الملك لير، في الدراما المشهورة لويليام شكسبير، الذي انتهى فيه الانحلال النفسي-العقلي بزوال ملكه كلية، فإنه لا يمكن اليوم استبعاد أن يحاول المرء لأسباب إستراتيجية-سياسية أن يحاول إخفاء ما يمكن إخفاؤه-طالما الأمر قابل للستر.

ولكن ما الذي يمكن للمرء فعله إذا كانت المؤسسات و السياسيون المعنيون عازمون على رفض ذلك. فمن يستطيع هنا أن يساعد بعلمه التخصصي؟

 

ما الذي يمكن عمله، ما الذي ينبغي عمله، ما العمل؟

المشكلة واضحة: فالفشل العقلي يحصل أيضاً في قمة الدول، سواء أردنا إدراك ذلك أم لم نرد. و إذا كان يمكن التنبؤ بالأمر عموماً فهو في الحالات الفردية فقط. لهذا علينا أن نفكر في وقت مبكر بمثل تلك الإمكانات. إذ أن الكفاءة العقلية أو عدمها لرئيس دولة ما يعد "كعب أخيل"[1] الأمة. فحتى لو كان الشعب لا يطلب أن يقبع عبقري في قمة السلطة، إلا أنه يرغب بوجود قدرات (فوق المتوسطة)، فيما يتعلق بالتفكير المنطقي و التجريد و الاستنتاجات الملموسة على سبيل المثال، و إذا كان بالإمكان أيضاً السلامة الأخلاقية moral integrity .

ولكن فيما إذا كانت هذه الرغبة قابلة للتحقيق أو حتى مبررة فهذه مسألة أخرى. فعلى الرغم من أننا نعيش في ديمقراطية تمثيلية (نيابية) و للجميع تأثير على الانتخابات الشرعية، ولكن بهذا لا نكون قد امتلكنا الرؤية اللازمة بعد وعلى ما يبدو بتناقص مستمر على الرغم من التأثير المتزايد للإعلام.

وهكذا يقف السياسيون عموماً و رؤساء الدول بشكل خاص من خلال الإعلام تحت الأضواء ويتضح باطراد بأن الضعف العقلي سرعان ما يصبح قضية عامة. وهذا ينطبق على الأمة ذاتها وعلى الخارج أيضاً، و بشكل خاص في الزيارات الرسمية، أي في المواقف الحرجة  التي يكون فيها الجميع في أعلى درجات التوتر. وهنا توجد مجموعة كبيرة من الأمثلة التي سنشير منها إلى الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن Boris Jelzin، والذي توهم ببلد مختلف كلية غير موجود على الإطلاق وأراد توقيع اتفاق معه. فهل كان مجرد إنهاك أم بدأ بسبب الأذى الناجم عما يسمى هنا التهاب دماغي كبدي hepatitis encephopathia  بعد إساءة استهلاك الكحول؟ هناك كفاية من نقاط الشك، و القليل من النتائج الموضوعية والمنشورة بشكل خاص، ويظل المتخصصون معتمدين على التخمينات.

وهنا فإن السياسيين الكبار هم بشر مثلهم مثل أي إنسان آخر و لا يحتاجون في النهاية شيئاً غير التشخيص المبكر و الصريح و العلاج الهادف بعد ذلك.  إلا أنه يتم تغطية السياسيين بشكل محكم hermetic لأسباب وجيهة، ليس فقط في الدول الديمقراطية التي غالباً ما لا تكون رؤيتها مختلفة عن الديكتاتوريات (أو ليس عليها ذلك؟)، والتكتم على الأمر هو الحل بأي منظور. و هذا الحل هو النصيب أو المصير، الذي يمنع المريض المحتمل في مرتبة القيادة من الحصول على العلاج الهادف. وهذا ينطبق على المعاناة الجسدية و لكن على النفسية أكثر.

وهنا كذلك توجد مجموعة من الأمثلة التي يعد توماس إيغلتون Thomas Eagelton واحد من أهمها، الذي كبح في "أكبر دولة حرة في العالم"، الولايات المتحدة الأمريكية بوصفه من سياسيي القمة قبل أن يتسلم منصبه. أنظر عروض الحالات لاحقاً.

إلا أنه يمكن للمرء أن يتساءل أيضاً فيما إذا كانت تكتيكات التغطية تلك السبب الحقيقي الوحيد لعدم كون الاستقرار العقلي و النفسي لرؤساء الدول هي الكامنة خلف عدم تحول هذا إلى موضوع شائع للنقاش العام. ربما يكون السبب المفرح أن سياسيي القمة هؤلاء هم بالفعل أصحاء بشكل فوق المتوسط. إلا أن احتمال ذلك ضئيل.

أو أنه قد لا ينظر المرء بدقة كافية عند طرح السؤال عن إلى أي مدى قادتنا السياسيين قادرون. ويتجلى هذا على سبيل المثال في اللامبالاة و فقدان الاهتمام و التصديق الساذج والتقشف السياسي ("ما الذي يهمني ما يحصل هناك في الأعلى") أو ببساطة بسبب الانصياع للسلطة والتمجيد الغارق بالأمل، فيما يتعلق بالأب السياسي –و بالرمز في قمة الدولة- وهو أمر منتشر بكثرة أكثر مما يمكننا تصوره.

أم هو نوع من الخجل الجماعي، مس مخجل، يجعلنا نغمض عيوننا، إذا ما فقد شخص ما القدرة على المعاوضة النفسية. فمثل هذا الأمر لا يجده المرء لدى الأقارب فقط وإنما لدى الأصدقاء و الجيران و زملاء العمل. حتى أن الخرف، أي الضعف العقلي المرتبط بالشيخوخة مع عواقبه السلوكية الشاذة الممكنة أو حتى الدقة الشديدة هي أكثر إشكالية  من مرض نفسي واضح.  و يرجع هذا إلى إمكانية أنه يمكن في الواقع أن يصيب أي إنسان، وصل إلى سن الشيخوخة، المرغوب بالأصل ولكنه في الوقت نفسه سن معرض لخطر الإصابة بالخرف من جهة، ومن جهة أخرى يرجع إلى السن المتقادم و الكيفية التي يتطور بها المرض و أخيراً في استحالة التأثير على ذلك على المدى البعيد، على الأقل حتى اليوم، سواء بالعلاج الاجتماعي أم بالنفسي أم بالدوائي.

و إلى جانب الأنماط السلوكية الثورية يضاف  بالنسبة للأنظمة غير الديمقراطية أنماط سلوك مشئومة. ("على المرء أن يترك الأمر للقدر أن يقرر"). هكذا يقول الاستنتاج اليائس الاستسلامي، الذي نجم عن دراسات التاريخيين و الباثوغرفيين (دارسي السيرة المرضية Pathographen). ومن جهة أخرى فلو تصرفت مملكة بافاريا أو حكومته اليائسة في ذلك الوقت ضد لودفيج الثاني Ludwig II. بصورة مبكرة و حاسمة لما كانت هناك حكايات عظيمة تستثمرها اليوم حكومة بافاريا الديمقراطية. و بالمناسبة فإن الشعار القائل: "سوف يتغير الوضع" أو "لن يحصل إلا الخير" "لا يصح إلا الصحيح" لا يحقق وظيفته المواسية إلا إذا كان الإنسان يعتقد بحاكمية الله (وهي ليست تصورات عفا عنها الزمن، و التوق المطاق لعدد متنامي من المواطنين التعبين من الديمقراطية و البيروقراطية يتحدث عن نفسه).

إمكانية أخرى هي تكتيك الطبيب الدنمركي الخاص شتروينسي Streuensee المذكورة الذي حاول الحفاظ على الملك أو الرئيس اليوم كمظهر أو كشكل وأدار الأعمال الرئاسية من وراء الكواليس إن صح التعبير (وهو ما حصل أيضاً في أميركا الحديثة من خلال زوجة الرئيس المريض بشدة و يلسون Wilson و كذلك في ألمانيا مع الرئيس الاتحادي لوبكه H. Luebke ويعتقد أن الأمر قد سار بسلام.

و أخيراً يمكن الحفاظ على وهم القائد العظيم عند الشعب عبر القوة البيروقراطية والعسكرية وبشكل خاص من خلال وسائل الإعلام الموجهة من الدولة. وعلى الرغم من أن هذا خدعة (illusion : مشتقة من الكلمة اللاتينية illudere وتعني السخرية، الهزأ، التهكم) بالمعنى الحرفي للكلمة (أمثلة: المكتب السياسي للصين الحمراء وفي الاتحاد السوفيتي السابق و اليوم في شمال كوريا)، إلا أن لهذه الطريقة حدودها و إمكاناتها في الدول الديمقراطية.

ويصبح الأمر أصعب لدى الرؤساء في الدول الديمقراطية حيث تكون السلطة في يد الشعب نظرياً و القرار يرجع إلى النواب و القضاة. فما هو الوضع القانوني الراهن، في ألمانيا على سبيل المثال؟ فيما يلي بعض الأفكار حول الكيفية التي يناقش فيها هاوشتاينر و بفاو C. Hausteiner & B. Pfau  في المقال المذكور سابقاً:

في حال مرض المستشار الاتحادي هناك إمكانية طرح تصويت الثقة البناء، و الذي يمكن طرحه أيضاً عند الشك بوجود عدم كفاءة في المنصب. كما يمكن للبرلمان الألماني (البوندستاغ Bundestag) أن يقرر أن ينوب عن المستشار نائبه لبقية الدورة الانتخابية. وكممثل للرئيس الاتحادي يعمل في البداية رئيس المجلس الاتحادي. أما "الدعوة الرئاسية" التي يمكن لمجلس النواب أن يرفعها أمام محكمة حماية الدستور، إذا ما كان هناك شك بمخالفة الدستور بصورة متعمدة من قبل الرئيس الاتحادي، فإنها في هذه الحالة لا يمكن أن تنجح. إذ أن إمكانية الانتخاب مرتبطة في ألمانيا بالقدرة على ممارسة العمل. لهذا يتم إلغاء منصب المستشار و الرئيس بشكل آلي إذا ما كانت هناك ضرورة تحويل المستشار أو الرئيس إلى مستشفى الطب النفسي بمعنى قانون الرعاية. و هذا ما تقرره في النهاية المحكمة الابتدائية في برلين.

و بشكل عام ينتقد الخبراء أن هذا الوضع القانوني غير محدد فيما يتعلق بهذا الأمر في الدستور. إلا أن هذا "الوضع الجدي" لم يحصل حتى الآن في تاريخ ألمانيا الاتحادية. 

وتوحيد سن التقاعد سيكون من المؤكد من أكثر الاقتراحات الخالية من الخيال لتنظيم عدم كفاءة التصرف السياسي المرتبطة بالمرض. فعدد السياسيين النشطين سياسياً في سنوات العمر المتقدمة و المتقدمة كثراً تثير الدهشة أحياناً (ولا يعد مستشار مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا كونراد آديناور Konrad Adenauer  مثالاً وحيداً على ذلك). ناهيك عن أنه كل واحد من يعرف أمثلة من الإنجازات الإبداعية فيما يسمى بسن التغيرات الارتدادية أو سن التراجع أو  السن المتقادم.

وهناك إمكانية أخرى تتمثل في الفحص العصبي-النفسي لكل الأشخاص في المواقع ذات المسؤولية الكبيرة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية هناك الكثير من الأصوات التي تطالب بلجنة متخصصة، تقوم بنصح الكونغرس في حال الضرورة على سبيل المثال بأن يتم نقل المسؤوليات إلى نائب الرئيس. وعلى الرغم من أنه منذ عام 1972 على المرشحين الرئاسيين أن ينشروا تقريراً حول صحتهم  (وهذه كانت فضيحة إيغيلتون Eagelton –أنظر لاحقاً)، إلا أنه حتى الآن لم يطبق هذا الأمر سوى القليل من مرشحي الرئاسة.

أما الاقتراح بإجبار الفاحصين الطبيين المرشح على نشر تقرير حول صحته لمصلحة الدولة إذا ما امتنع المرشح عن ذلك فسوف يقود بالطبع إلى مشكلات قانونية وأخلاقية كبيرة، وبالدرجة الأولى واجب الكتمان للطبيب. إلا أنه يجوز أن يتم خرق واجب الكتمان حسب قانون التنظيم المهني عندما تكون حماية مبدأ قانوني عالي القيمة (أي-كمثال متطرف هنا- عندما يعرف الطبيب بأن مريضه يخطط لجريمة).

لهذا فإن أولئك الذين يحذرون بوجوب التحفظ يبررون الأمر على النحو التالي: إن الجمهور يستفيد من السياسي الذي يراجع الطبيب عندما يحتاج إليه أكثر من ذلك الذي يخشى من التعامل مع الأطباء، لأنه عليه أن يخشى من تدمير سيرته السياسية (أوي أي أمر آخر).

بالإضافة إلى ذلك يطرح السؤال نفسه فيما إذا كان ينبغي منح الأطباء والنفسانيين السلطة بالفعل لتقرير كفاءة المنصب للسياسيين. حتى أنه يوجد خلاف بين الأطباء في هذا الأمر. وهو لا يتعلق في النهاية فقط بنوع المعاناة أو الفرع الطبي المعني و المتخصصين فيه. ففي المسائل العصبية فإن مجال تفسير التشخيص ضيق نسبياً (سرطان دماغ، التهاب دماغ...الخ). أما في الأمراض والاضطرابات النفسية فإن الأمر يختلف. ففي مجال بنية الشخصية بالتحديد و من ثم اضطرابات الشخصية فإن الحدود بين "السواء" و "الاضطراب" حتى "المرضي" واسعة جداً وغالباً ما تكون مطاطة. و هذا ما يعرفه السياسيون أنفسهم، الذين يقوم على خدمتهم في بعض البلدان (من نحو الاتحاد السوفيتي السابق) أطباء مطيعون، يلصقون سمة المرض النفسي بمنتقدي النظام ومعارضيه من أجل نزع صفة المصداقية عنهم. و من ناحية أخرى هناك أمثلة مرعبة واسعة من هذه المجموعة، من نحو الديكتاتور الكمبودي بول بوت Pol Pot . فقد كان هذا الدكتاتور في يوم من الأيام طالباً موهوباً في فرنسا قرأ كل الفلاسفة والماركسيين الكبار، ولكن وعندما أصبح في السلطة في بلده الصغير في الشرق الأقصى ليذبح ثلث شعبه –لأسباب سياسية معقولة بالنسبة له، كما يقال.

أو أي تشخيص نعطيه للمتطرفين الأصوليين، أي من السياسيين هم "منطقيون  consequent" و أيهم متطرف، أيهم نرجسي (مغتر بنفسه متعجرف و سريع الغضب وأعمى البصيرة) أو أليس النرجسيون في الحياة اليومية هم سياسيون أفضل؟ إلى أي مدى تتقارب العبقرية والجنون من بعضهما، و هو ما لا يسري فقط على الفن و إنما أيضاً على السياسة و الجيش.

و عليه يرجح معظم الخبراء، كلهم وبشكل خاص الأطباء الذين يعنيهم هذا الأمر بشكل خاص الآراء التالية:

ينبغي عدم التقليل من أهمية الاستغلال الممكن لتنظيم يجعل كفاءة الحكم متعلقة بالحالة العصبية والنفسية. فالسلطة ينبغي أن تظل بيد الدولة أو ممثليها غير الطبيين. و لا يستطيع الأطباء النفسيون و أطباء العصبية و المتخصصون النفسانيون التعبير عن آرائهم إلا إذا رأوا أن الأمر مناسب أو ملح و جهزوا الأرضية للإحساس اللازم بالتوعية و الإجراءات الوقائية، وبعدئذ يتدخلوا إذا كان الوضع الجسدي و النفسي و الاجتماعي النفسي يتطلب ذلك بالفعل.

و تقدير درجة التضرر  impairment هو من واجب الأطباء، أما الحكم على أهلية إدارة المنصب disability فهو من مهام الهيئات السياسية والقضائية.

ويخضع الأطباء النفسيون يومياً لمواجهات مهماتهم و بشكل خاص لحدودها. و قد يقبع ذلك في عدة طبقات تحت ما نناقشه هنا، إلا أنه يشمل أطر المشكلات نفسها.  وهذا يبدأ مع  السؤال التافه ظاهرياً: من يمتلك حق الخروج في أثناء العلاج المركزي و كم هي المدة؟ هل هذا القرار مهم؟ في غالبية الحالات ليس كذلك، ولكن يمكن عند سوء تقدير الواقع أن يقود إلى اليأس و الضياع أو التشتت و أحياناً إلى إلحاق الأذى بالنفس ومن ثم إلى خطر الانتحار. وفي التقويم الطبي الشرعي للمرضى نفسياً، أي المرضى النفسيين المحكومين، يصبح الأمر أكثر إثارة، فمن شأن هروبهم أو حتى عدم العودة في الوقت المناسب بعد الإذن لهم بالخروج أن يسبب الكثير من الإثارة لدى الجمهور. وأخيراً –كمثال على المسائل التفريقية- الفكرة التي مفادها: هل يسمح لطيار مكتئب بالطيران؟  أم هل هو بسبب خسارته الاستعرافية (الذهنية) المرتبطة بالمرض غير قادر لفترة عابرة؟ ناهيك عن إمكانية التصرفات الانتحارية (إمكانية انتحار موسع مع الركاب، توجد على الأقل أمثلة تخمينية).

و بهذا فإن الأطباء النفسيون  يشهدون كل يوم مدى صعوبة التمييز بين المصلحة الفردية (المريض) و المصلحة العامة. ومع ذلك ينبغي في كل يوم أن يتم إيجاد إجابة مستجدة.  إنه توليف، ناجم عن السعي نحو الحقيقة والعدالة –بغض النظر على أي مستوى من "الرجل العادي في الشارع" إلى رئيس الدولة. (عن C. Hausteiner & B. Pfau)

 

مختارات من أمثلة مشهورة من التاريخ الحديث

رؤساء و حكام بوظائف عسكرية

  1. أبراهام لينكولن Abraham Lincoln: كان أبراهام لينكولن (1809-1865) الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية لأربع سنوات، إلى أن تم اغتياله في إحدى زياراته للمسرح من متعصب من الولايات الجنوبية في 15/5/1865. وقد تم انتخابه عقب انقسام في الحزب الديمقراطي الذي سبب حرب الانفصال الدموية بين ولايات الشمال والجنوب الأمريكية، التي قادها لينكولن بشكل أساسي لتوحيد الأمة. و كان تحرير العبيد بالنسبة له مسألة سياسية جانبية، حتى وإن كانت نتائجها الإيجابية قد قادت لعواقب واسعة المدى. و بعد انتصار الولايات الشمالية نادى بسياسة تصالحية مما قاد إلى الاصطدام بانتقادات الكثير من المواطنين المتطرفين و لم تحميه هذه السياسة من الاغتيال على يد أحد الجنوبيين (ولكن من ناحية أخرى شجع على تلك الأسطورة التي جعلته مجسداً لكل الفضائل السياسية للشعب الأمريكي).

وقد عاني لينكولن سواء عندما كان محامياً أم عندما أصبح رئيساً للولايات المتحدة من أطوار اكتئابية متكررة (مثبتة من خلال الرسائل و الجرائد في ذلك الوقت و المذكرات و اتفاق الأصدقاء المقربين). و الميلانخوليا كانت طبيعة سائدة –من دون سبب معقول. –وبصورة إرجاعية يتم الآن تفسير "حالات اليأس و الإنهاك" لديه التي كانت تتبادل مع أطوار  من القدرة المرتفعة على الإنجاز، على أنها شكل خفيف من المرض الهوسي الاكتئابي (الذهان الوجداني ثنائي القطب). إلا أنه هذا الأمر لم يكن وفي زمنه موضوعاً للنقاش العلمي. فعلمياً لم يتم إلا لاحقاً اعتباره كنتيجة لسقوط ترافق مع كسر في الجمجمة و إصابة في الدماغ. وفي ذلك الوقت كانت المعارف حول الأساس البيوكيميائي لمثل هذه الأمراض ضئيلة بعد. إلا أن المهم من المنظور الوراثي كانت الإشارة إلى أن والد لينكولن أيضاً وصف بأنه كان في شبابه غير راض ومتقلب ثم يتحول فجأة إلى الحيرة والاندفاعية، مثل ابنه في نفس العمر (حالات اكتئابية طفيفة و في النهاية شبه هوسي؟).

وقد تجلى هذا في وقت مبكر في مراسلاته . فبعمر 29 وبعد موت حبه الأول غرق باكتئاب شديد، و شرد غائباً في الحقول و حول الأنهار و اضطر أصدقاءه إلى مراقبته، واستبعاد كل ما يمكن أن يستخدم بالانتحار. و على الرغم من أنه يمكن أن نسمي ذلك اكتئاب ارتكاسي (مثير معروف، موت حبيبته)، إلا أنه من الممكن أن يكون هناك إرهاق وراثي و استعداد بيولوجي لاكتئاب داخلي المنشأ endogen Depression  في "حالة انتظار"، كما هو الحال غالباً. على أية حال فقد ظل لينكولن لفترة طويلة بعد فترة الحداد معكر المزاج و منخفض الإنجاز.

وأخيراً تزوج (طبيعة زوجته كانت معاكسة كلية لطبيعته)، إلا أنه انزلق في يوم العرس باكتئاب شديد وصل إلى حد خطر الانتحار. وقد تكررت هذه الحالة مراراً، وإن ظل المرء يبحث دائماً عن أسباب جديدة (إنهاك، أنفلونزا...الخ). وكذلك لاحقاً عندما أصبح رئيساً دفع مستشاريه للارتباك بسبب نقص الحيوية، إلا أنه كانت هناك مراحل أيضاً كان فيها ودوداً و اجتماعياً و سميراً، ويروي الطرائف و النكات ويضحك و يُضحِك الآخرين. إلا أنه أحياناً كانت هذه الحالة تنقلب فجأة إلى تجهم وصمت و انغلاق. وفي النهاية يقال أنه أحاطته نسمة من الميلانخوليا باستمرار، على الرغم من أنه قد تمت محاولة الحفاظ على ذلك بشكل سري.

وقد شخص الأطباء النفسيون الأمريكيون –مع كل التحفظ، عندما يتعلق الأمر باستنتاجات رجعية عن الماضي بوجود نقص في التوثيق و التكتم السياسي الرسمي- وجود اكتئاب دوري شديد مع خطر الانتحار و هوس خفيف على الأقل. و ربما تكون الأحداث السلبية قد أثارت هذا الأخير أحداثاً سلبية، حصلت للينكولن (خسر المعركة للفوز بمقعد سيناتور مهم، لكنه لم يكن يائساً بعد هذا وإنما انقلب فجأة إلى شخص أكثر نشاطاً وأكثر إصراراً من السابق).

و يذهب الأطباء النفسيون الأمريكيون بناء على الظروف الراهنة، وبشكل خاص فيما يتعلق بالتاريخ السياسي و السيكوباثي للسيناتور توماس إيغيلتون (أنظر هناك) من أن أبراهام لينكولن اليوم لم يكن ليتمكن من الوصول إلى مرشح للرئاسة. ولكن بما أنه يعد من كبار الرؤساء الأمريكيين فإنه يعد من بين تلك الأمثلة التي يفترض لها أن تدفعنا للتأمل، فيما إذا كان ينبغي "استبعاد" أي واحد بتاريخ "مرضي" سابق من تولي منصب مسؤول، مهما كان هذا المنصب.

  1.  تيودور روزفلت Theodor Roosevelt : تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية رئيسان مهمان من الناحية الطبية (اليوم أكثر بجورج بوش الابن /المترجم/) يحملان الكنية نفسها و اللذان وعلى عكس غالبية زملائهم في منصب الرئاسة دخلا التاريخ. الأول هو فرانكلين ديلانو روزفلت Franklin Delano Roosevelt  (1882 حتى 1945)، والآخر تيودور روزفلت Theodor Roosevelt  (1857 حتى 1919)، وهذا الأخير مهم جداً من الناحية النفسية.

أطلقت عليه في السيرة الذاتية السياسية  أكثر رؤساء أمريكا شعبية. ويرجع حبه الكبير في عصره كقائد لفوج من المتطوعين في الحرب الأسبانية الأمريكية 1898. فبعد قتل سابقه تولى الجمهوري المحافظ منصب الرئاسة. وكافح في السياسة الداخلية بشكل خاص ضد فساد التكتلات و حقوق امتيازات شق قناة بنما. وفي آسيا مارس سياسة "الباب المفتوح" الإمبريالية و أرسل الأسطول الأمريكي إلى كافة بقاع الأرض من أجل استعراض القوة الأمريكية. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى بدأ (في بعض الأحيان كشخص غير رسمي!)  بتشكيل مجموعات متطوعين من جديد للقتال ضد ألمانيا، إلى أن امتنع الرئيس الأمريكي ويلسون عن إعطاءه الموافقة. و على العكس تم منح روزفلت لوساطته في اتفاق السلم الروسي الياباني عام 1905 جائزة نوبل للسلام.  

هذه باختصار سيرته الذاتية المحترمة، ولكن ما هي ملاحظات الأطباء النفسيين؟

بالفعل فقد اعتبر رئيساً موهوباً بشكل غير عادي. وعلى عكس لينكولن كان مزاج روزفلت منشرحاً. وكانت الحياة تعني له كفاحاً دائماً,. كان نشيطاً بشكل لا يعرف الكلل والملل. كانت شخصيته الجارفة (بالمعنى الحرفي للكلمة) تختلف عن كل الرؤساء السابقين في البيت الأبيض. إذ لم يحظى أحد بإعجاب كبير مثله (وهو ما تمكن منه لاحقاً جون كينيدي).

فقد كان في عيون معاصرية تيدي روزفلت Teddy Roosevelt  كأهم رجل في عصره. و انعكس حبه الواضح للحياة في مزاجه التفاؤلي المرتفع في النهاية على  كل الأمة. وقدرته غير العادية على الإنجاز و استعداده الدائم للانشغال و التفكير بمشاريع جديدة اكتسحت معها الملايين. فمن خلال مجرد وجوده كان ينشر حسب أقوال محيطه شعوراً عارماً لحب الحياة و الطاقة و يشيع جواً من السعادة الكبيرة (وهي سمة مميزة للمزاج الهوسي)؟

وكان نشيطاً منذ أن كان يافعاً و على الرغم من صحته الضعيفة، وكان نضجه مبكراً. في سن الطفولة لفت النظر إلى أطوار من المزاج المرتفع من خلال القدرة المرتفعة على الحديث، وهو ما ستمر طوال حياته حتى أنها كان تشتد في بعض الأحيان. وعلى الرغم من صحته الضعيفة (أو ربما بسبب صحته الضعيفة) تدرب بكثرة إلى أن وصل في شبابه للكسب في القفز العالي و الوثب بالزانة و أصبح ملاكماً جيداً. وقد سارت دراسته بصورة غير ملفتة للنظر.  إلا أنه لم يستطع التلاؤم بشكل جيد مع "الأسلوب الهارفاردي الراقي"  لجامعته، فقد كان يتكلم هناك كثيراً واعتبر عصبياً ومتقلباً و لهذا أصبح غير محبوب باطراد و كان نوعاً من المسخ للجميع. و بهذا فلم يكن له الكثير من الأصدقاء و يقال أنه كان في بعض الأحيان يكتئب من هذا. وعلى الرغم من أنه اعتبر صالحاً على أساس من أداءه في الامتحانات إلا أنه بالكاد يمكن أن يكون شخصية قيادية.

تزوج روزفلت من فتاة هادئة، عندما غادر هارفارد. و كان تأثيرها عليه معتدلاً، وماتت بعد أربعة سنوات بعد ولادة إحدى بناته. وبعد سنتين تزوج للمرة الثانية وأنجب خمسة أولاد.

ومنذ وقت مبكر انزلق في سمعة السياسي الشاب المتوتر و غير الصبور. وقد عرض هذا سيرته للخطر، إلا أنه على الرغم من ذلك صعد شيئاً فشيئاً و أخيراً أصبح حاكماً  governor. وقد عمل كثيراً، بل أكثر من الكثير و تحدث كذلك بالدرجة نفسها. وفي أثناء هذه السنوات مر أحياناً بأطوار اكتئابية بسيطة و أطوار من المزاج المرتفع بشكل طفيف، ولكن هذا لم يعقه عن ترقيه. وإلى جانب ذلك كانت له اهتمامات كثيرة متعدد، التي جرى ورائها بنهم لا ينتهي للمعرفة و الخبرة. ونادراً ما كان غير نشيط عقلياً أو جسدياً. و في الهيئات المطابقة خصص قدرته غير العادية على الإنجاز لمكافحة الفساد ونجح في ذلك، و أخيراً انتخب رئيساً لشرطة مدينة نيويورك وهو ما قاد إلى أعمال شغب كبيرة، إلا أن هذا جعله أكثر شهرة (وبشكل خاص من خلال جولاته الليلية للحفاظ على الأمن و النظام). فهو لم يكن بحاجة كبيرة للنوم، إذ كان يعود لحيويته الكاملة بعد استلقاء بسيط على الأريكة (وهو أمر مميز لظاهرة الهوس).

و لكنه ظل من دون أصدقاء تقريباً كما في السابق، و هو ما كان يضايقه. و قد نصح بالتقليل من الكلام و بشكل خاص أمام الملأ، إلا أنه لم يتمكن من هذا. وفي الحرب الإسبانية الأمريكية شارك برتبة عقيد (كولونيل) في سلاح الفرسان، وكان يكاد لايستطيع الانتظار للدخول في الحرب و اشتهر في النهاية من خلال نصره العارم وأصبح مهيب الجانب، و محترماً و مكرماً. و قد تمكن بشكل خاص من تحريض "رجاله" على القيام بأفعال لا يمكن تصورها (وهو ما قاد في كل الأحوال إلى كثرة عدد الخسائر في مجموعته، ولكن هذا لم يزعجه).

في عام 1899 أصبح حاكماً لمدينة نيويورك و ازداد معه ضغط العمل أكثر من ذي قبل. ومن أجل التخلص منه، عرض عليه منصب نائب الرئيس (على أمل أنه لن ينجح ومن ثم "سيموت سياسياً")، وهو ما لم يأخذ منه حماسه بل على العكس.

وعندما تم اغتيال الرئيس الأمريكي حل محله وأصبح بعمر 43 سنة أصغر رئيس في هذا المنصب.

وهنا بدأ الأمر بشكل صحيح: فقد أطلق عليه معارضوه تسمية "المجنون" و كتب أحد أشهر نقاده: "ليس هناك أخطر من السلطة التي تمارس من طاقة غير طبيعية". وبالفعل فقد خشي حتى مؤيدوه و أصدقاءه السياسيين بأن طاقته الصراعية قد ارتفعت إلى المستوى غير الطبيعي. فقد أغرق صعوده إلى مركز الرئاسة عدد ليس بالقليل بالقلق حيث كان يخشى من أن تتأثر قراراته بمزاجه.

إلا أن طبيعته كانت ساحرة بالنسبة للغالبية، بحيث أنهم أصبحوا أكثر اهتماماً بشخصه أكثر من خطبه و أفعاله. وبشكل خاص كان على استعداد دائم بلا توقف، إلى درجة أنه كان ينتظر الجميع انهياره والذي لم يحدث رسمياً أبداً. فقد كان اندفاعياً و غير سياسي و غالباً ما أسفر مزاجه العالي عن نوبات غضب، حيث لم يعد حينها قادراً على التفكير السليم، وتورط في تناقضات و لم يقدم مظهراً جيداً في مثل هذه النوبات من الغضب (من نحو عمليات قذف وتجريح حاول من خلالها دب الخوف في محرري الصحف و القضاء، وهو ما لم يحقق النجاح بفضل الديمقراطية الأمريكية الراسخة).

وهكذا تحول البيت الأبيض أحياناً إلى "مرجل شعوذة حقيقي"، حيث كان يفضل الاعتماد "على الرجل البسيط من الشارع"  أكثر من الوزير أو السيناتور أو أعضاء الكونغرس و الخبراء. وإلى جانب ذلك ظل لديه الوقت لقضاء وقت الفراغ والرياضة (وخصوصاً الخيل و المصارعة!) و الأدب و مآدب العمل الطويلة، التي سيطر عليها كلية من نقطة أو فاصلة. و كان يعترف له بأنه حتى المتخصصين في ميدانهم كانوا يندهشون من سعة اطلاعه. و قد امتد هذا إلى درجة أنه قد تم وصفه بأنه إلى جانب شلالات نياغارا يمثل ثاني أعظم عجائب الطبيعة في الولايات المتحدة الأمريكية.

وما كان يميز نشاطه الضخم أيضاً هو عدد الرسائل التي يقال أنه كتبها: فقد بلغ عددها حوالي 150000 (مائة وخمسون ألف) رسالة (ما تبقى منها ثلثي هذا العدد). أما مخطوطاته المكونة من إصدارات و مقالات و خطب و بحوث فقد بلغت 20 جزءاً.

وبعد أن سلم منصب الرئاسة بالتداول النظامي بأسف شديد ("أحب منصبي")، حاول توجيه طاقته الهائلة إلى أقنية أخرى، من نحو إنجازات جسدية غير عادية ورحلات خطيرة على سبيل المثال (وقد كان في ذلك الوقت زائد الوزن وفاقداً للبصر في إحدى عينيه). و على الرغم من إنه قد جعل نفسه في ذلك الوقت لا يطاق في بعض الأحيان ("لقد أعطيت البابا و القيصر الألماني دروساً إضافية مساعدة في الأخلاق أو الايتكيت")، إلا أنه ظل يعد في الولايات المتحدة الأمريكية المواطن الأول. وحاول الوصول ثانية للبيت الأبيض ولكن بلا طائل. و توفي بعمر 62 سنة.

و قد حاول الأطباء النفسيون والمتخصصون النفسيون ذوي التوجه التحليلي النفسي في دراساتهم للسيرة المرضية وضع تفسيرات سيكودينامية متنوعة، إلا أن الأطباء النفسيون يشيرون إلى أن تيودور روزفلت يعد بالنسبة لهم واحد من المرضى الهوسيين الاكتئابيين التقليديين، مع العلم أنه على ما يبدو حظي بنعمة أطوار قصيرة أو خفيفة من الاكتئاب، فيما عدا ذلك نوبات طويلة من الهوس أو على أطوار خفيفة من الهوس. يضاف إلى ذلك بنية شخصية مفرطة المزاج على ما يبدو، وهو ما حافظ "بشكل  مخفف" على نوع من الاستمرارية الهوسية الخفيفة.

و لم تتعرض الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة ولايته إلى أضرار جدية، بل أن الجمهور العريض كان متحمساً. أما التحفظات فقد أتت من أولئك الذين كانوا مستبصرين سواء سياسياً أم طبياً-نفسياً، لما كان يحدث هنا. ومحاولة روزفلت لوضع قدمه في مكان ما بعد نهاية رئاسته أخفقت كذلك (من نحو كرئيس لجامعة هارفارد على سبيل المثال)؛ فلم يريد المرء المخاطرة (ثانية) و كان يخشى من مغامرات  escapade لايمكن تصحيحها.

و مع ذلك يظل روزفلت من الناحية المرضية الممثل الأهم و الأكثر إثارة للمرض الهوسي الاكتئابي في أعلى منصب حكومي لبلد في العصر الحديث. أما اليوم فيرى الأطباء أن مثل هذه السيرة السياسية لم تعد ممكنة "للتيدي" روزفلت Teddy Roosevelt  كما برهنته قصة السيناتور الأمريكي توماس إيغيلتون كمرشح لمنصب نائب الرئيس بعد نصف قرن لاحق.

  1. ونستون تشرشل Winston S. Churchill: حول السير ونستون تشرشل (1874-1966) لا يوجد الكثير حتى بعد وفاته بخمسة عقود تقريباً، إذ أن هذه الشخصية الساحرة ما زالت بالنسبة لبريطانيا و العالم رمزاً، و ذلك على عدة مستويات. فسيرته السياسية الخارقة لتشرشل القادم من أسرة دوق مالبورغ بدأها في سنوات الشباب المبكر كوزير للبحرية (تحديث الأسطول) و كانت كذلك قد انتهت بهذا، ظاهرياً و هو ما تكرر لاحقاً مرتين. إلا أنه أخيراً أصبح وزيراً للحربية بعد أن بدل الحزب قبل ذلك و بعد انطفاء سياسي جديد تحول إلى أحد أهم الأدباء في بلده (وبشكل خاص منشورات تاريخية و سياسية). وبعد انفجار الحرب العالمية الثانية عاد ليصبح وزيراً للبحرية ثم للدفاع و أخيراً رئيساً للوزراء.

وفي أثناء هذا الوقت العصيب كان من ألد أعداء هتلر ("دم، وتعب ودموع و عرق") و بشكل خاص رمز إرادة الصمود (علامة النصر). وعلى الرغم من أنه قد تعرف بعد نهاية الحرب على الأطماع التوسعية للاتحاد السوفيتي إلا أنه لم يتمكن من إثبات نفسه في المؤتمرات المطابقة في يالطة وبوتسدام مقابل جوزيف ستالين و فرانكلين ديلانو روزفلت Franklin Delano Roosevelt، حيث كان في هذا الوقت قد خسر الانتخابات في بلده ولم يعد رئيساً للوزراء. إلا أنه عاد للمرة الثالثة و أصبح في عام 1951 رئيساً للوزراء مرة أخرى- سيرة لا مثيل لها.

و قد يفاجئنا أن نسمع أن هذا الإنسان الديناميكي و الناجح لم يكن معافى نفسياً (كما نعرف بشكل خاص من ابنه الوحيد راندولف تشرشل، الذي كان فاشلاً تعيساً و مدمنا على الكحول، وربما يكون بناء على الأرضية النفسية نفسها، أي المرض الهوسي الاكتئابي).

كان أجداد تشرشل من ناحية الأم والأب شخصيات قوية ذوي سيرة مثيرة للاهتمام (عسكرياً وسياسياً و اقتصادياً). إلا أنه كان يفتقد في البداية إلى الاستعدادات الواعدة، ولكنه كان يشق طريقه من خلال طموح جامح. لهذا تم إبعاده في وقت مبكر للجيش. و كشاب حارب في الهند و مصر –وكتب حولها كتاباً رائعاً في كل مرة، وبعد ذلك شارك كمراسل حربي في جنوب أفريقيا، وتم أسره ثم تمكن من الهرب (وكتب كتاباً آخر إلا أنه لم يكن فيه أميناً للحقيقة في أفعاله، "وإلا لما قرأه أحد"). بعد ذلك أصبح سياسياً بسيرة صامتة: تحت وكيل الوزارة في وزارة المستعمرات ورئيس دائرة التجارة ووزير الداخلية، و اللورد الأول للأدميرالية ووزير التسليح ووزير الحربية والطيران و سكرتير دولة للمستعمرات و مستشار المالية و أخيراً رئيساً للوزراء ثلاث مرات.

كانت ثقته بنفسه لا تهتز. و دائماً كانت تخدمه موهبته في الكلمة و الكتابة (لقد أحب الأدب، وخطبه التي لا تحصى و مقالاته كانت متدفقة). بالإضافة إلى ذلك لم يتمكن من الدخول في الموضوع كلية فحسب، وإنما كان ينهيه أيضاً ("ننهيه اليوم"). وقد كان هذا حاسماً و بشكل خاص في أوقات الأزمة، أي في الحرب العالمية الثانية وفي بداية الوضع الذي بدا بلا أمل.

إلا أن قابليته للاستثارة و عدم مبالاته وقسوته كانت جارحة و حيرت حيويته المنشرحة الكثيرين من معاصريه. إلا أنهم كانوا يواسون أنفسهم بأن شخص بهذه الحيوية الحياتية لن يطول به المطاف لينتهي –إلا أن هذا كان وهماُ-. فقد ظل نشيطاً حتى سنوات العمر المتقدمة. و هنا لم يكن يراعي الآخرين و لاحتى نفسه.

إلا أن الأمر أصبح إشكالياً عندما فقد القدرة على الحكم و الاستبصار بسبب أطوار الطاقة الفوضوية لديه. و عندما كان يدفع الآخرين إلى حافة الانهيار أو حتى التشتت بسبب طبيعته الجامحة. لقد كان من حوله يقدر طاقته، ولكنهم كانوا يتمنون المزيد من التبصر ("غني بالخواطر الجديدة والمثمرة، ولكن من دون الحذر اللازم").

وبالفعل لم ينظر لتشرشل بأنه موهوب فحسب وإنما حاد الطبع واندفاعي ومتطاولاً وولديه نزوع للسيطرة. و كانت هناك مراحل تحدث فيها بلا انقطاع بكل شيء يخطر على باله. كما حاول مراراً فعل ومراقبة و إنهاء أشياء متعددة مع بعضها. لم يكن يكفيه منصب وحيد.

وفي المجتمع كان دائماً في مركز الصدارة. كانت له خواطر كثيرة وقدم مذكرات أكثر من أي عضو آخر في هيئة الأركان أو الحكومة. لهذا كان يسمى "حيوان العجائب، الذي يفعل 100 شيء دفعة واحدة". وفي بعض الأحيان اعتبر "مجنوناً" ("هتلر البريطاني"). إلا أن إنجازه غير الطبيعي طغى على كل شيء، ليل نهار. ساعدته في ذلك قدرة واسعة كبيرة على الاسترخاء لفترة قصيرة لا تصدق (أنجز جزءاً كبيراً من واجباته الكتابية و مطالعاته في السرير).

إلا أنه كان معرضاً أيضاً لأطوار غريبة من الانسحاب، التي تعرف اليوم بالاكتئاب العميق. وبالفعل فقد كان عليه أن يصارع طوال حياته ضد "نوبات شديدة من الميلانخوليا" التي وصفها بنفسه على النحو التالي:

"عندما كنت شاباً، كان كل شيء حولي مكفهراً لسنتين أو ثلاثة؛ لم أكد أستطيع العمل، و على الرغم من أني شاركت في جلسات المجلس، إلا أني شعرت باكتئاب أسود. ساعدتني الأحاديث مع (س.). لا أحب الوقوف على حافة سكة القطار، عندما يمر قطار سريع. أفضل الحفاظ على مسافة بيني و بين القطار. كما أني لا أحب الوقوف على سور مركب ما و النظر للماء. في مثل هذه اللحظات لا أحب الظهور في المجتمع".

و بالفعل فقد عرف ذلك بعض المحيطين به. وفي الثلث الأخير من حياته بدا غير مهتم كثيراً بإخفاء حالاته الاكتئابية، ولم يعد يبدي الاهتمام بالحياة. فلم يعد يقرأ وتكلم القليل فقط وكان يجلس لساعات طويلة في حالة تطلق عليها اليوم تسمية الذهول الاكتئابي الشديد (كبح نفسي-جسدي). وعلى الرغم من خطب المدح و الأوسمة و التكريمات فقد ساد في قلبه و أعماقه الداخلية فراغ لم يتمكن من سده أي نجاح و أي مجد (كتبت ابنته سارة).

وقبل وفاته عبر تشرشل عن الثمن الميلانخولي لحياته على النحو التالي: "حققت الكثير، ولكني في النهاية لم أحقق شيئاً".

و ما حير الناس في ذلك الوقت يمكن تفسيره اليوم بشكل جيد من خلال "السيرة المرضية الاسترجاعية"، أي من خلال قصة المرض: من ناحية خشن ومتطاول وبطاقة غير عادية لا تنضب على ما يبدو (الطور الهوسي)، بعدئذ وقور من جديد ولا لوم عليه، كما بدا، ولكنه كان في الواقع خالياً وتعباً و محترقاً و يائساً وكئيباً (الطور الاكتئابي). وأحياناً بدا أنه يسيطر بشكل جيد على طوره الهوسي، وبشكل خاص مع التقدم في العمر، إلا أنه في أحيان أخرى ينفجر عنفه بشكل بركاني eruptive

إلا أن أطواره الهوسية، حيويته غير المنقطعة تحولت إلى أسطورة. وقد فسر المحللون النفسيون من المدرسة القديمة هذا منذ وقت مبكر على أنه عصاب نفسي. إلا أنه المرء اليوم يرى أن هذا المرض أقرب للبيولوجي و أطلقوا عليه المرض الهوسي الاكتئابي أو الذهان الوجداني ثنائي القطب Bipolar affective Psychoses .

وبالطبع يحتاج الإنسان في مثل هذا الاستنزاف لموارده أو احتياطاته الصحة المتاحة للقليلين فقط. و هذا ما اتضح في سنواته الأخيرة من العمر: ففي سن الثمانين عانى من ذبحة قلبية و ثلاثة التهابات في الرئتين و سكتتين دماغيتين، مع العلم أنه كان مرهقاً في الماضي بتضررات جسدية. ومع ذلك فقد وصل لعمر متقدم بلغ 90 ومازال حتى اليوم يعد ظاهرة سياسية وأدبية و بشكل خاص إنسانية، قلما يوجد مثيلها على هذه الأرض. و خصوصاً كمثال على أن الإنسان على الرغم من المزاج الهوسي المرتفع و التجهم الاكتئابي لا يصل إلى الشيخوخة المتقدمة فحسب، وإنما يستطيع تحقيق الكثير.

  1. نابليون Napoleonنابليون الأول (1769-1821)، المولود في كورسيكا والمعروف بنابليون بونابرت Napoleone Buonaparte . تمت تنشئته في المدرسة العسكرية إلى ضابط مدفعية، انضم بعد انكسار الحركة الكورسيكية الانفصالية (الهرب إلى البر الفرنسي) إلى الحزب الحاكم، وتم تسريحه من الجيش بعد سقوط الديكتاتور الثوري روبيسبيريه Ropespierre ، وكلف بعد ذلك مع قمع التمرد الملكي، بقيادة الجيش الفرنسي الإيطالي ومن ثم أصبح أحد أصغر الجنرالات. وبدأ سياسته القديرة (اتفاقيات سلام) و لم يكن يقف أمام صعوده إلى السلطة أي شيء. بداية قائد جيش بريطانيا الفرنسي و أخيراً قائد جيش مصر الفرنسي (بدون نجاح في كليهما)، بعدئذ سقطت حكومة المديرين [2]Directorium (التي كانت في ذلك الوقت أعلى سلطة سياسية في فرنسا)، وضع دستور القناصل[3] (حيث كان واحداً من أصل ثلاثة من القادة السياسيين)، التنظيم العبقري لنظام سلطة و إدارة مركزي، اتفاقية مع البابا concordat، في البداية سياسة السلم، بعدئذ قنصل مدى الحياة وأخيراً منصباً لنفسه وريثاً "لقيصر فرنسا"، مباركة من الباب (التابع سياسياً و مالياً).  

تزوج من جوزفين Josephine de Beauharnais (و هذا يعد كضابط شاب صعود اجتماعي)، تعيين أقاربه (أخوه وصهره) أمراء وملوك في المناطق التابعة، بناء نخبة من حاملي المراتب العليا و المارشالات (أشراف نابليون الجدد). تشجيع الفن الكلاسيكي العظيم (أسلوب إمبراطوري)، و لكن من المنظور الفكري رقابة قامعة (وزارة الشرطة). وأخيراً حرب مع بريطانيا العظمي وعدة حروب قارية (ضد النمسا، وبروسيا و روسيا)، والطلاق لأسباب سياسية و الزواج من ابنة القيصر النمساوي ماري لويز Marie-Louise (ابنة، دوق رايششتادت)، حصار ضد بريطانيا (هزيمة اقتصادية لكل المعنيين)، قرارات سياسية خطأ، و أخيراً الاعتداء على روسيا و بهذا التحول السياسي العسكري من خلال حروب الحرية. 1814 التنازل عن العرش، و الإقامة  في جزيرة إلبا (كحاكم مع لقب قيصر)، عودة استبدادية لفرنسا (وصول مفاجئ، السيطرة لمدة 100 يوم)، وأخيراً هزيمة نكراء في واترلو و نفي مؤبد على جزيرة سانت هيلينا البريطانية. و بعد عقود ثلاثة من موته نقل احتفالي لبقايا جثمانه إلى باريس.

خلاصة: قائد عبقري، حاجة لا حدود لها للسلطة، نزعة قيادية مستبدة، قرارات مهمة بعيدة المدى قانونية و سياسية و حتى عسكرية، ولكن أيضاً الكثير من المعاناة و الدم و الانقلابات السياسية و الثقافية. بعد موته بشكل خاص بناء "الأسطورة النابليونية" ("حرية الشعوب")، و هو ما لم يكن بالأصل الدافع الأهم للسلطة الذي كان يحركه. 

لاتوجد شخصية تاريخية استثارت الكثير من النقاشات المتناقضة مثل نابليون بونابرت. و هذا ينطبق أيضاً على الأطباء النفسيين و علماء النفس المهتمين بالسيرة المرضية.

فحتى الشروط الوراثية توحي بحياة غنية. فقد كان الأب الذي يعتبر حالة "حدودية اجتماعية" ذو طموح عالي، وتوتر عصابي شديد الدرجة، ونشاط لا يكل ولا يمل، ومرن عقلياً، رأسه مليء دائماً بالمشاريع (أو بشكل أدق بالأوهام)، مبالغ في الوعود، عديم الضمير، أناني. أما الأم بالمقابل فقد كانت جدية ومثابرة و مستقرة وصارمة وصاحية عملياً و ملتزمة أخلاقياً، وإن كانت أيضاً خوافة، غير واثقة. و قد كان العدد عملياً كل الأخوة و العدد الأكبر من الأقارب من الدرجة الأولى ملفتين للنظر نفسياً بطريقة من الطرق. و حتى حجم نابليون (طوله يكاد لا يصل أكثر من 150 سم) وشذوذات جسدية أخرى (عدم اتساق الوجه على سبيل المثال) تجعلنا نخمن وجود قوى تعويضية مفرطة في وقت مبكر. يضاف إلى ذلك فرط حساسية إعاشية: صحة متعلقة بالطقس، ارتعاش عضلات (عرة)، صداع متكرر، تشنجات نفسية المنشأ (؟). حتى أنه كان ملفتاً للنظر عندما كان تلميذاً بعد، ولاحقاً ظاهرة الطبيعة Temperament  التي لا يمكن الاستبصار بها أو اختراقها. أبناءه الاثنين ملفتان للنظر (فاشلان كلية).

ولن نناقش هنا سمات نابليون الشخصية الإيجابية بتفصيل. فهي ليست موضع خلاف، وإلا كيف يمكن تفسير تمكن هذا الإنسان من تحقيق إنجازات سياسية وعسكرية بهذا الشكل (وكل هذا لبلد لم يكن بلده: لم يشعر نابليون أنه كورساريكي ولكنه لم يشعر أنه فرنسي أيضاً). و مع ذلك سنقدم بعض الخصائص الإيجابية باختصار:

  • السمات الإيجابية: كان يستطيع أن يظهر الحب والاهتمام بأشخاص معينين، وبشكل خاص لأمه و لمرضعته، ولكنه كان الراعي لكل أفراد الأسرة (حتى وإن كان الأمر غير صحيح سياسياً و له سلبيات واضحة بسبب طبيعتهم المشكلة) ، صاح، يقظ، عملي، استراتيجي، مفكر، حازم و مثابر. وحساس و ذو خيال واسع، و عاطفي وطاقة عمل لا تنضب، قدرة حادة على الحكم، ذكاء مرتفع وموهبة تنظيم عسكرية بارعة. بالإضافة إلى ذلك حامي، حازم في اتخاذ القرارات، قدرة عالية على التوكيد، معلم في التكتيك، سواء في الصالونات السياسية أم في المعارك، خيال خلاق، نظرة بعيدة، "رجل أفعال"، مرح، ذو رؤية وصفات أخرى كثيرة.

 

ومع ذلك فإن السمات النفسية والاجتماعية النفسية وحتى الجسدية السلبية التي تعزى لنابليون كثيرة أيضاً. و هذه بعضها:

  • السمات السلبية: في طفولته وشبابه كان يعد "متوحشاً شرير"، منافقاً، "معلماً في الكذب"، عديم الضمير، منغلقاً، خارجاً عن المألوف قليلاً  eccentric، خرافياً، لخمة، غير واثق، عصبياً، بارداً، فظاً، قاسياً حتى العنيف، لا يراعي الآخرين، ضد الضعفاء بشكل خاص، ميلانخولياً، هياباً، مكفهراً و تعتريه نوبات غضب وجنون حتى الإقياء و الارتجاف (قرين "الرعب الكامن").

ولاحقاً و عندما أصبح جنرالاً وقائد للدولة وقيصر تغيرت المفاهيم، ولكن ظلت الخلفية المربكة نفسها: نهم شديد للسلطة، أنانية لا ترحم، عنيف، قاسي، مندفع (مع وجود إشاعات متداولة مريبة حول علاقات شهوانية و جنسية بكلا الأخوين من الجنسين و بالنساء عموماً و زوجته بشكل خاص). يضاف إلى ذلك عصبية وتوتر مستمرين وحساسية ذهنية و صولاً إلى البكاء (من نحو عندما قرأ كتاب "Werther" لغوته على سبيل المثال؛ و اللقاء المشهور بين نابليون و غوته في مدينة إيرفورت بدأ بهذا الموضوع.. و اعتقادات خرافية وصولاً إلى التصرفات الخرافية القهرية، ونوبات غضب غير معقولة، حتى في مشاهد مخجلة (ضرب، صفع، رفس) وصولاً إلى غضب تدميري لا حدود له (أثاث، أعمال أدبية، الأطفال، الحيوانات)، تمرغ على الأرض من الغضب، يرهب الجميع ("القيصر مجنون كلية"). وفي المواقف الحرجة ليس الرجل الخارق الذي يعرضه التاريخ، وإنما خواف، تخلى عن الجميع (روسيا، واترلو). وفي إطار قدرته المذهلة على الحكم و العمل و عدم مراعاته للآخرين  كذلك ممثل كبير و بشكل خاص معلم في استغلال الناس ("لست شخصاً مثل أي إنسان آخر، و لا يمكنني التفكير بالقوانين الأخلاقية و الأصول").

غير أن هذه جميعها عبارة عن سمات طبع، سمات للشخصية، حتى وإن تجاوزت الحد المقبول. أما التشخيص من هذا المنظور فيمكن أن يكون: عصاب، اضطرابات في الشخصية (سيكوباثيا) وغيرها. ومن المؤكد أن لهذا عواقب في التعامل مع الشريك و الأسرة و محيط الأصدقاء ولكن بشكل خاص في الحياة اليومية المهنية كسياسي و دبلوماسي و عسكري و كما هو الحال في حالة نابليون كمشرع و سلطة  راسمة للثقافة والاقتصاد...الخ. إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون لذلك أهمية مرضية نفسية بالمعنى الحرفي. وحتى هنا يقدم نابليون الدافع للمناقشات العلمية المتعارضة.  فبماذا يتعلق الأمر؟

  •  المظاهر الطبية النفسية و النفسية العصبية: هنا يوجد مرضان عصبيان بشكل خاص مع نتائج اجتماعية نفسية. وهنا تتم مناقشة وجود صرع Epilepsy  وخدار   narcolepsy(نوم مرضي عميق وقصير) لدى نابليون. ويبدو أن الخدار الغريب قد كان أقل. فهو يتألف من عدة مركبات مرضية لا تنطبق على نابليون.

والأمر يختلف في مسألة الصرع، إذ هناك بعض الدلائل المهمة تؤيد ذلك. فقد عاني بشكل متكرر من فقدان لحظي للوعي، و عنف بلا مبرر و تشنجات وإغماء تالي. كما تم على الأقل وصف نوبتين صرعيتين كبيرتين (النوبة الكبرىGrand mal )، وذلك في موقفين غير ملائمين، في معركة آسبرن Aspern و في ساكسونيا Sachsen على سبيل المثال. و بما أنه لم يكن يوجد اتساق وجهي لدى نابليون فقط وإنما اتساع رأسي أو تمدد راسي و هو ما يخمن بوجود استسقاء دماغي  hydrocephalus، فإنه لا يمكن استبعاد السبب الجسدي كلية.

وقد اهتم الأطباء النفسيون العسكريون بهذه الظاهرة بشكل خاص. فقد كتبوا (مقتبس عن Brickenstein,1980):

لا يوجد هناك أي شك بأن نابليون قد تأثر في قراراته بشكل مضاعف من خلال اضطرابات نوبية شديدة في الصحة...و أحياناً كان يغرق في أثناء نشاطه الذهني المكثف في نوم عميق أو في حالة من الغياب الذهني يخرج فيها كل شيء حوله عن وعيه....و بعد الانفجارات النوبية كان يعاني دائماً من صداع شديد وانحطاط وتعب. والناس الذين يعانون من حالات مشابهة غالباً ما يتصفوا بشدة الحساسية بشكل ملفت للنظر ضد بعض الانطباعات الحسية. وقد انطبق هذا على نابليون أيضاً.....ففي عام 1809 بدا يلاحَظ وجود انكسار واضح بحيويته و إرادته وقدرته على اتخاذ القرار وتصرفاته السريعة. ففي معركة آسبرن Aspern (أيار-مايو-1809) ظهر للمرة الأولى أن نشاطه ليس كما كان في الماضي. واستغرب أعداؤه أن القيصر بعد انتصاره الباهر لم يلاحق النمساويين و يبيدهم. و في ذلك الوقت ظهرت حالات نوم غريبة أيضاً. فقد نام 23 ساعة. وتكررت هذه الحالات من النوم في معركة فاغرام Wagram  (تموز-يوليو-1809). ففي وسط أتون المعركة استلقى نابليون ونام 20 دقيقة كالميت. هل كان مجرد تعب بالفعل، كما يعتقد البعض؟ و مرة أخرى تخلى عن...ملاحقة العدو المهزوم، بحيث أن لم يتم تتويج النصر التكتيكي، بإبادة الخصم.... و حتى قبل بدء معركة أوسترليتس Austerlitz مباشرة نام بعمق إلى درجة لم يتم التمكن فيها من إيقاظه إلا بصعوبة...وقبل الحرب الروسية بقليل استمرت حالات الإنهاك لديه أحياناً لساعات طويلة. بعدئذ هب فجأة صارخاً: "من يناجيني؟"، تجول مضطرباً في الغرفة و همهم: "لا، ما زال الوقت مبكراً".

لاحقاً أضيف إلى هذه الحالات الغريبة القرحة المعدية مع ألم و تشنجات، مما قلل أكثر من مرونته المعروفة في الأوامر و على وعمل على ما يبدو على زيادة التباطؤ وخيم العواقب...فقد تكرر ظهور تلك الحالات من اضطرابات الوعي المبهمة التي فسرها أعداؤه على أنها "نوام lethargy غير معقول" في المواقف الحاسمة. كذلك اتسمت معركته الأخيرة في واترلو بالقرارات الخطأ غير المفهومة، بحيث أن استطاع البريطانيون و حلفائهم الذين كادوا يهزمون تقريباً الحصول على الدعم البرويسي و انتصروا على الفرنسيين بشكل قاطع....ففي قمة المعركة غرق نابليون ثانية في "نوم سباتي" –وعندما صحا، كان قد ضاع كل شيء.

وكما أشرنا فإن العلم غير متفق. فلو كانت تلك نوبات صرع (وهنا لكان نابليون في صحبة أنيسة، إذ أن يوليوس قيصر وهو  واحد من مثله العليا كان يعاني على ما يبدو من الصرع)، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، أي نوع من الصرع؟  و مثل هذا الأمر صعب استنتاجه استرجاعياً، وبشكل خاص بالنظر للوصف غير التخصصي بالطبع في ذلك الوقت. أم أنه كان مجرد "طبع صرعي epileptically Character"، كما كان يخمن في الماضي؟ أم مجرد حامي الطبع غضوب بكثير من الذكاء؟ أم ما يسمى بالمكافئ الصرعي epileptically Equivalent، وهو ما يمكن له أن يفسر حالات النوم العميقة الحاصلة لديه أحياناً ومن ثم كذلك بعض السمات في طبعه؟ كما أن المرء كان يتحدث في الماضي عن السيكوباثيا الصرعية –الوجدانية Affect-epileptically Psychopathia  و المظاهر الشبيهة بالصرع والاستعداد الهستيري، عن حالات غشوة و تشنجات و غيبوبة (تعكر الوعي قصير الأمد أو تضيقه) من خلال تنظيم الانفعالات...الخ. بالإضافة إلى ذلك تمت الإشارة إلى مرض بالغدة الدرقية أو اضطراب وظيفي في الغدة النخامية  hypophysis (قصر القامة، غياب الثلث الخارجي للحاجبين ، والسمنة لاحقاً و اللامبالاة Apathia).

إلا أنه في النهاية على العلم أن يعترف بأن نابليون يظل ظاهرة غير مفسرة من المنظور الطبي العضوي و النفسي. وعلى ما يبدو هناك العديد من التأثيرات التي تجمعت في بنية شخصيته غيرت أوروبا والعالم –هذا على الأقل ما هو متفق عليه-. إلا أنه هنا يتضح شيء واحد: لو كان الأمر تحت وجهات النظر هذه يتعلق "برجل الشارع العادي"، فإنه لا بد وأن يحدث هنا اضطرابات كفاية turbulence. فإذا ما تعلق الأمر بسياسي في موقع القيادة، أو بقيصر في حكم استبدادي و قائد عسكري بارز فإن الضعف النفسي والجسدي أو كليهما يحملان هنا خصوصية بارزة  brisance.

ويتضح في صعود نابليون وهبوطه ما هو التشخيص الذي أعطي له.

  1. نابليون الثالث Napoleon III.: بعد نابليون الثالث من بين عظماء هذا العالم كشخصية متوسطة mediocre ". إذ لم ينصفه التاريخ، وبشكل خاص لأن نجاحاته في السياسة الداخلية والخارجية قد ظلت غائبة (حيث كان وما زال هذا الأمر وعلى الرغم من الاعتراض الأخلاقي هو النقطة الحاسمة في الحكم على الإنسانية).

تشارلز لويس نابليون Charles Louis Napoleon Bonaparte   (1808-1873) كان ابن أخ القيصر نابليون الأول. ترعرع في المنفى السويسري و الألماني و عد بعد أن توفي ابن نابليون، الدوق فون رايششتات، بوصفه زعيم أسرة نابليون و شعر بأنه مدعو لتمجيد  glorification سابقيه العظام و لإعادة الملك النابليوني في فرنسا. وقد يتقبل إنسان في وضعه الأولى أما الثانية و بالنظر للتاريخ فإن الأمر مستحيل، ومع ذلك فقد حصل:

فبعد محاولات انقلاب فاشلة ضد الملك الفرنسي لويس فيليب Louis Philippe تم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وفر إلى إنجلترا و طور هناك برنامجه السياسي (القيصيرية الاستفتائية Plebiscitary  Caesarism ) الذي لم يظل لدى الفرنسيين من دون إعجاب. و عاد لفرنسا و شارك في الانتخابات الرئاسية هناك و ربح 74% من الأصوات (الرئيس الملك Prince Président). وبعد عدة سنوات لاحقاً انقلب على النظام مع تخويل شامل بسلطات الحكومة، باستفتاء من الشعب، حيث نودي للمرة الثانية بعد نابليون الأول بقيصر وراثي للفرنسيين.  و على الرغم من أن القوى الديمقراطية أقنعته شيئاً فشيئاً بإدخال أهم مطالب المعارضة نحو الحرية السياسية الأكبر بالتدريج إلا أنه بقي الرمز المركزي للدولة. وكان هدفه السياسي الخارجي تحويل النظام الأوربي لمؤتمر فينا لمصلحة فرنسا. لهذا شارك في الثورات الوطنية (حرم القرم، إيطاليا، البلقان، بولونيا)، وهو ما لم يجلب له أية فوائد في النهاية، لأن أهم عدو له، القنصل الألماني بسمارك  قهره سياسيا وعسكريا في الحرب الألمانية الفرنسية من 1870/1871. و وقع بعد استسلام سيدان في الأسر البرويسي و توفي بعد إطلاق سراحه في انجلترا، حيث دفن هناك.

و حول نابليون الثالث لا يتوفر رسم مرضي Pathography كثيراً، وعلى عكس نابليون الأول. ومع ذلك فهو مثال مثير حول الكيفية التي يمكن فيها للمرض الجسدي لرئيس دولة و قائد عسكري في الوقت نفسه أن  يؤثر على مجرى التاريخ-  وهذه المرة لصالح ألمانيا ووحدتها السياسية-. فقد عانى نابليون الثالث من حصى في المثانة. وهذه المعاناة مؤلمة بشدة ومضنية، وهي اليوم ليس موضوعاً ذو شأن في الطب، أما في ذلك الوقت فقد غير هذا الاضطراب التاريخ. إذ أن نوبة المثانة أصبحت قوية في النهاية إلى درجة أنها قد أضعفت قوة الإرادة و اتخاذ القرار والمقاومة بشكل حاسم. وقد نمت لديه حاجة مرضية للراحة، فلم يكد يظهر أي نشاط و مبادرة و ترك الأمور تجري. و ازداد يأسه باطراد وأصبح مكتئباً. يضاف إلى ذلك حصول ضربات سياسية اقتصادية وعسكرية سياسية غالية، كالمغامرة المكسيكية و حرب القرم. وهذا كله، صحته و أخطاءه السياسية، دفعه باطراد إلى نوع من السلبية الحيوية Fatality Passivity  و هو ما استغلته زوجته الطموحة، القيصرة أويغيني Eugenie .

و على هذا النحو يمكن فقط تفسير سلوكه غير الهادف في أثناء الحرب البرويسية-النمساوية لعام 1866. فعلى الرغم من أنه جعل الفرق الفرنسية تزحف على الراين من أجل بث القلق في البرويسيين، أو على الأقل لتعطيل جزء من قواتهم، إلا أنه أبطل هذا الأمر لاحقاً. و كل من يعرف التاريخ يعرف أن الهجوم المسلح لفرنسا كانت ستضع البرويسيين في  مأزق حرج. إلا أن التاريخ كان على ما يبدو مع بسمارك. إذ أنه وبالذات في ذلك الوقت، ضايقت حصى المثانة نابليون الثالث ثانية بنوبات متكررة  (و منهكة بصورة كبيرة). ويقال أنه بدا في ذلك الوقت منهاراً جداً ومعذباً ومنهكاً وقلما استطاع الحركة –إنسان مريض بشدة، حرم من أهم الاستعدادات الجسدية و النفسية، و في هذا الوضع و الوقت بالذات (من المفاهيم التي تتم مناقشتها: المتلازمة النفسية ذات المصدر الألمي algogeneses Psycho syndrome  أي الضرر النفسي والجسمي الناجم عن الألم).

وقد أكد هذا بسمارك لاحقاً: ليس الجيش الفرنسي، بل فرقة وحيدة كانت كافية من وجهة نظره لإجبار البرويسيين العالقين في ذلك الوقت في المعابر الضيقة لبوهما. إذ أن دوقية بادن الكبرى و بفالس قد تحصنتا خلف الفرنسيين ومن ثم كان من الممكن أن تقوم قائمة كل جنوب ألمانيا ضد البرويسيين. "لم أكن واثقاً أنه كان باستطاعتنا تغطية برلين"، اعترف بسمارك لاحقاً.

و للمرة الثانية تدخل القدر على شكل معاناة نابليون الجسدية ومن ثم العواقب النفسية بما في ذلك العواقب النفسية الجسمية، في حرب 1870/1871. وعلى الرغم من أنه لم يرد الحرب إلا أنه لم يستطيع من أن يقف ضد حزب الحرب في حكومته، مدعوماً بزوجته. لهذا حصلت ثانية خطوات دبلوماسية غير موفقة استغلها بسمارك بمهارة وصولاً في النهاية إلى عدم وجود قيادة عسكرية للجيش الفرنسي الذي انتهى بهزيمته المدمرة على يد البرويسيين وأسر قيصره.

وهنا كان واضحاً لكل المشاركين من الدائرة الضيقة لنابليون الثالث كيف كان وضعه الصحي والنفسي. وأخيراً تراجع وضعه الصحي إلى درجة أنه لم ينصح بالتدخل الجراحي. و ظلت هذه المعرفة الطبية طي الكتمان، حتى عن زوجته، ناهيك عن الحكومة. فلو حصل هذا الأمر لما ترك المرء القصير الضعيف جسمياً و المنهك نفسياً و ذهنياً بنتيجة المرض يذهب إلى الحرب كقائد أعلى للجيش الفرنسي، الأمر الذي برهن على أنه انهيار عسكري شامل.

 

ملحق: السيناتور توماس إيغلتون –فضيحة في الولايات المتحدة الأمريكية

في معركة الرئاسة حول الرئاسة الأمريكية السابعة والثلاثين في عام 1969 بين الفائز اللاحق ريتشارد نيكسون Richard Nixon  (بنهايته المثيرة من خلال اتهامه، أي دعوة للإقالة من المنصب، التي حصلت قبل ذلك من خلال استقالته) و منافسه جورج ماك غوفرن George McGovern شهدت أمريكا و العالم نقاشاً سياسياً، ولكنه لم يكن كذلك.

ففي الواقع فإن الأمر لا يتعلق بتصويت، وإنما بفشل (موجه إعلامياً)، فيما يتعلق بالمعرفة الطبية و بشكل خاص بالمعرفة الطبية النفسية، وخصوصاً فيما يتعلق بالتوعية و التسامح (وهو ما يعتقد المرء أنه موجود في أمريكا بشكل خاص). فما هي القضية؟

كان السياسي توماس إيغلتون في خمسينيات وستينيات القرن العشرين طفل العجائب السياسي لولاية ميسوري: محامي المحافظة (1956)، ومحامي دولة في عام (1960) بعمر الثلاثين سنة، نائب حاكم في عام (1964) وسيناتور في عام (1967) وكان يعد سياسياً لامعاً، الذي انتخبه حتى معارضوه السياسيون. وكان معطاء متحمساً و طبيعته المرحة مثالية. وقد قدم مجموعة كبيرة من مشاريع القوانين و عد رجل المستقبل. و عندما اختاره المرشح الرئاسي ماك غوفرن شريكاً في المعركة و نائباً محتملاً للرئيس بدا ذلك توليفة مثالية.

إلا أنه وبعد ترشيحه بوقت قصير أعلن في مؤتمر صحفي بأنه كان قد دخل المستشفى ثلاث مرات بسبب "الإنهاك و الإجهاد العصبي". وأصبح لاحقاً أكثر تحديداً: فالأمر يتعلق باكتئاب، تم علاجه مرتين بالصدمة الكهربائية و مرة من خلال الراحة الاستشفائية (سرعة عمله كانت لا تضاهي و بالنسبة للعاملين معه كانت مسببة للإرهاق).

وقع تصريح إيغلتون على الجمهور الأمريكي موقع الصاعقة. وفي هذه المرحلة من عدم الأمان تم بداية سؤال مشهورين يعرفونه. فكان حكمهم الواضح: أنهم لم يلحظوا عليه أبداً أي شيء سلبي، صحيح أنه مشدود بشدة إلا أنه محارب انتخابي شديد، وديمقراطي طيب و سليم ومنطقي. (كانت إحدى الأقوال السياسية النمطية: "لدي انطباع بأن 60% من أعضاء مجلس الشيوخ ليسوا متزنين كلية. ولكن من بين كل الناس الذين بدو لي سليمين عقلياً، أضع إيغلتون في المرتبة الأولى")

إلا أن هذا لم يفد: فالمناقشة الوطنية الحامية جداً الآن ألقت الضوء حسب وجهة نظر الخبراء على مظهرين مهمين:

  1. اتجاهات الأمريكيين نحو الاضطرابات النفسية عموماً،
  2. التصور التقليدي و المتجذر بعمق بأن كل استشارة لخبير ما بسبب مشكلات انفعالية يمكن أن تشير إلى شيء ما "قذر"، "فظيع"، "فاسد"، "مخالف للقانون"، أو "مخيف" (مقتبس عن R.R. Fieve ).

فالموضوع أولاً هو الشك الواضح بأن كل شخص يمتلك تاريخاً طبياً نفسياً، بغض النظر عما كيف حصل هذا و ثانياً هو الخوف من مشكلة نفسية يصعب تصديقها، على أية حال بالنسبة للمواطن المتوسط، يرغب المرء بإزاحتها جانباً و لا يحب أن  يراها منتشرة بين قادته السياسيين.

و يقتبس الطبيب النفسي فيف F.F. Fieve الملاحظات الرائعة التالية":العلاج بالصدمة الكهربائية هو أمر لا يستطيع المرء أن يتحدث عنه في كل حفلة كوكتيل" أو :"على الرغم من أننا متنورين كفاية، للحديث عن جلسات التحليل النفسي الخاصة بنا، حتى أمام الناس، ولكن الاكتئاب الشديد الذي يحتاج للعلاج من الناحية الإكلينيكية يفضل المرء إخفاؤه". أو:"مجرد التفكير بالمستشفى الطبي النفسي يجعلنا نفكر بالمرضى في المريلة و المجانيين و العنيفين و المهلوسين، بذهانيين غير قادرين على السيطرة على انفعالاتهم الجنسية والعدوانية".  و: "في الاضطرابات النفسية نفكر مباشرة بالأنماط الثرثارة بصورة غير مفهومة من الأفلام والتلفزيون و المسرح و الأدب، وصولاً إلى آلة فرانكشتاين الكهربائية". و أخيراً: "يستطيع الرئيس جونسون أن يري الجمهور في برنامج تلفزيوني جرح عملية المرارة، ويستطيع الرئيس أيزنهاور أن يتحدث عن خروجه في التواليت، أما العلاج النفسي فهو أمر مكروه".

و يعلق فيف R. R. Fiev تقلقنا صحتنا الجسدية ولا أحد يعترض على هذا. أما صحتنا النفسية فهي ليست على ما يرام ومع هذا لا يتجرأ أحد على الحديث حول ذلك. و المعنيين موصومين (موشومين) اجتماعياً، وليس إذا كانوا سياسيين فقط وإنما كل واحد راجع مرة مستشفى عصبي، عليه على ما يبدو أن يتحمل لبقية حياته ألا يعامله الناس على أنه كامل، بغض النظر عن مدى جودة تخلصه من معاناته.

لقد صمد إيغلتون، ولكن بلا طائل: "فالأخلاق المزدوجة للشعب الأمريكي" (Fieve) جعلت الأمر لا يمكن تجاهله. فعلى الرغم من أن ماك غوفرن قد تجاهل هذا الأمر في البداية، إلا أنه في النهاية اضطر للطلب منه أن يتخلى عن ترشيحه لمنصب نائب الرئيس، على الرغم من أن رأي الشعب قد بدا فجأة غير أكيد. إلا أن جورج ماك غوفرن لم يستطع أن يغامر بجعل المرض السابق للمرشح لنيابته موضوع حملته الانتخابية رقم واحد (الأمر الذي عمل عليه خصومه السياسيين بمساعدة وسائل الإعلام المرتبطة بهم). لم تكن هذه الاستراتيجيات نظيفة -كما هو الحال الغالب في السياسة- إلا أنه لم يكن هذا هو الموضوع في النهاية وإنما اتجاهات الشعب، التي تقول:

ربما يكون إيغلتون حالة نفسية حدودية، تم حشره في جو يغلي جداً من الصراع الانتخابي في مرض عقلي. ولكننا لا نستطيع أن نتحمله كقائد. إذ أن فكرة أن قائد ما ربما قد يخطئ كانت و مازالت بالنسبة لنا فير محمولة (R.R. Fieve)

أما المنتصر اللاحق بالانتخابات –كما ألمحنا- فيقال أنه قد أصبح مكتئباً بالفعل في نهاية مناورة-اعتزاله التي كانت مضنية طويلاً. 



[1] الأوديسة

أسطورة غنائية يونانية قديمة مثل أسطورة الإلياذة ، كتبها الشاعر الأعمى ( هوميروس ) في القرن التاسع عشر قبل الميلاد تقريباً
و قد انتشرت هذه الملحمة و تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل ، حيث كانوا يتغنون بها لدرجة أنها حفظت عن ظهر قلب . و من المعروف أن اليونان كانوا بحّارة ماهرين و كان لهم رحلات عديدة.

و قد أنشئوا سفناً كثيرة ، لذلك كان البحارة يروون القصص . و لقد أخبرتنا الأوديسة الكثير عن الشعب اليوناني و عن عاداتهم في حروبهم .

تحكي الإلياذة ( هوميروس ) حكاية مدينة اسمها طروادة … صمدت أمام هجوم اليونانيين لمدة عشر سنوات.

.يقول مؤرخو اليونان القدماء ….أنه و منذ حوالي 850 سنة قبل الميلاد  (هوميروس ) كان يتنقل من بلد إلى آخر يرافقه أحد تلاميذه كان هوميروس يحكي للناس عما جرى لطروادة خلال حصارها باهتمام شديد . حيث كان هوميروس يثير حماس الشعب اليوناني من أهل المدينة ….. و أهل الريف و الأحرار و العبيد و التجار و الجنود .
جمال هيلين سبب الحرب.

 تقول الحكاية : إنه ذات يوم قام ابن ملك طروادة بزيارة إلى مدينة إسبارطة اليونانية حيث استقبله ملكها و زوجته الجميلة ( هيلين ) .
أحب ابن ملك طروادة ( هيلين ) و قام باختطافها من زوجها و عاد بها في سفينته إلى مدينة طروادة لذلك قام ملك إسبارطة اليونانية بجمع المحاربين و جهز جيوشاً كبيرة و أقلعوا جميعاً بسفنهم متجهين إلى مدينة طروادة لكن أهالي طروادة الشجعان و أسوار مدينتهم القوية صمدت أمام هذه الجيوش لذلك اضطر اليونانيون إلى الاكتفاء بحصار مدينة طروادة فقط .
و هكذا مرت عشر سنوات دون أن يستطيع الجيش اليوناني اقتحام المدينة بل و أصبح اقتحامها أمراً مستحيلاً.

 أشجع رجلين:

و في السنة العاشرة من الحصار تبارز أشجع رجلين هما ( هكتور ) ابن ملك طروادة و ( أخيل ) أشجع رجل في الجيش اليوناني ….حيث انتهت المعركة بانتصار ( أخيل ) و مقتل هكتور ….فلقد قام أخيل بربطه من قدميه إلى مركبته و طاف به حول أسوار طروادة و كان ما كان.

و في اليوم التالي …توجه ملك طروادة بنفسه إلى أخيل و هو محمّل بالهدايا و أخذ يتوسل إلى أخيل راكعاً على ركبتيه بأن يعيد له جثة ابنهفوافق أخيل إشفاقاً على الأب و بهذا فقدت طروادة بعد عشر سنوات من الحرب أكبر مدافعيها .
و لكن بعد فترة قصيرة تم لأهل طروادة الانتقام حيث استطاع أحد شجعان هذه المدينة من قتل أخيل و ذلك بواسطة سهم مسموم أصاب به كعب أخيل و هو المكان المكشوف في جسمه الذي كان مغطى بالدروع الحديدية الثقيلة .

حيلة يونانية لنهاية الحرب

وجد ( أوليسيس ) و هو أكثر اليونانيين مكراً وسيلة من خلال حيلة يضع بها نهاية لهذه الحرب الطويلة فنصح الجيش اليوناني بأن يتظاهر أنه أنهي الحصار و ذلك من خلال الإبحار عن الموقع عائداً إلى بلاده و تحرك الأسطول فعلاً خلف الجزيرة على بعد من الشاطئ لكنهم تركوا حصاناً خشبياً ضخماً على الشاطئ اختبأ فيه ( اوليسيس ) و عدد من زملائه و هكذا عمّ الفرح في طروادة و صدقوا أن اليونانيين قد اسحبوا بالفعل و اعتقدوا أن الحرب قد انتهت فعلاً لذلك اقترح أحد زعماء طروادة أن ينقلوا الحصان الخشبي الذي تركه اليونانيون على الشاطئ إلى داخل المدينة و اضطروا لعمل فتحة في الأسوار الحصينة بدخول ذلك الحصان الخشبي داخل المدينة حتى بدأ احتفالهم بالنصر و أخذوا يصيحون و يمرحون و يرقصون فرحاً و جاء المساء و نامت المدينة عندما بدأ اليونانيون بتنفيذ الحيلة ، و خرج المختبئون و هم يركضون باتجاه الأبواب و يقتلون الحراس ثم يفتحون الأبواب كلها و يعطون الإشارة إلى الشاطئ ليدخل الجيش إلى المدينة و فعلاً دخل الجيش و عمّت الفوضى و أحرقوا و دمروا و لم ينجوا أحد و لكن الرومان القدماء يقولون أن الناجي الوحيد من تلك المذبحة كان الأمير (اينياس ) الذي تمكن من النجاة و سكن في مدينة لاثيوم الإيطالية حيث ولد فيها مؤسس مدينة روما التي أصبحت عاصمة ايطاليا من أشهر مدن أوربا على الإطلاق و هكذا انتهت حكاية مدينة طروادة التي حرقت و اندثرت تسع مرات و انتهت حكاية الشعب الذي اشتهر ببناء المباني العظيمة و المنتزهات الجميلة و اشتهر أهلها بنسيج الملابس و الأقمشة الصوفية و برعوا في تربية الجياد التي أخذوا يتاجر بها اليونان و لقد كان أهل طروادة مشهورين و خبراء في خزن المواد الغذائية و الزيوت في جِرار ضخمة يصل طول الواحدة منها إلى مترين و أكثر . و تحولت أراضيهم بمرور الوقت إلى تلال مغطاة بمزروعات شتى.

ويقال أن المؤرخين قد شككوا في حقيقة مدينة طروادة واعتبروها مجرد قصة خيالية ابتكرها الشاعر اليوناني القديم ( هوميروس)(المترجم)

[2] مجلس المديرين، حكومة المديرين في فرنسا

[3] حكومة القناصل في فرنسا من

 

للخلف