التعصب -التحليل النفسي لظاهرة مرعبة

10/08/2013 09:05

التعصب

 التحليل النفسي لظاهرة مرعبة[1]

بيتر كونتسن

Peter Conzen

ترجمة: أ.د. سامر جميل رضوان

Translator: Samer J. Rudwan

Summary: The terrorist attack on September 11th, 2001 shattered the illusion that in a technical-rational world of the future fanatical hate will become a calculable factor. The coactions between fundamentalist spirit and weapons of mass destruction accrue to undreamed threatening scenarios. A profound analysis of the phenomenon “fanaticism” is today more urgently needed than ever before. This essay wants to give an overview about nature and contents of the fanatical, work out the unconscious motives behind extreme convictions. In the second segment an epigenetic theory is developed by the gradual growth of a radical potential in the stages of the life cycle as it can harden under special historical and biographic conditions in fanatical attitudes.

ملخص: زعزع اعتداء 11 سبتمبر عالم 2001 الوهم المتمثل في أنه في عالم الغد التقني-العقلاني سوف يصبح الحقد التعصبي  في عالم الغد التقني-العقلاني  عاملاً محسوباً. فمن تفاعل ذهنية متطرفة و أسلحة التدمير الشامل انبثقت سيناريوهات تهديد غير متوقعة. و تبدو اليوم المعالجة الجذرية لجوهر الفكر التعصبي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. و هذه المقالة تسعى إلى إلقاء النظر حول جوهر و محتوى التعصب وتوضيح الدوافع اللاشعورية الكامنة خلف القناعات المتطرفة. وفي الجزء الثاني سوف نقوم بتطوير نظرية تخلقية عن النمو التدريجي لاحتمالية التطرف في أطوار المراحل الحياتية، و كيف يمكنها تحت ظروف تاريخية و تاريخ حياتية محددة أن تتصلب إلى اتجاه تعصب.

 

 

تمثل الأصولية الدينية الممتدة عبر العالم  و الأخبار اليومية المرعبة حول العنف الناجم عن الإرهاب إحدى الظواهر الباعثة على القلق في عصرنا. فأي حقد تعصبي  غير معقول  يدفع أناس، ينطقون باسم الله، إلى تحويل طائرة ركاب إلى صواريخ كروز أو يجزون رؤوس الأبرياء أمام الكاميرا  أو يطلقون النار على ظهور أطفال مدرسة هاربين؟

يتملكنا الخوف و الغضب فيما يتعلق بتحقيق آخر إمكانات الشر.  علينا أن نتعلم كره السلوك الشرير، من دون أن نتحول بأنفسنا إلى مبررين فظيعين أو قضاة زوريين (بارانوئيين). فجعل "القوى الشريرة" في العالم الثالث هي وحدها المسؤولة عن تفجر الوضع العالمي الراهن، وكأنه لم يحدث في أوروبا حرق للسحرة أو الهمجية الفاشية أو وكأن أسلحة الدمار الشامل لم تطبخ في مطابخ سم القوى الكبرى، سوف يمثل ادعاء خطيراً بالعصمة.

فالاعتراف بميولنا التعصبية كلها لابد وأن يشكل اليوم الشرط الأساسي لكل حوار إنساني.

 

ولكن ما الذي يكمن خلف النزعة الإنسانية للتعصب؟ كيف يمكن أن تتكرر باسم الدين أشد أشكال العنف، ما الذي يحول مناضلو الحرية إلى متعصبين قساة، هل تقود الجماهير نفسها إلى حتفها؟ 

و بغض النظر عما إذا كانت الجرائم و الضلال تبدو مرضية (باثولوجية pathological) أو جرمية، فعلينا ألا نقلل من قيمة جانب التأثر الديني المنحرف.  ففي الكلمة "التعصب" تكمن "fanum'.  وبالأصل كان "fanatici" هم الذين تحولوا في محيط المعبد من قبل عفريت إلى حالة من الحماس المستعر. فالأمر يتعلق بإمكانية رهيبة "للحالة الإنسانية Conditio humana"، بالانزلاق في شر لايرحم، قهري و مطلق إلى حد ما.

لقد شهَّر مفكرو التنوير و في مقدمتهم فولتير بعدم التسامح و الانتقام و عدم الحب عند المتعصبين والاندفاع المغلف بالكره للتعصب المقدس . إلا أن محاولة تحقيق النظام السياسي المحكوم بالمنطق بالقوة، أو فصل الروح عن جذرها اللاعقلاني-الغامض  يوقظ أشباح جديدة.

ومع المحاكم الثورية وحفلات الردح القومجي في العصر الراهن و السيناريوهات الكابوسية للدول الشمولية و الحرب الشاملة حل التعصب الديني محل التعصب السياسي، و غالباً ما كان هذا التعصب الديني متجاوزاً التعصب السياسي بالبشاعة و الاستعداد البارد للتدمير. ويبدو أن الإرهاب الراهن قد اتخذ لنفسه منبعاً جديداً كلية، ويظهر بوحشية جبارة حاصداً عدداً كبيراً من الأرواح. فما العمل ضد ظاهرة تتنصل من كل قيم التسامح و اللاعنف؟. "فالحرب ضد الإرهاب" هي دمار مستحيل و تؤجج ذلك التعصب بالذات الذي تريد محاربته.

كما ينبغي للنضال ضد الفقر و الحرمان و فقدان المعنى ينبغي أن يتحول لواجب عالمي بمقدار الدراسة الأعمق لاستعداداتنا للتعصب والعنف اللاعقلانية. ولكن "من يده في النار غير الذي يده في الماء". إذ أن التعصب في الإنسان بالذات يتجلى بأشكال و ألوان مختلفة، ويرتبط بدوافع متنوعة و قد يتستر بمظهر حذق، بحيث يكون من الصعب الوصول إلى تعريفات وتفسيرات علمية موحدة أو حتى تقديم وصفات. ومن المؤكد أن نشوء وتفاقم الظواهر التعصبية يرتبط بدرجة كبيرة بالفقر و التفقير و الأزمات الاقتصادية، إلا أنه لا برجوازيي منظمة الألوية الحمراء ولا معتدو الحادي عشر من سبتمبر ذوي الأوضاع الجيدة كانوا مدفوعين بأية أزمة اقتصادية في أفعالهم الجنونية.

و مازال حتى الآن أولئك الذين يتحجرون بهذا الشكل إلى درجة أنهم يبدءون برؤية الموت والقتل وسيلة مشروعة لجهادهم بعض من قلة. و قد يستطيع التحليل النفسي وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا الثقافية و علماء التاريخ أن يقدموا مساهمتهم المثمرة في السؤال عن الاستعداد النفسي بالتحديد و عن الدوافع اللاشعورية الكامنة خلف الانفجار التعصبي المفاجئ إلا أنه يظل هناك شك في أن ينزلق المرء في خطر التقليل من هول الأمر و الإساءة للضحايا. ولكن ترك الظاهرة في مجال القوى الغيبية قد يعني الغدر بأحد أوجب المطالب للتفسير. ويظل واجبنا بفتح سراديب الفهم المنطقي في العواطف الإنسانية الأعمق و الأكثر وحشية، مع معرفتنا بأننا سنعثر يوماً ما على منطقة الشر المفجع. 

 

جوهر التعصب –الشخصيات التعصبية

هناك عدد كبير من الظواهر يتم اليوم التعبير عنها تحت مصطلح "التعصب Fanatic  " أو "التعصبية Fanatism[2]، فإرادة التحمل عند الرياضي المفرط، و الخطبة الورعة لمغال طائفي أو تبرم المواطن العادي، أو الشغب في ملعب كرة قدم غربي أو ردة الفعل الجماهيرية الغاضبة بعد صلاة الجمعة عند المسلمين. ولكن ما الذي ينتمي في السلوك المتطرف إلى التعصب الفعلي ومتى تتحول القناعة السليمة إلى أصولية  fundamentalism متزمتة و هل التعصب هو نوع من الأصولية المفرطة، يشبه الهياج في جانبه العنيف؟

فجوهر التعصب هو الاستحواذ بقناعات عاطفية متصلبة بشدة، تعشش في لب الهوية و تتجلى نحو الخارج بعدم التسامح من دون أي استعداد للحوار و الحلول الوسط، و غالباً ما تترافق مع زوال الكبح نحو العنف المتزايد باطراد. و بشكل أكثر مما هو الأمر في الأصولية يتعلق الأمر باستكشاف الحقيقة عند الخصم، و مناقشته –بِنَفس مرتفع مطلق الذاتية، وتعقُّبه و تدميره في الحالة المتطرفة. و قد ميزت أبحاث التعصب بين التعصب الفردي و الجماعي والجماهيري و التعصب الديني و السياسي و الأخلاقي، وصنفت أشكال التعصب من نحو التعصب "الحامي" و "البارد" و "الصامت"  و "الصريح".  أو بنى الشخصية  "العميقة" و"الواضحة" (قارن Bolterauer,1989; Hole 1955; Conzen,2005). وعليه فإن الاندفاعية المتعصبة لدى المتعصبين الأصوليين هي وليدة الاستعداد الداخلي على الأغلب، أي سمات معينة من الشخصية بالتوليف مع مصير دافعي أو أسري محدد. وغالباً و في موقف داخلي أو خارجي متأزم تداهمها رؤية أو تكليف أو رسالة متحيزة ثائرة. إن الإحساس بأن الإنسان هو وسيلة لقوة عليا، أنه صوت الله، كثيراً ما يمنح ظهوره إيحائية عالية. فكثيراً ما كان التأثر الحار بالأفكار قد حرك تغيرات فنية وسياسية و علمية. وطبقاً للرأي الهيجلي بأنه لا شيء عظيم في تاريخ البشرية قد حدث من دون عاطفة (معاناة)، فلابد لنا من عدم إنكار مقدار الحنق و البحث عن التوافه  في الشخصيات المقدسة و الكارزميين السياسيين. و من ناحية أخرى تجد البرودة و غضب الإرادة و الاندفاع بالكره لدى المتعصبين الأصوليين بواعث متجددة باستمرار لمآسي كبرى. و بالتحديد في مواقف الأزمات تتلقف الشخصيات الديماغوغية بمتلازمة النرجسية الخبيثة malign Narcism (قارن Kernberg ,1998) المبادرة، و تستمد من التأثير بمخاوف و استياء  resentment الجماهير العريضة شعوراً شاذاً بالقوة، و تتحول دائماً في عصورها إلى مبشرة بالشر.

ويختلف عن ذلك المتعصبون الأصوليون: فهنا يتم غرس الخلجات-العاطفية من الخارج في هويتهم. و يحصل انفجار التعصب من خلال الاتصال بحركة متطرفة أو هيئة تبدو كارزمية و تحظى عندئذ بديناميكيتها الخاصة. و غالباً مايتعلق الأمر ببشر، مهددين بالفراغ النرجسي أو معذبين من أنا أعلى سادي، بحاجة عميقة للانتماء و الإيمان  و إن كانت في الوقت نفسه مستحوذة بالاستياء. و بالتحديد في أوقات الأزمات والارتباك والشك ينبثق المتعصب الأصولي، الذي يعاش منقذاً، كالضوء، يعيد بضربة واحدة المعنى والاتجاه إلى الوجود المهشم المبعثر. و في نوع من "هذيان التفاهة" المتزايد يجعل مثل هؤلاء الأشخاص أنفسهم بلا شرط أدوات في يد جهة مؤلَّهة، مستعدون لبذل كل الجهود والمكروهات في سبيل الحصول على الحماية والاعتراف.   ويصبح موضوع الولاء التعصبي هو خدمة الجماعة، "القائد"، "الحركة". مع التنازل عن التفكير المستقل و الخلجات الضميرية المستقلة و ليس من النادر مع إزالة مطردة لكوابح النزوعات الجنائية.

و لا بد هنا من تمييز متعصبو الواجب، المستحوذون بالعاطفة، الذين يرون أنه من يصونون شيئاً ما عظيماً، فكرة قائمة، اعتقاد ما أو أخلاقاً معينة و يدافعون عنه و يعملون على نشره بتأثيرهم المتحمس.  فكل شيء ينبغي له أن يسير مائة بالمائة بشكل دقيق وأصيل، عندئذ يمكن للفكرة أن تتفتح بكمالها الكلي. ولنتأمل الولاء المطلق للشكل لدى الفنانين والإيمان الحرفي لدى المرائين بالدين و العناد أو الاستبياع، الذي يحاول فيه الإيديولوجيين إخضاع  الواقع المنفر لطوباويتهم.  و هنا يتجلى بصورة خاصة أحد مصادر التعصب المتمثل في  الانقسام بين الأجزاء الناضجة و الأكثر بدائية للضمير. فمتعصبو الواجب غالباً ما يمتلكون حكماً شخصياً متمايزاً و جمالية مرتفعة  aestheticism و إحساساً مرتفعاً بالقيمة. إلا أنه حتى أبسط الانحرافات، أقل أمر مرتجل Improvisation يستثير حنقاً شديداً و انتقاداً لاذعاً من الأنا الأعلى، غالباً وصولاً إلى نقطة يبدأ فيها الكره و الامتعاض  resentment بافتراس قيمة الفكرة. ويمكن لأخلاقيو المبادئ المتعصبون في قمة الجماعة أن يحدثوا تطورات وخيمة العواقب. و يمثل كالفين  Calvin أو روبسبير Robespierre  [3] نموذجان أوليان لإثارة الوحشية الباردة في خدمة مثل أعلى طاهر تعصبي.

ولدى المتعصبون القهريون بالمقابل يظهر تعصب مستحث أو مستثار induce في شكله البدائي primitive الأشد وحشية على الأغلب.  إنهم "الأتباع" التقليديون، الجلادون، مجرمو المكاتب و الأتباع المنفذون، الذين يوصون بفعل أي شي بلا شروط و من دون أي استناد معمق لعالم القيم و يحققون بهذا المعنى و الأهمية لوجودهم التافه. التعصب هو النزعة نحو إرضاء السلطة تحت كل الظروف، تنفيذ مهمة معطاة بأكبر سرعة قدر الإمكان، بفاعلية من دون أي تفكير. و غالباً ما ترتبط لدى هذه الشخصيات الإرادة الحماسية السادية بالطموح للسلطة و شهوة الكسب. و يختلف الأمر لدى متعصبو الواجب فهم أسرع استعداداً لتبديل الجبهات، و إنكار ماضيهم فيما بعد، إذا ما بدت لهم السلطة التي كانوا يقدسونها بشكل أعمى ضعيفة. وغالباً يشكل المتعصبون القهريون في الأنظمة الشمولية المصفاة الداعمة بين فكرة عصمة الطاغية infallibility ideal of dictator  و بين الواقعية الفجة لعالم القتل، ينفذون من دون اعتراض، من دون أي إحساس بالضحية العمل القذر. فمن بين زبانية أمن الدولة النازيين في العالم الذهاني لمعسكرات الاعتقال كان هناك خبثاء[4] أذكياء intelligence Cynic  و في الوقت نفسه سيكوباثيون متوحشون. جميعهم خضعوا بلا شروط "لإرادة القائد"، جميعهم أغلقوا المنطق النقدي، الذي كان يفترض له أن يسجل مباشرة جنونية أعمالهم. ورؤية هؤلاء البشر على أنهم مجرد عجلة صغيرة في آلة كبيرة قد يعني التماهي مع تبرير أنفسهم الشاكي. لقد كان محترفوا الوحشية من نحو هوس Hoess  أو آيشمان Eichmann كمال الشر Perfectionist of Evil ، سخروا كل طاقتهم و خيالاتهم الشاذة في تنظيم المذابح الجماعية.

 

التعصب الجماعي والجماهيري

يوجد التعصب الجماعي في كل مكان تمثل فيه الاتجاهات والأهداف المتطرفة جوهر إيديولوجية المجموعة و متبنية باطراد متزايد العنف نحو الداخل والخارج. و المبدأ الساري هنا هو المبدأ المطلق في مكافحة الشر باعتبار المجموعة رأس حربة الخير، ومن أجل ذلك لابد للفرد أن يخضع، أن يسخر كل طاقاته ويضع نفسه تحت تصرف المبدأ المشترك. وبالتحديد في الطوائف أو المذاهب الدينية والسياسية أو في دوائر القيادة في السلطة المطلقة نلاحظ تضارب وخيم بين التعصب الأصولي originary Fanatism  للزعيم و بين التعصب المستحث (المُحدَث) induced Fanatism  لأتباعه. فهؤلاء الأتباع يدعمونه في هوامات العظمة و في التحريف الزوري (البارانوئي) للواقع، يستغلون مخاوفه وضعفه، يتنافسون في تنفيذ إرادته بطاعة متعجلة. مقابل هذا تتم حمايتهم من القائد، وتعزيزهم ويمكنهم أن يعززوا من قيمة أنفسهم بشكل نرجسي مصطنع تحت ألق عزه الهدام. وبما أنه لا يمكن على الإطلاق تحقيق هدف العدالة الكاملة، تصبح الحرب ضد صورة العدو أشد وحشية باطراد، و فقدان الإطار الواقعي أكثر بروزاً. وليس من النادر أن يتوه تعصب الجماعة في حيرة ويأس وينفجر -ولنتأمل الذبح الجماعي لطوائف "نهاية الزمن" أو حمامات الدم التي يسببها القاتل الراكض (آموك Amok)- في تصفية أخيرة مدمرة. 

وهناك مجموعات متطرفة أخرى تعتبر نفسها على أنها منظمات نضال و مؤسسات تأهيل وشبكات خلاقة creative Network  في الوقت نفسه. و تسعى بعناد نحو هدف التحرر من السيطرة الخارجية و تقرير المصير الوطني و غالباً ما لا يستطيع المرء في البداية وصف أعضاء مثل هذه الجماعات بالمتعصبين العميان. فبعضهم يوحي مظهره بالهدوء و الذكاء والمتعاطف ولا يطالبون إلا بالعدالة لأنفسهم ولشعبهم المقهور. إلا أنه بداية عندما يشتعل موضوع الكفاح تتفجر فيهم القسوة النفسية.

و التعصب الجماعي المدعوم و المنمى منهجياً من المنظمات الاستبدادية غالباً ما يكون وحشياً و غداراً. و لنتأمل هنا فرق البلطجة شبه العسكرية ووحدات الدعاية و المراقبة و التصفية لأمن الدولة النازي أو الألماني الشرقي أو الأجهزة الأمنية الأخرى الذين  قاموا بتصفية كل المعارضين والمقاومين وغير المرغوب فيهم، ومن ثم عملوا على تأمين الهدوء  للدكتاتور. وغالباً حتى ضحايا الإهانة و التدريب العسكري يأتي يوم يتماهون فيه مع أعضاء مثل هذه المنظمات بصورة شبه إلهية-مستكبرة مع هوامات السلطة المطلقة، جاعلين من ضحاياهم مساحات إسقاط[5] للخجل و مشاعر النقص التي يبدو "بحق"  أنهم يلاحقونها و يعذبونها ويدمرونها في ضحاياهم.

و نتحدث عن التعصب الجماهيري عندما تستحوذ على مجموعات كبيرة من الناس حالات مشاعر عاطفية هائجة و قناعات عمياء. و قد يكون التوكيد مرة أكثر على الحماس الهوسي في لحظة الحمية و الهياج و الحماس والصخب –بدءاً من الغاضبين الراقصين في العصور الوسطى و انتهاء بطقوس العربدة التضحية بالنفس في العروض الغنائية الإليكترونية لعصرنا. أو يغمر الاستنكار والغضب و الحقد على الجمهور، الذي يمكن أن يتحول بسهولة إلى عنف فاسق و سعار تدمير. و في حالات الجمهور يكون خطر العدوى بالخوف من المتعصبين أكبر ما يكون. فأي بؤرة أو دوامة جماعية من المشاعر البدائية تكتسح المشاعر الأخلاقية وتعطل المنطق. وكل ما تم بناؤه وتشكله عبر عقود من الهوية المتمايزة في الشخصية يبدو في ضربة واحدة في مهب الريح (قارن Mitscherlich, 1977). إن ما يقلب الجمهور في الأوضاع الاستثنائية ليس الشعور بالصلة أو الارتباط الليبدوي (Freud,1922) فحسب، وإنما كذلك نرجسية مفرطة الشدة، قدسية تقريباً، "الذات الجمعية المتضخمة grandiose Groups-Self" (Kohut,1973)، و ارتفاعها من خلال الإحساس بالقرب الجسدي و مشاعر قوة "المجموعة الفيزيائية" (Kakar,1997). ولكن الشعور الجمعي بالقوة بالذات سرعان ما ينتهي على سبيل المفارقة باستعداد تخديري للخضوع. لقد كان تحويل الجماهير إلى قوة صادمة سياسية وتعصبية حماسية هدف كل الديماغوجيات[6]  demagogy (مهيجو الجماهير)  في جميع العصور و أخذ في القرن العشرين صفة التجربة العلمية – لاعقلانية التقنية المتطورة the High tech irrationalism للاجتماعات الثقافية الفاشية-.

 

التعصب الديني و السياسي و الأخلاقي

يبدو التعصب الديني الذي يستنزف نفسه في مكافحة الشك و استئصال الشر، وكأنه الشكل البدائي أو الأصلي للتعصب الإنساني و شعلة التاريخ. و بالذات فإن جهاد الديانات التوحيدية  monotheist Religion في سبيل الدين الوحيد الصحيح كلف مجازر  hecatombs و دماء وخلف جراحاً عميقة في النفس الجمعية لليهود و المسيحين والعرب. و لكن حتى الديانات الآسيوية التي تبدو متسامحة –ولنتذكر هنا المذابح بين السيخ والهندوس أو إرهاب طائفة الأوم Aum-Sect- أظهرت انحرافات عميقة في الميل البشري للإيمان. ومن المؤكد فإن جزء كبير من الشطط يقوم على سوء استخدام instrumentalization  التعاليم الدينية لأغراض غير شريفة أولاً وأخيراً. و ليس هناك من شيء يمكن تهييجه واستثارته في أوقات الأزمة مثل جرح المشاعر الدينية؛ فليس هناك أي مطلب بالسلطة أو أنا  الجماعة أشد منعة من تلك التي يتم تشريعها من الله؛ و ليس هناك من صورة للعدو يمكن تشويهها أكثر من رميها "بالكفر" أو "الإلحاد" أو "باستحواذها بالشيطان". يضاف إلى ذلك أنه يكمن في جوهر الخبرة الدينية ذاتها شيء من التطرف، في شكل لا يجيز أي شك أو تشكيك على الإطلاق. ومن يؤمن بحقيقة الله فإن الدفاع و نشر الدين غالباً ما يصبح  ملزماً بالنسبة له. ولكن متى تتحول العقيدة إلى الخرافة، و التدين الصحي إلى التطرف، و الزهد إلى مازوخية معذبة لذات؟

فمن حيث المبدأ  إذا كانت التعاليم الدينية تريد تقوية الحياة، تقوية مبدأ التوالد Generative ضد الشذوذ الممكن لطبيعة الدافع الإنسانية (قارن Erikson, 1981 )، فإن الدين بالأصل كما يرى شاسيغوت-سميرغل Chasseguet-Smirgel (1989)  أقوى حصن ضد سيطرة وسيادة الشر. إلا أن النزعة بالذات نحو تصوير و تجسيد الشر على هيئة الجن و الشياطين والأرواح الشريرة يمكن أن يؤدي إلى انقسامات خطيرة. إذ أنه يصبح من السهولة بمكان إطلاق شبهة الارتباط بقوى الشر على الأشخاص أو على جماعات إنسانية كاملة غير محبوبة و يصبحون وقت الجد معرضون للانتقام البدائي. والنصوص الدينية المقدسة تحث على الإيثار وحب الغير و التسامح و الرحمة و تحذر من ادعاء العصمة و سوء استغلال السلطة و الإسقاط سيء النية، وهي نصوص دائماً ما يتجاهلها المتطرفون على سبيل المفارقة. فلا يوجد أي دين يستطيع منع أن يقوم أفراد متطرفون بنسج صورة للعالم من قطع دينية، يتحول فيها الله من حقيقة محبة-متسامحة إلى هيئة والدية مرعبة، وكأنه أنا أعلى سادي مسقط على السماء. وبشكل أقرب ما يكون للحتمية لابد للمتعصبين الدينيين أن يسقطوا الشر الكامن في صدورهم والشك الذاتي و نزوعاتهم الدافعية و نزعاتهم التمردية على الآخرين و يقامونه هناك بالنيابة. فإذا ما شجعت تركيبة تاريخية ما على الجهاد، فإنهم يشاركون بوصفهم "عبيد أوفياء" لله على الخط الأمامي للجبهة. وما زالت حتى الآن برودة وغدر ملاحقة السحرة و الاستجوابات، و اليقين الراسخ للمدعي و هلع الضحايا و السادية المتصاعدة  للممارسات التعذيبية و الاعتراف الإجباري و الاتهامات التي جعلت الهذيان يتحول إلى جائحة تتجاوز كل قدراتنا على التصور. 

 

في النتيجة التاريخية الوخيمة للتعصب الديني، الاضطهاد و المذابح و الحروب المقدسة صهرت العقيدة –باعتبارها المالك الوحيد للحقيقة- الناس في اتجاه attitude عدم التسامح المتطرف، حيث يسري مبدأ الدفاع عن قضية الله، الدائمة التبني، ضد أعداء الدين. فيتشابك الكره مع السادية اللامتناهية ضد "الكفار" و الأقليات و مجموعات الخصوم، التي ينبغي تحقيرها و إهانتها و استغلالها و تدميرها بلا تبصر بوصفها "المادة الحاملة للشر". فقد خطر على بال فولتير Voltaire   في زمن فرسان الصليب "كل أوروبا تزحف نحو آسيا و طريقها مشرب بدماء اليهود". وفي الواقع فإن التعاليم الدينية قد جعلت الأمر صعباً في جميع العصور من خلال كبحها للميول التدميرية عند البشر. إلا أن مقاومة العنف تصبح أكبر بكثير عندما تشجع السلطات الدينية هذا العنف أو تسكت عنه على الأقل. 

و على عكس ذلك يهدف التعصب السياسي إلى تحقيق أهداف دنيوية بالطرق المتطرفة-العنيفة، التي، بالتصاهر مع التعصب الديني، تكتسب صفة شيء جليل، عظيم، حتمي، سام بشكل صوفي   mystic transcendence والتي تتم التضحية في سبيلها بانتظام، وعلى عكس كل التأكيدات، بحرية وكرامة الفرد. وسيان فيما إذا كان الأمر يتعلق بالعزة الوطنية أم بالتحرر من السيطرة الخارجية أم "بالحفاظ على النقاء العرقي" لعرق ما أم "بآخِر" كفاح ثوري عالمي –فإن التعصب السياسي في القرن العشرين خلق لنفسه شياطين جدد كان لابد من محوها في صراع على الحياة و الموت. فقادة  مدفوعين بالاستبداد المطلق وبوعي إيديولوجي متعصب بالرسالة ، مثل ستالين أو ماو،  سلبوا إرادة شعوب كاملة، استغلوا – بكل الإمكانات التقنية للحداثة- الجماهير لسيناريوهات هدامة، وبنوا  أجهزة قمع وحشية. وبما أنه لم يكن من الجائز أن يعاني النظام الاشتراكي من نقاط ضعف، فقد كان لابد و بشكل حتمي من البحث عن الفشل في الأفراد، في "البعبع" المعادي للثورة الواجب تقصي أثره في كل مكان. ويشهد الترحيل الإجباري بلا تبصر و الفلاحين المجوعين، عمليات الاستعراض التي تظهر العقوبات الصارمة على الضحايا، الملايين من المرحلين و المصفين إلى معسكرات العمل – كل هذا يشهد بنظام مهول تنكر كلية لحرية و سعادة الأفراد. غير أن كل هذا  لم يتجاوز حدثاً، ما زالت كل الكلمات حتى الآن تعجز عن وصفه- أوشفتز Auschwitz [7]- و الإزالة الصناعية الواعية لشعب كامل، ليس لسبب اقتصادي ما، وإنما كنتيجة وحيدة لهذيان عنصري. ولم يكن هناك أي وقت من الأوقات كان فيها شك بالنوايا مطلقة الشر "لإرهابي الإنسانية أدولف هتلر" (Stierlin,1975). وحتى اليوم لا يوجد اتفاق حول أي من أهدافه السياسية الهذيانية كانت أكثر إلحاحاً لديه، غزو "مجال حياة" أو النزعة، "الموضوع الشرير"، "عدو العنصر اليهودي"، تدميره في هؤلاء. أما طروحات الذنب الجمعية فلم يعد أحد اليوم ينادي بها. إلا أن الانتهازية  opportunism  والميل للانقياد الأعمى، الإنكار و المشاركة الحماسية لكثير من الألمان "العاديين" أثار فيما بعد الاستغراب بشكل مرعب.

 

ويقصد بالتعصب الأخلاقي المبالغة بالنزعة نحو النزاهة والزهد الأخلاقيين بالارتباط مع المكافحة الشهوانية و الميوعة والفسق. و ليس من النادر أن يعني الكبت الجنسي و ضغط المثل الأخلاقية المرهقة و عدم القدرة على الحب أو تحريم الحب الانزلاق في تطورات متطرفة للشخصية. و بالنسبة لرسل الأخلاق القهريين تتحول الحياة الدافعية إلى واقع دائم الكرب مشوب بلاخطيئة، و يمكن للمعبر نحو الذهان أن يصبح مطاطاً على شكل هذيان بدائي archaic بالذنب  أو إخصاء ذاتي استحواذي. ويعد التعصب الأخلاقي دائماً مكنون أساسي من التعصب الديني و يخدم كذلك في التعصب السياسي بانتظام في التمييز Discrimination   ضد الخصم. فموضوع الكره عند المتعصب هو دائماً سطح إسقاط لكل ما هو قذر و شرجي ومقرف و التحقير اللفظي يجعل التغلب عليه يتحول إلى فعل "تنظيفي". لقد تم اتهام سحرة القرون الوسطى بكامل الطيف المقزز من الشذوذات الجنسية، وصولاً إلى النقطة التي بدأت فيها النساء الممارس عليهن الإرهاب المقيت بالتماهي مع الهوامات الشاذة للمدَّعي[8]. و كذلك الملاحقة السياسية و الحروب القرن العشرين الصليبية اعتبرت تبخيسياً Cynic  "وقاية عرقية Race hygiene " أو "تنظيف عرقي  ethnic cleaning". وفي القرآن نظمت العلاقة بين الجنسين بشكل صارم، حيث عدت و تعد الانحرافات و الفسق والتمرد و الجنسية المثلية على أنها مخالفة شديدة لله وأحكامه القطعية. و بشكل يكاد يكون أقرب للنمطية يقسم الإسلاميون الجدد بأن الغرب هو مكان الفساد والاختلاط غير الشرعي بين الجنسين  promiscuity والتهافت، على أنه سم يحاول اختراق العالم الإسلامي الذي يخاف الله و "يفسده من الداخل. وفي الواقع يمكن للظهور المفاجئ للصرامة الأخلاقية الذاتية، وبالتحديد لدى الإرهابيين العرب، أن يكون علامة للطور الأولي من التعصب fanatical Prodromal Phases . فقد انسحب محمد عطا "العقل المنفذ" لاعتداءات 11 سبتمبر من الدراسة إلى عالم الصلوات والطقوس الدينية، وابتعد بشكل مربك عن النساء، و حدد في وصيته ألا تمس جثته امرأة. وهنا تظهر بوادر شك بدائي بالخوف من الجنسية و الحميمية و العطاء،  جعله ينعزل و ربما أسهم في تصلبه التعصبي.

 

التعصب من وجهة النظر التحليلية النفسية بوصفه استبدادية بين نفسية

بغض النظر عن الكيفية التي نفسر فيها التعصب من وجهة نظر التحليل النفسي، سواء بوصفها انحراف وظائف العقاب للأنا الأعلى أو بوصفها تكوين عكسي ضد الحقد والكره والحسد أو الخجل، أو بوصفه نكوص جمعي عند وجود تهديد بفقدان التعاضد الجماعي –فإن ما يستثير الإحساس التعصبي شخصياً، يظل دائماً الشعور بتهديد الهوية. فالناس يستجيبون بتعصب خصوصاً عندما يتم الاعتداء على قيمهم الأساسية أو ولاءاتهم أو اتجاهاتهم الدينية أو التقليل من قيمتها. عندئذ سرعان ما تنفجر أنماط الاستجابات الراسخة في التطور العرقي  phylogenetic، والتي هي أقل تخصيصاً و أكثر قابلية للاستغلال بشكل لا متناه لدى الإنسان من طقوس الدفاع-الهرب المطابقة لدى الحيوانات العليا. و بكلمات التحليل النفسي فإن الأنا في مواقف الخوف الشديد و الخجل أو الغضب ينقلب إلى مستوى الوظائف الدنيا للموقف الزوري (البارانوئي)-الفصاماني، و يقسم العالم، و أحياناً بطريقة عشوائية كلية إلى فئات خيرة وفئات شريرة. و كل ما هو إيجابي و حقيقي وموثوق يتم حصره بالذات أو في الإطار الداخلي للجماعة الخاصة؛ في حين يتم إسقاط كل ما هو متناقض و مهدد  نحو الخارج على قوى الشر العميق، التي يتم تحميلها مسؤولية الشر كلها، التي تعد مقاومتها الحاسمة الخطوة الأولى من أجل ترميم ضياع الهوية المشلولة. ومثل هذه الاستبدادات البين نفسية تنتمي في تعكراتنا المزاجية و عنادنا إلى الحياة النفسية الطبيعية. فكل إنسان يمكن أن ينزلق في استجابات انفعالية تعصبية (Conzen, 2005)، في حماس غير عقلي أو في غضب انفعالي أو أن يتصلب في طور عبور تعصبي طويل (المرجع السابق). ولكن علينا ألا نتحدث عن تغير تعصبي في الشخصية إلا عندما تستحوذ على جوهر الذات قناعات راسخة لا تتزعزع وبصورة دائمة، و تستقطب كل الطاقة النفسية نحوها و تغير بشكل متطرف هوية الشخصية بنوع من خبرة رؤيوية  apocalyptic مزمنة مفادها شيء ما مطلق الخير –إرادة الله، اللحمة الوطنية، مبدأ العدالة- مهدد بشيء مطلق الشر.  ولايعود هناك مكان للتأجيل والصبر والانتظار و الحل. لا بد من محاربة الشر بكل الوسائل، و الانتصار للخير، عندئذ تصبح الحياة ممكنة بكرامة وحرية ولياقة. و بوعي مرعب بالرسالة و استياء رهيب في الوقت نفسه، يتابع المتعصب هدفه، ويتقوقع بشكل غير قابل للتعليم و التصحيح في صورة للعالم ، لا يوجد فيها أية أصوات رمادية أو أية تناقضات. ويصبح إسقاط كل الغضب، كل احتقار على مبدأ شرير واحد، و احد فقط، -بما يشبه نوع من البيت الزجاجي من الكره- جامداً كلية و حصرياً بالمطلق و ذهانياً تقريباً. وبما أنه لايعود يُسمح  للمعلومات من الخارج التي يمكنها أن تبرئ صورة العدو بالمرور، وتقوم صورة العدو بشفط "المواضيع الشريرة" للاشعور من الداخل في شكل من المغناطيس البين نفسي، يصبح الأمر أكثر تهديداً، ويتكاثف إلى غول محبب للخيالات. فتنشأ دائرة زورية (باناروئية) نمطية: فكلما أصبح العدو في الخيال أكثر شراً، فلابد من مقاومته بشكل أشد، و من جهتها تعزز ردة فعل العدو المعاكسة الإسقاطات الذاتية. وفي الوقت نفسه يتم بشكل مطرد إدراج مواضيع لا ذنب لها، والتي ترتبط بصورة فعلية أو مفترضة بصورة العدو –النساء، الأطفال، كبار السن- في تجسيد الشر وفي الحالة الجدية يتحولون إلى ضحايا نزعة لا ترحم للانتقام. وما يبدو للمحيط على أنه قمة انعدام الضمير، يعد بالنسبة للمتعصب تكليف إلهي، واجب مقدس. 

وبالفعل فإنه يكمن في جوهر كثير من الانحرافات التعصبية للشخصية إمراضية (باثولوجيا) رهيبة للضمير، "السقوط الشيطاني" (Hole,1995) من مثل أخلاقي مرتفع إلى حقد لا حدود له. فعند وجود إدعاء هائل بالعصمة يتم انتزاع قيمة محددة من الطيف الكلي للقيم و الجري ورائها بتطرف شاذ، في حين تخفت القيم الأخرى كالتسامح و التعاطف و الرحمة. فلنتأمل حماة الحيوان المحاربين أو مناهضي الإجهاض الذين يبدؤون في النهاية بالقتل بأنفسهم، أي يفعلون بالتحديد ذلك الذي يتهمون به موضوع كرههم. فالأنا و الأنا الأعلى ينصهران معاً في دور المنتقم أو محرر الإنسانية أو محارب الله إلى اتجاه عظامي يحصِّن ضد التعاطف وكل مشاعر الذنب. وباسم أسمى مبدأ أخلاقي يلاحق المتعصب عدو رؤياه بالجزء البدئي من الأنا الأعلى الطفولي، و يتحول في إطار محكمة لا ترحم إلى المدعي العام و القاضي و الجلاد في الوقت نفسه. وفي أحسن الأحوال يعتبر القتل و الاغتيال  كضرر مصاحب للكفاح الثوري، على أنه إزالة "واقية للعرق" "للحشرات" البشرية أو – على أقذر وجه على أنها –علاج للضحايا أنفسهم. و هكذا يقال أن ملاحق السحرة ريميغيوس Remigius  قد اتهم نفسه في نهاية حياته بأنه قد أحرق أيضاً أطفال السحرة و طهرهم للحياة الأبدية.

و مهما شدد المتعصبون على نكراهم لذاتهم فيما يقومون به، فإن محركات أفعالهم الدافعية هي دائماً الحقد، الشعوري واللاشعوري، المفهوم وغير المفهوم، البارد و غير البارد. و بما يشبه الأمر في شذوذات الجنسية التي يتسلل إليها الحقد و السادية باطراد متزايد، يبدو أنه من الممكن أيضاً أن ينحرف التطبيق السليم للمثل الأعلى، وصولاً إلى نقطة لا يصبح فيها المثل الأعلى سوى حجة للتدمير. و من المؤكد، أن الحقد يظل في أشكال التعصب الصامت (الأخرس) و المعتزل مغلقاً، على عذاب المثل الأعلى الزاهد للذات، على الخوف المرعب من النار –أو من الانصياع للشيطان. وبداية عندما يتم التشكيك بالمنظومة الإيديولوجية لمثل هؤلاء الناس ينفجر البعض منهم بغضب نرجسي لا يكبح. و يميل التعصب الإنساني منذ البداية لمزيد من التصعيد الشرير، إذا ما أغلق المثل الأعلى، للتعويض عن الإهانة الشخصية أو الوطنية. وبغض النظر عن مقدار ما يكمن في "العداوات الموروثة"، في الصراعات الدينية والعرقية المزمنة من قيم من نحو الوطنية patriotism و الشرف و الكرامة و الاستعداد للتضحية، فإن الأمر الحاسم، إلى جانب الصراع على المكاسب الاقتصادية و الثأر والانتقام revanche thematic الدائمين، هو رد الإهانة للعدو المشيطن و السيطرة عليه بطريقة سادية وتحقيره. وبشكل خاص عندما تبدأ مجموعتان من الشعب، تدعي كل واحدة منها بأحقيتها لوحدها في البلد، باستغلال الله، فإن الصراع يهدد بالتصعيد إلى دائرة عبثية من النزعة للانتقام و الثأر والقصاص. و لا يمكن للصراع أن ينتهي بالنسبة للمتعصبين إلا عندما يتم سحق "الشر" الدخيل، "الكفار"، كلية من مجموعتهم نفسها ومن المنطقة ككل. و بما يشبه الاتفاق اللاشعوري يبدأ المتطرفون من كلا الجانبين بأول أعمال العنف، عندما تبدأ تلوح في الأفق بوادر المصالحة و نجاح مباحثات السلام. و في شكله الشرير المدمر يستغل التعصب الإنساني المثل Ideal  فقط كحجة للنوايا التدميرية. فالعدو، موضوع الحقد، لا يجوز هديه، إيقافه عند حدوده، ,إنما لابد من تدميره منذ البداية باعتباره وصمة عار، طاعون مهدد. إنها تلك "الرؤى الفاعلة active apocalyptic  رؤى هتلر و بول بوت، التي ما زالت تفتح أبواب الجحيم على طريق البحث عن عوالم مثالية، مطلقة الصفاء. و في الواقع  يبدو أن دافع الموت الخالص، "وظيفة محو الموضوع Desobjectalization function  (Green,2000)  تمزيق كل عمليات الحياة، النصر على الشر و العبثية الكلية، هو المتصرف  في مصانع الإبادة، في الحقول القاتلة killing fields".

فهل ما زال الاستحواذ بمثل هذه الأفكار الاستبدادية و التدميرية  قابلاً للفهم بالمقاييس العلمية النفسية السوية، ألا يتعلق الأمر في النهاية بمفرز عملية نفسية ذهانية غير مفهومة كلية؟. لقد أثار هذا السؤال اهتمام كتاب سيرة هتلر بشكل خاص. فبمقدار ما تنساب أجزاء مرضية للإنسان في القناعات المتطرفة و تصبح في حالة الانحراف التعصبي دائماً مطردة القيادة – التعصب ليس مرضاً نفسياً منذ البداية. فالمعاناة العصابية تسبب التناقض و عدم الثقة والوهن، ويتجلى الهذيان الفصامي على الملاحظ الخارجي بشكل مستغرب، وهو يعزل المريض عن محيطه. في حين أن المتعصب بالمقابل، على الأقل الموهوبين منهم، غالباً ما يمتلكون إحساساً رهيباً برغبات و مخاوف الآخرين، ويعرفون كيف يجذبون الجماهير وتهييجها واستثارتها وفي الوقت نفسه كيف يُفسِدون، ويجيدون تورية تطرف نواياهم بحذاقة. و بالتحديد فإن القادة الهدامون يستغلون أجزاءهم المرضية (الباثولوجية) و نزعات الهو البدائية في خدمة رسالتهم. فيؤثر الهيجان الهستيري بشكل كارزمي، و التحريض القهري بشكل حزمي، و الصمود الزوري (البارانوئي) بشكل مقدس.  ويكاد المرء يود الكلام عن "الهذيان السليم"، عن قناعة المآل الشاذة التي لا تتزعزع كلية، و التي تتم متابعتها بأقصى درجة من المنطق و الدقة. ويستطيع المتعصب أن يستخدم ببرودة الطاقة التي تنبثق من نفسه في خدمة رسالته، هنا يكون في قمة العقلانية. إلا أنه غير قادر على التشكيك بلامنطقية انقسامه الخاص، على التفكير بدقة بمبرراته. والنتيجة هي دائماً التأرجح المربك بين الحالات النفسية المختلفة، بين أشكال التفكير و آليات الدفاع الأكثر نضجاً و الأقل بدائية، تلك "الوثبة" من سلامة النية إلى الشك الغاضب، من التقويم المنطقي للوضع إلى الإسقاط البدئي للذنب. ولنتأمل ذلك الانقسام في جوزيف غوبيلز Joseph Goebbels ، الخليط من التوق الباطني  للخلاص و اليأس العدمي     nihilistic  و الحيوية المحدثة ذاتياً self induced Euphoria و البعد الكلبي Cynical Distantination، وكره الذات و الامتعاض الناخر. وكواحد من أكثر  قادة النازي جميعهم واقعية رأى بعد ستالينغراد حساسية وضع الحرب و ضعف هتلر الواضح، ليتمكن من تصحيح هذا الفهم في أقرب فرصة من خلال مزيد من التصديق.

 

الثقة البدئية المهزوزة بوصفها الطبقة الأعمق للتعصب الإنساني

لم تثمر حتى الآن كل محاولات عزو التطورات الشخصية المتطرفة بشكل صارم إلى صراعات طفولية محددة أو خبرات انصدامية أو تشكيلات أسرية أو تفويض أسري familiarly Delegation . إذ لن تتمكن أي نظرية علمية في يوم من الأيام في التحديد الشامل للعوامل الكثيرة و الصدف و التحولات التي تصب مثلاً في سيرة إرهابية ما.  إلا أن ذلك لا يعني أنه ينبغي النظر إلى كل تحقيق للسيرة الذاتية على أنه عديم الجدوى-افتراضي   useless-speculative .

تظهر المواضيع الأساسية، الآليات الأساسية للتعصب في أزمات النمو الاجتماعية النفسية للطفولة. ففي كل إنسان تتشكل منذ وقت مبكر بشكل تتابعي قوة متطرفة radical Potential، تتشبك أول مرة في المراهقة و المراهقة المتأخرة على رؤى انفعالية (عاطفية) وصور أيديولوجية محترمة و يمكن أن تتأزم لدى القليل من الأفراد –ضمن ظروف  حياتية وتاريخية خاصة- إلى تصلب تعصبي.

و يبدو أن الجذور المبكرة والأولية للحقد والتطرف الإنسانيين  تعود إلى وقت مبكر جداً قبل تطور اللغة، إلى حالات الغضب و الاغتراب في سن الرضاعة. ففي سن الرضاعة تكمن رؤى المتعصب المثالية Vision of  Fanaticers‘utopia  على نحو السلاسة النكوصية، البحث عن عالم التكافل الأصلي الأمومي النرجسي–الأولي primary-narcistic ، الصافي كلية والمنسجم. و موضوع الحقد عند المتعصب في أعمق الأعماق هو الشيء المُهدِّد للتكافل "الطيب فقط"، الشيء المقتحم للتكافل، المسمم له، المدمر. وقد أكد كل ممثلو التحليل النفسي على الهشاشة الرهيبة لبدايات وجود الأنا و إقامة الاتصال بالعالم. و فقط عندما يغلب جو من الأمان الحاني على المخاوف و حالات الألم التي لا يمكن تجنبها لسن الرضاعة، تنبت هنا تلك التفاؤلية الأصلية، تلك الثقة الأصلية بأن الإنسان نفسه والحياة بخير، "كحجر أساس للشخصية الحيوية" (Erikson, 1981; P.98) أساس كل القدرة اللاحقة على الحب، كل الأخلاق و الأمل الديني. و علينا دائماً في صعوبات و أزمات الحياة أن نصارع ضد الشك الأصلي، ضد مشاعر اليأس و الحيرة و الغضب،  التي من شأنها أن تولد الاستعداد للانقسام الأولي والتطرف والإسقاط المشحون بالحقد و الإغواء الديماغوجي.  

ويبدو وكأن الناس المتعصبين الممكنينpotential-fanatical  مضغوطين بشكل أكثر أولية elementary  من قبل صراعات الثقة، وكأنهم قد عانوا مبكراً من صعوبات، أقاموا بصورة سليمة النية اتصالات ومشاعر عميقة.  وليس من النادر أن يسبق الانفجار التعصبي فقدان شديد للثقة، فتزيد الميلانخوليا الداخلية و التمزق الخارجي الشعور المرتبك، الحائر، بعدم القدرة على مواصلة الحياة في عالم غير كامل بهذا الشكل.  وتأتي مواجهة الفكرة المنقذة أو الشخص الذي يوحي بالكارزمية،  بالأمل و المعنى إلى الهوية الممزقة كالبرق من جديد، وليس من النادر أن يوصف "بالحلول"، "بالكشف"، "بالإشعاع"، "بالولادة الثانية". ومنذ تلك اللحظة يرتبط قهر لا يرحم من الإيمان بالرؤيا الذاتية مع شك مرعب. والشيء المميز هنا هو تلك اليقظة الزورية (البارانوئية) الرهيبة، التي يتفحص بها الناس المتعصبون محيطهم على أقل علامة من الفتور و الشك. وبعد راينهارد هيدريش Reinhard Heydrich، رئيس جهاز أمن الدولة، الذي كان متفوقاً على رئيسه هاينرش هيملر Heinrich Himmler في البرودة و القدرة الشكاكة cynical Efficiency  "مبدع الشك الأعلى over suspect ". وبالفعل فقد اتخذ في العوالم المستبدة الشك الأصلي و قهر التأكد و المراقبة و الوشاية سمات كافكاوية[9]. كل شيء مضطرب ، فوضوي، عفوي، منفر بالقوة مشكوك به، في النهاية الحياة بالمطلق تصبح مشكوكاً بها. 

وفي جميع العصور كان الدين المنظم   organize Religion هو أكثر من قوَّى الثقة الأصلية للإنسان بأمان واستمرارية الوجود الإنساني. –غير أنه تمكن كذلك في أوقات الأزمات من تأجيج شك أصلي مستعص . وبالتحديد فإنه يبدو أن الأنصار و المتعصبين كثيراً ما تنقصهم طمأنينة وسكينة الثقة الدينية الحقيقية. ويبحثون في التمسك القهري بالعقيدة و القواعد والطقوس عن الحماية من الشك و القلق الوجودي.  وتبدو إشارات الخشوع و الخضوع، ذلك الذي يمارس بوصفه الطاعة لله و للسلطة الدينية، بشكل لا شعوري دائماً على أنها نوع من طقوس المصالحة مع الوالدين المجتافين[10] المعاقِبين الشريرين. و يعني الانحراف و لو قليلاً عن مطالبهما، الرمي في عالم مرعب من عدم الأمن و الشك الأصلي. ومن ناحية أخرى يبدو أن لاتسامح ولا منطق التعصب السياسي يتغذى أيضاً من الهوامات والمخاوف المبكرة. إن ما يجمع كل الشوفينيين و العنصريين و المعادين للسامية من كل الألوان هو وهم العلاقة Relationship phantasma الطفولية الباكرة. فتعاش الجماعة الخاصة بشكل لا شعوري على أنها أمجية[11] أم حامية ومثالية، ينصهر معها المرء بجبروت تكافلي، يجعله عظيماً، سامياً، جليلاً، خالداً و ينبغي الدفاع عنها بكل الوسائل ضد تهديدات الأشكال "القذرة" و "المنحطة".

فتحدد الريبة الرهيبة، "قلق الاختلاط" خبرة العنصريين للعالم. ويمثل الغرباء، الأجانب، من خلال مجرد حقيقة اختلافهم فحسب،  أذى للنرجسية الذاتية، و إما عليهم الاندماج الكلي أو يكافحوا بقسوة و إهمال مطرد التعصب (قارن Bohleber,1992). و كثيراً ما نجد في "كفاحي[12]" صور عن اليهود بوصفهم سوس وقوارض وحشرات وطفيليات تهدد باختراق العرق الآري "الصافي" و بتدميره من الداخل، استعارة مجازية من الحشرات، جعلت في النهاية المذابح الجماعية تتحول إلى عملية "وقاية عرقية".

إنه لأمر مرعب، كيف نكصت جموع غفيرة من الجماهير من منظور الأزمات التاريخية في انقسامات و مشاعر ملاحقة المرحلة الفمية. و يبدو، كما يرى فولكان (Volkan,1999) وكأن الفرد في أوقات الهلع الجماعي المتسلل ببطء يبحث عن الحماية في "خيمة" هوية-الجماعات الكبيرة، وكأن القائد، "عمود" الخيمة إذا جاز التعبير، قد انشغل (امتلأ) من جديد بالثقة الطفولية المطلقة. و في مثل هذه المواقف يطرح الغوغائيين (الديماغوجيين) أنفسهم بسهولة "كمجبِّرين للثقة الأساسية المجروحة". إنهم يروجون أساطير عن تجانس و لحمة و عظمة جماعتهم الخاصة، يوجهون الحقد بوعود ساذجة نحو صور الأعداء المختارين و يبدون من خلال ذلك بأنهم قد أزالوا كل الصراعات و التفكك كالبرق. و تتفجر التناقضات العرقية أو الدينية من جديد، الفروق الصغيرة والأصغر في الثياب، أو في الطقوس اليومية أو في اللهجة تستخدم لوضع خطوط الحدود بين الموثوق وغير الموثوق، الخير والشر. و يتحدث إيريكسون عن معبر الكلانية النفسية إلى الاستبداد، النكوص إلى نوع من خبرة العصبية، التي يتم التأكيد فيها على الضيق limited المطلق: "بالنظر لتحديد معين عشوائي للحدود لا يجوز، لما ينتمي في الداخل أن يخرج للخارج، و ليس مسموحاً لما هو في الخارج، أن يدخل إلى الداخل" (1981,P.80). وغالباً ما تكفي إشارة صغيرة – هجوم عنيف، تحرك في منطقة "عدائية"-لينفجر عنف بدائي و تشويه هذياني للواقع. فلا يشعر الفرد نفسه عندئذ غير جزء من جماعته المُهَدَّدة، و يترك نفسه في الحالات المتطرفة تنجذب إلى الوحشية، إلى أمور لم يكن قادراً على القيام أبداً بها في الأوقات المعتدلة.  و لنتأمل الحرب الأهلية اليوغوسلافية، حيث عامل الأصدقاء و الجيران بعضهم بين ليلة وضحاها كأعداء ألداء و تحول المجتمع متعدد الأعراق إلى جحيم القنص و معسكرات الاعتقال و الاغتصاب الجماعي. و أحياناً وبالسرعة نفسها يمكن للمجتمعات أن تتحرك من حالة الاستبدادية ثانية إلى حالة الكلانية. ولنتأمل هنا العودة الصامتة للألمان الغربيين إلى المبادئ الديمقراطية بعد عام 1945 و الاغتراب عن الماضي الدموي، على الرغم من أن بعض الاتجاهات التسلطية و القناعات المتطرفة قد ظلت عالقة في رؤوس الكبار ووَرَّثَتْها بشكل مربك إلى الجيل التالي.

 

 

 

التعصب ونار الحياء

إلى جانب الشك الأساسي هناك مصدر ثان للتطرف و التعصب في الإنسان كامن بعمق في الحياة الروحية الطفلية infantile يتمثل في الشعور المعذب والمدمر بالحياء. فغالباً ما نجد خلف قسوة معارك الانتقام الخاصة أو الجمعية انجراحات نرجسية شديدة. يعد الإرهاب سلاح المستضعفين. و حول موضوع الحياء shame اللاشعوري لدى الديماغوجيين من نحو أدولف هتلر هناك الكثير من الطروحات. لقد وصف المحللون النفسيون من نحو فرويد Freud  أو إيريكسون Erikson  أو فورمسر Wurmser أو فولكان Volkan  أو هيلغرس Hilgers الحياء على أنه الشعور المعذب بالاستسلام و الخضوع و التنازل وتسويد الوجه و حددوا جذور الخجل في مشاعر الاستسلام و الصغر في السنة الثانية من العمر. ومن المؤكد فإن التخجيل المعيّر في التنشئة الاجتماعية الطفولية يمثل محفز نمو، و لايمكن التفكير بالكرامة الشخصية والاندماج الثقافي من دون الشعور السليم بالحياء. إلا أن التخجيل الشديد يترسخ لدى الأطفال و اليافعين على شكل جراح نرجسية مستعصية في الذات، ويمكن أن يصبح سبباً في الخجل المزمن و الامتعاض المتجذر عميقاً. و بعض الاتجاهات النمطية للمتعصب، الدفاع الصائر إلى تسارع عن الاستقلالية الذاتية، ووضعية العناد المطلق، و تجنب الحوار الكلي يبدو أنها تمتلك جذورها التطورية الفردية  ontogeny في صراعات السلطة في السنة الثانية من الحياة. وغالباً، إذا ما حصلت عند  الناس غير الملفتين للنظر كلية حتى ذلك الحين لامعاوضة تعصبية-سعُرية  fanatical-aomk decompensation[13]، عندئذ ينفجر مقدار هائل من  الحياء المتراكم.

يمتلئ الأدب العالمي بنمط المنتقم التعصبي. حيث يخرج المعني عن السكة نتيجة إساءة نرجسية ما، ظلم تهتز بنظرهم له السماء. ويبدو العالم وكأنه انقلب رأساً على عقب، و تتعطل كل مبادئ الحياة الكريمة. فتبدأ الرغبة بالثأر بالاستحواذ على كل التفكير والطموحات. ويصبح المستقبل غير ممكن التصور، إلا إذا تم جعل الآخر، عدو الحياة،  نفسه في وضعية الاستسلام والانتصار عليه كشاهد مدى الحياة على التخجيل الذاتي. فقد جعل الظلم الموضوعي والشعور اللاحق باللاحول تجاه القضاء الفاسد ميشائيل كولهاس Michael Kohlhaas  البار في حالة متطرفة من غضب الحياء. وعندما توفيت زوجته علاوة على ذلك خرج عن طوره بشكل زوري (بارانوئي) و بدأ حرباً خاصة في سبيل حقه، فأحرق في غضب نرجسي مسعور قرى ومدناً كاملة، اعتقد أن عدوه موجود فيها. إن تماهي كولهاس Kohlhaas   مع رئيس الملائكة ميكائيل (ميخائيل[14])، وظهوره كمبشر للفقراء و المحرومين كان من الناحية الموضوعية تبريراً  Rationalization  لرغباته في الانتقام تدل على الانتفاخ غير المحدود لذاته الضخمة. وبداية و عند احتجاج مارتين لوثر أنهى طور عبوره التعصبي الشديد و فسح المجال أكثر للقوى النقدية-والنقدية الذاتية ثانية.

التربية المتسلطة بشكل متطرف التي تريد كسر عناد الطفل تعمل بكل أشكال الإذلال و التخجيل. وغالباً ما ينمو عندئذ لدى الطفل الرغبة الحارقة لأن يصبح هو نفسه كبيراً من أجل الانتقام من المواضيع القاسية. إن ما يدفع كثير من الدكتاتوريين في أعماقهم، يبدو موضوع حياء رهيب و انتقام. وليس من النادر أنهم غالباً ما يعانون من انفصال طفولي شديد، تم جلد مشاعرهم المبكرة بالكرامة و تقدير الذات. نرجسيتهم الخبيثة، عدم قدرتهم على التعاطف و الإنسانية تؤثر بطريقة شاذة في مواقف الأزمة على الجماهير المرتبكة بشكل جذاب جداً. و بالتماهي مع ذات مرضية متضخمة عليهم إسقاط المشاعر التعصبية للطفل الصغير و العجز والتفاهة على مجموعات الأعداء العزل، و كأنهم يقاتلون و استئصال ذاتهم هم المخجلة في هؤلاء.  كان أدولف هتلر طوال عمره غير قادر على الحب والحنان و المرح، كان يسيطر على نفسه بشكل مربك. حتى أشد المقربين منه لم يمنحهم أي مدخل إلى حياته الداخلية، ظهوره كان نوعاً من "الاستعراض الدائم أمام جمهور ضخم" (Fest, 1973; P.709) شكل رسالة تعصبية "الأساس الصوّاني"لعقيدته ، انتقامه بالانتقام من موضوع الكره لليهودية الاقتصادية العالمية، كبش الفداء لكل فشله الشخصي و في الوقت نفسه العار الهوامي "لعروسه" ألمانيا. و حتى في خطابات الحرب الثلاثة، التي لمح فيها هتلر إلى الهولوكوست، فقد ذكر أيضاً كيف أن "قهقهة اليهود"، قريباً ما سيتم "إخراسها"، في الوقت الذي لم تكن قد خطرت على بال أحدهم فكرة، السخرية منه (قارن Matussek et. al,2000).

و ليس من النادر أن تبرهن الإهانة النرجسية الجمعية في المواجهات مع الجماعات الكبيرة المتخاصمة على أنها أكثر أهمية من الحرمان أو الظلم الاقتصادي. فغالباً ما تندفن ذكريات الهزائم الوطنية أو المذابح أو الفرض غير العادل للسلام أو مس الرموز الدينية عميقاً في ذاكرة الشعوب الجمعية المؤسطرة تعصبياً fanatic mythologize بوصفها تخجيل انصدامي، واجب ولاء للثأر. و بالتحديد في مواقف الأزمات يحرك الديماغوجيين "هذه الصدمة المختارة" (Volkan,1999)، التي تنبعث قي خبرة الجماهير على شكل نوع من "الانهيار الزمني Time Collapse  " (المرجع السابق)، دفعة واحدة بشكل حي، وكأنها حدثت الآن. ويتم استعمال عدم السماح بهزيمة أخرى و تخجيل جديد من العدو، كنقطة اصطياد هلع متسلل و يمكن أن ينقلب بشكل مفاجئ إلى مزاج من الاستعداد للدفاع و الهجوم التعصبي.

ومن الطبيعي أن يسبب القمع و الاستغلال و الإملاء الخارجي الدائم حالة من الخيبة العميقة والخجل المزمن لدى البشر المتزنين. إذ ليس هناك من سيطرة خارجية، لا تتحول في يوم من الأيام إلى التهكم  cynicism و التوحش. و مثل هذا العنف المقيت ينتج الإرهاب القومي والانفصالي العرقي، و الدافع الأساسي بداية الولاء المفرط للإطار المرجعي الخاص،  وأمجية-الأم اللاشعورية التي قمعت و أُخجِلَت و شوهت من القوى الشريرة. وغالباً ما يعد الإرهابيون أنفسهم على أنهم مندوبون من الأكثرية الصامتة، منتقمين لجماعتهم المهانة. إن الظلم المُكابَد يتوق إلى الارتياح الكلي، إلا أن الدور الخاص "كضحية متمتعة بامتيازات" يجعل كل عمل عنف يبدو مبرراً. و ليس من النادر أن يضيق نوع من "اليأس الحازم" منظور الحياة life Perspective عند المتطرفين إلى الكفاح الأبدي. و في سلسلة العنف المتصاعد و التخجيل المتبادل –لنتأمل سيناريو الصراع الغارق باليأس في المدينة المقدسة- تنزلق على الأغلب كل الشعوب في حالة عقلية رهيبة من الامتعاض المزمن. و يتحدث كانسيبر (Kancyper,2000) عن "مبدأ العذاب Principle of   agony"، حيث تذوب الحدود بين الخير والشر، الظالم والمظلوم، القاتل و الضحية.

 

التعصب و مركب أوديب المتطرف

يبرهن مركب أوديب المتطرف radicalize Oedipus Complex نفسه باستمرار كمصدر طفولي ثالث للعنف و التعصب في الحياة الإنسانية. فحتى في تراجيديا العصور القديمة ظهر كيف يمكن للدراما حول الحب والغيرة و السلطة و المُلك أن تقلب الناس إلى جنون تعصبي. و بمقدار ما كانت نزاعات الأب-الابن، الأخ وأخيه تحدد التاريخ و ما زالت، فإن في النزعة نحو المطالبة المطلقة بالأحقية الذاتية و الإنكار الكلي للخصم تبرهن دائماً على أنها جزء من الديناميكية الذاتية للتنافس و الكره الأوديبيين.

فبالأصل رأى فرويد أن مكمن علاقة الحب الدراماتيكية بين الطفل ووالديه المحكومة بالفشل هو في مركب أوديب، الذي هو الخطوة المركزية للنضج و حجر العثرة الأساسي في الوقت نفسه في النمو الإنساني. ففي كل روح طفولية تترك التربية على مبدأ الواقع رواسب على العصيان و مشاعر الذنب كما تشحن (أي الرواسب) الصراعات الراهنة للإنسان من أجل القوة والسلطة والمنافسة بقوة تدميرية لاعقلانية. و في الواقع يمكن للغضب من الظلم الاجتماعي والسياسي أن يلاحق دائماً أشخاصاً محددين فقط، وليس القانونية الخاصة لعلاقات السلطة القائمة بذاتها أو البنى الاقتصادية. ودائماً، عندما تنزلق التناقضات الاجتماعية بين الفقر والغنى، بين ذوي الامتيازات و المحرومين في عنف مطلق، يمكن أن يكون قتل الوالدين أو الطفل النتيجة المأساوية النهائية. فخوف الطغاة من ثورة المقموعين حددت في المجتمعات ذات الفروق الاجتماعية و الطبقية الكبيرة بشكل خاص المناخ العام. إن ازدراع  implantation  تعاليم صارمة في الأنا الأعلى يهدف إلى منع أفكار النقد بمشاعر ذنب شديدة، و كان الدور الذي لعبه الدين المنظم في هذا التحويل إلى قاصر مخزياً في الغالب. ناهيك عن أنه حتى السلطة القمعية لم تتمكن من استئصال شوكة الشك والاعتراض عليها كلية. ودائماً ما كثف مركب أوديب من الرؤى الثورية عند المتمردين. ومن خلال بقاء نقدهم واقعياً أو انزلاقه بكره تعصبي مطرد للأب، فقد تحدد مصير شعوب كاملة. ففي الثورات الكبرى، الدموية، يكون دافع الانتقام أشد من تحقيق الأهداف السياسية الأساسية.  وسواء علناً في ميدان الكونكورد Place la de Concord  أم مختبئاً في الأقبية القذرة ليكاترينبورغ [15]Yekaterinburg  -ففي النتيجة يهدف الغضب الثوري إلى قتل الوالدين. فالثوريون يتماهون بالضبط مع تلك الاتجاهات التسلطية بالتحديد، التي كانوا قد حاربوها قبلاً ويشنون في طور من السعار هجمة من الرعب الانتقامي الذي لا يرحم. و باطراد متزايد يتحول الممثلين السابقين للطبقة العليا إلى مذنبين، أعداء الشعب، إلى مواضيع ينبغي تصفيتها، و كذلك المساعدين الصغار لهم، التي يكافح فيهم المرء بينه وبين نفسه الانتهازية الذاتية فيه هو. و بالذات فإن الشطط الجماهيري المتطرف، إشباع نزعة الكره، تخنق كل الهوامات السياسية، تقضي على طاقة التطوير البناء و تجعل من الفقراء و المحرومين من جديد كومبارس في لعبة السلطة.

وبالعكس فإن إرادة الدفاع الحاسمة عن السلطة المعاشة على أنها مقدسة هي كذلك بوابة دخول واسعة للتطور المتطرف للشخصية، و السؤال، من الذي سبب الويلات أكثر في التاريخ، الكره الأعمى للأب أم الإجلال الأعمى له؟. ففي كل مكان انتشرت فيه الصراعات الأوديبية بقسوة شديدة، و نمى الأنا الأعلى بشكل صارم جداً، بصورة حسودة ومتعصبة،  ينمو الميل للخضوع الأعمى و التبعية العمياء. وبالتحديد فإن لدى المتحمسين جداً وشديدي الولاء والشديدي التدين تتقدم النزعة التعصبية الدفاع عن الموروث و الثابت و إرادة الله بكل الوسائل إلى محور الاقتناع الجامد- و غالبا ما يتم استغلاله من الطغاة بصورة خطيرة. فالحيرة من عقلية التبعية المشؤومة للفاشية جعلت من حركة 1968 تبحث عن الخير  في مكافحة مبدأ السلطة بالمطلق.  إذ لايمكن أن ينشأ "وعي نقدي جديد"، لا يترك نفسه تصاب بالعمى من سلطة مستكبرة، إلا في إطار تربية متحررة بالمطلق من السيطرة فقط. و بتخدير من الأيديولوجيات التي برهنت عدم صلاحيتها تاريخياً منذ أمد بعيد، رأي المرء نفسه قريباً جداً من هدف حضارة عالمية من الحب. و لكن عندما تفرقعت الأحلام، و انهارت كذلك حركة الاحتجاج بالسرعة نفسها التي انبثقت بها، تسلقت جماعة صغيرة نحو وعي مطرد التطرف بالرسالة بوجوب الإقدام على الثورة الآن. وبهذيانٍ بحربٍ نهائية رؤيوية  apocalyptic  بين قوى الشر والخير، تحولت ما يسمى "بألوية الجيش الأحمر Rote Armee Fraktion " في إرهاب انتقامي متسع الرقعة، في برودة و دقة أعمال القتل إلى صورة (كاريكاتير) للظروف الفاشية تقريباً، التي ادعى المرء مكافحتها. فزعيم العصابة أندرياس بادر Andreas Baader، الذي ترعرع بدون أب، جسد كجانح صغير يافع كل نرجسية تضع كل سلطة موضع الشك.  وعندما ترقى إلى قائد الإرهاب الألماني اليساري، لم يعد يتحمل أي تناقض. و اعتبر هو وعشيقته غودرون إنسلين Gudrun Ensslin أن الاعتراضات والاعتبارات السياسية عبارة عن نقص في الحزم الثوري. و الأمر الحاسم كان هو الإرادة المطلقة للفعل. وكل أعضاء الجيش الأحمر قد انتسبوا بالأصل من أجل تحرير الأنا من العبودية و الوصاية السلطوية، و تحملوا نغمة بادر Baader الآمرة الفظة. ومثل كثير من المتهوسين السياسيين لم يكن لتمرده التعصبي أي هدف ملموس، ظلت فلسفته الحياتية في النهاية متشبثة بمبدأ لاحدود له للذة. وفي النهاية ترقى بادر Baader باتجاه اهتياج agitation أوديبي مطرد عظامي، كان مقتنعاً من أنه سيتمكن بكومة من فلول الإرهابيين من تدمير نظام ألمانيا الاتحادية و الناتو و النظام الرأسمالي كله.

ومن الطبيعي فإنه علينا في هذا الموضوع بالتحديد أن نمتنع عن تعميم التفسيرات التحليلية النفسية بشكل غير نقدي على الثقافات غير الغربية، حيث أن الاستعداد للخضوع، الذي قد يصل في الحالات المتطرفة إلى التضحية بالنفس، يعد مكوناً بديهياً للتقاليد المشتركة. فالإنسان المسلم حتى اليوم يعد أكثر بكثير جزءاً من مجتمع و عقيدة عليه احترام قوانينه وتوزيع الأدوار فيه و لا يستطيع الانفصال عنه بسهولة. و الولاء المطلق للأسرة و السلطة الدينية واحترام وطاعة الابن للأب ليست تعبيراً عن "مركب أوديبي سلبي" أو شهوانية مثلية مستترة، وإنما أساس حامل لثقافة محافظة مطيعة لإرادة الله. ومن ثم فإن صراع الأجيال لا يحل كثيراً في التسابق والتنافس، وإنما في الانتظام والخضوع، في تماه مبكر، الأمر الذي يولد استعداداً كبيراً نحو إسقاط الصراع الأوديبي على الخارج. و في الواقع فإننا نعيش في الإسلامية Islamism الراهنة بالذات الانقسام المتطرف خصوصاً لصورة الأب. فكل المثل Idealization  تتمركز في الله، الذي يعد ترتيبه للعالم هو الضمانة الوحيدة لبقاء الإنسانية. وكل الحقد يتوجه نحو "الشر"، و السلطة المستكبرة و الحكام الفاسدين الذين خانوا الله جميعهم، واستسلموا للفجور الغربي، وبشكل خاص على السياسيين الغربيين الذين يقودون بقيادة الرئيس الأمريكي جورج بوش حرباً صليبية جديدة على الإسلام و قيمه.

 

المراهقة و الصلة بالتطرف

واحدة من التحويلات الأخرى، والتي ربما تكون الأهم، بالنسبة للتطورات المتطرفة في الشخصية تحدث في المراهقة. فليس هناك أية مرحلة من مراحل الحياة يكون فيها الإنسان حساساً للرؤى المثالية Ideal Vision  بهذا الشكل كما في هذه المرحلة،  و في الوقت نفسه سهل الإغواء من خلال العقائد المتطرفة radical  doctrine. ففي هيجان المزاج و التناقض بين الميل و النفور يمر المراهقون بكل الصراعات الطفولية في سبيل الثقة و الاستقلالية والخجل و الذنب ثانية.  و التحمس للمثل العليا و الأفكار، و أحلام اليقظة بعوالم مثالية تعني سنادة للنرجسية الشابة المزعزعة ويمكن من ناحية أخرى تأزيم أزمة الهوية. و بالتحديد لدى اليافعين المرفوضين والمجروحين كثيراً يجلب التماهي مع الشعارات المتطرفة و القادة اللاتصالحيين الترتيب الاصطناعي إلى الهوية المتطرفة، و "يفرغ" في الوقت نفسه الفشل والضعف. ولنتأمل في التحزبات المشحونة بالحقد في تعاملات اليافعين، حيث يتم البحث عن العدوانية والعنف بشكل قهري إلى حد كبير. ففي نوع من "تكافل الخصم   adversary-Symbioses " أو من "الرقص القاتل deadly dance" يتم إسقاط أجزاء الذات المحتقرة و غير المحمولة و الضعيفة على صورة العدو الخارجي المتضيقة إيديولوجياً، و محاربتها في الضحية المعتدى عليها وتدميرها (قارن Bohleber,2002). و عليه يعيد التعصب المخزون damp للمتطرفين اليمينيين الشبان و التماهي مع الشعارات المناهضة للسامية و الجنسانية sexist  و العنصرية، ترتيب الذات من جديد على مستوى حدودي-ملائم Borderline-Kindly. إن الوعي بكون المرء ألمانيا، يعني نوع من إعلاء الشأن النرجسي المتكلف، و يصهر التضامن الهش في "حميمية من الحقد". فينتهي العزم على الحفاظ على هذا "الموضوع المثالي" "صافياً ضد "الطفيليات" الأجنبية و أعداء المجتمع بعقلية-برنامج، رغاءه الابتدائي إذا جاز التعبير، ما يربط في الصياغات المعقدة للمثقفين اليمنيين الحديثين بالحقد. و بالطريقة نفسها يقود الإسلام المتطرف بالنسبة لبعض الشبان العرب المقتلعين من جذورهم في المراكز الصناعية الأوروبية إلى التوجه في صراعات الهوية و الحميمية المكبوتة. ويقدم التماهي مع الله وتعاليمه تحديداً واضحاً للخير والشر، ويفتح اتصالات جماعية متماسكة، ويحول الشعور بالخضوع تجاه الغرب إلى اتجاه من التفوق  superiority الأخلاقي الحانق. و بمقدار ما كان وما زال تطور الشبان الأوروبيين الذين يصحون فجأة على جذورهم الإسلامية و ينزلقون في هوية إرهابية غير مفهوم، فإنه يتجلى دائماً في مقدمة التأثر من خلال دعاة متطرفين، انغماس في قناعة دينية متطرفة، و التقوقع في تعصب جماعي متضيق.

من ناحية أخرى فإن الحماس الإيديولوجي و اللاوسطية و الاستقامة عند المراهقين نوع من الإنعاش والحافز للتقدم. وتحتاج كل ثقافة إلى الشبان مختلفي التفكير-النقدي، الذين يكونوا غير راضين عن التناقضات و التطور التاريخي لمجتمعاتهم، والذين يثورون ضد الظلم "الطبيعي" و يلفتون النظر إلى مصير المحرومين و المستبعدين. و بالتحديد في الأوقات الاجتماعية الانتقالية يكون هؤلاء "المتمردون المخلصون loyal Rebels " (Erikson,1981) رأس حربة تحول الوعي الاجتماعي. إن عدم الرضا بالأوضاع السياسية والاجتماعية السيئة يستفز دفعة واحدة فصائل كاملة من الشبان، ويقود إلى عصيان و احتجاج واسعين. وهنا وفي الموقع الحرج بين الانزعاج المحق و الهياج المرضي، بين ضرورة الحفاظ على التقاليد وخطر التحجر المؤسساتي غالباً ما تقرر مسائل صغيرة (تافهة) المصير الاجتماعي اللاحق. فإذا ما تم تشويه مبدأ الاحتجاج الضروري للحياة من قبل السلطات الراشدة بشدة، فإن صراع الأجيال سوف يشحن بالخيبة و الإسقاط و الغضب، تحل هوامات العنف محل الاحتجاج الذي ابتدأ بشكل لعبي –كما هو الحال في تمرد الشباب في عقد الستينيات من القرن العشرين-. وبالتحديد عندئذ يمكن أن يحصل أن بضعة شبان ينزلقون في "هوية الحنق Identity of Worth" ويتوهون في وهم عنف تحرير الإنسانية وصولاً إلى فقدان الواقع. وتاريخ الجيش الأحمر الألماني RAF أو الألوية الحمراء الإيطالية أو الجيش الأحمر الياباني Japanese Red Army يظهر، مثله مثل المثل العليا التحررية أو البيئية أو السلمية (اللاعنفية Pacifism )، أنها تستطيع أن تنحرف في تعصب جماعي مسعور و رؤى تدمير سادية.

تمثل الظاهرة المتناقضة المتمثلة في استغلال قدرة الشباب على التحمس و الحماس الشبابي من خلال المؤسسات الاستبدادية و القادة المهوسين بجنون العظمة أحد الوجوه المأساوية لموضوعنا. فمن مراهقي الحملات الصليبية التي كانت تستغل الأطفال مروراً بشبيبة هتلر وصولاً إلى جنود آية الله الخميني من الأطفال –فقد كان دائماً يتم إصابة الشبان بعدوى الإيديولوجية المشحونة بالحقد و التضحية بهم بلا تبصر في الحسابات الباردة للسلطة. و من المؤكد، فإن جزء كبير من عمى البصيرة هذا هو نتيجة للدعاية وغسيل وحشي للدماغ. ولنتأمل هنا في الأطفال اليتامى المنتقين و الشبان العرب المجندين بشكل إجباري، الذين يتم إعدادهم في معسكرات خاصة للحرب المقدسة و تحويلهم إلى آلات للموت. إلا أنه من ناحية أخرى فإن رغبة الشبان هي الانطلاق نحو شيء أسمى، و أن يتم تمييزهم و"اختيارهم" من هيئة تبدو كارزمية، وهي رغبة يتم استغلالها بطريقة إجرامية (قارن Erlich,2003). و لنفكر هنا بأفلام الفيديو المصورة التي يقوم فيها الشبان الفلسطينيون بتوديع أهلهم قبل تنفيذ عملياتهم الانتحارية، الذين يقسمون بفخر، بأنهم لم يعودوا يتحملون إذلال الاحتلال الإسرائيلي، و أن حياتهم لم يصبح لها اتجاه و معنى إلا عندما التقوا بالسلطة الدينية. إن الوعي، بأن الأنا-المثالي Ego-Ideal   يمثل مجتمعهم، بأنهم مصطفون من الله، من المثل العليا الدينية، يشبه "الإسمنت" (Volkan,1999)، الذي يعيد ترتيب الهوية المفتتة من جديد. إن طقوس الإيحاء الذاتي و الخطب الدينية حولت المرشحين قبل العملية إلى حالة من الوعي الخاص "للشهيد"، الخاضع كلية لإرادة الله. ناهيك عن أنهم بالنظر لموتهم يذكرون أصدقائهم وأسرهم أن يظلوا صامدين. و التضحية بالنفس تصبح وكأنها تتويج و ذروة حياتهم. و في الواقع فإن الأقارب ينكرون ألمهم و يفسرون العملية على أنها "عرس".

 

انبثاق التعصب و الارتقاء التعصبي

ولكن ما الذي يسبب لدى القليل فقط التصلب التعصبي الحقيقي، ذلك التبديل الشخصي غير المفهوم للاتجاه، ذلك التشرب الكلي للإنسان بطاقته المتطرفة؟ لقد استطاعت الفرضيات العلم نفس أعماقية و الديناميكية الأسرية و الطبية النفسية إلقاء الضوء على بعض من ذلك وطرحت من جهة أخرى ألغازاً جديدة. فدائماً هناك تفاعل خاص جداً بين الدوافع طويلة ومتوسطة وطويلة الأمد، وغالباً ما تحسم صدف صغيرة و أصغر، فيما إذا كان مصير إنسان ما سيتصلب باتجاه تطرفي أم لا. و غالباً ما نجد قبل الانبثاق التعصبي الفعلي طور إنذاري Prodromal Phases  (Conzen,2005) ، زمن التذبذب القاتل. و تستحوذ الخطة المقبضة على الشخصية، إلا أنه ما زال يوجد قوى معاكسة، وارتباطات بالمحيط الموثوق.  ويزعم بأن زياد جرار، قائد طائرة القتل الرابعة في 11 سبتمبر قد تذبذب حتى اللحظة الأخيرة بين نمط الحياة الغربي و طريق الاستشهاد. و أحياناً يكتمل التصلب بشكل متسلل، كما حصل أحياناً في ساحة التطرف اليساري لسبعينيات القرن العشرين. وفي وقت من الأوقات، على سبيل المثال عند أول استخدام للسلاح، تنقلب فكرة اللاشرعية إلى جد دامي، يلاحظ المعني بأنه قد مضى في طريق لا عودة عنه. و في حالات أخرى يحدث تبديل مفاجئ للاتجاه. وما يكون جاهزاً كنمط معرفي، يستحوذ فجأة على الشخصية. ولنفكر هنا بهروب أرولريكه ماينهوف Ulrike Meinhof من معهد دالمر، تلك "القفزة" المشهورة نحو اللاشرعية. ومن ناحية أخرى يمكن لما يصفه المتعصبون بأنه انبثاق مفاجئ للرؤيا، أن يكون جزءاً من أسطرة الذات. و عليه فإن "خبرة باسيفالك" المزعومة لهتلر قد تم دحضها بوضوح في هذه الأثناء كقائد خرافة.

و من المنظور التحليلي النفسي يعني انبثاق التعصب إعادة بناء كلي للذات و لإدارة الطاقة النرجسية. فالقناعة التعصبية تزحف باتجاه لب الهوية، تصبح محور و مفصل خبرة متغيرة كلياً للعالم. وتزحف عناصر كانت حتى الآن هامشية و سلبية من الذات، أي عدم التسامح والغضب و الفظاظة إلى المركز، وتجعل من المطلب متطرفاً بشكل شديد. و ينقطع الارتباط بالأسرة أو الأصدقاء أو التصورات القديمة عن العالم، الذي ما زال يمسك بالمتطرف،  وغالباً ما يتحول إلى احتقار لاذع. وينساب الليبدو إذا جاز التعبير من المواضيع و يتمركز في رفع شأن المهمة الذاتية. و يتحول النجاح في الرسالة الذاتية إلى جوهر الأنا-المثال، أن يتذبذب، أن يفشل، يصبح النقد الوحيد تقريباً للأنا الأعلى. و يعمل الأنا هنا كمساعد تنفيذ بلا توقف، ولكنه لا يعود قادراً على الاعتراض النقدي و على تصحيح المسار. و بصورة غير مفهومة بالنسبة للمحيط فإن المعني قد سار في طريق بطولي منفرد. وتقفر  القدرة على الحب بشكل كامل، هذا إذا كانت موجودة بالأصل. و على الزوجات إما أن يخضعن كلية للمفهوم الشاذ عن الواقع أو أن يتم صدهن بشكل مشحون بالكره. و لعله يمكننا أن نتحدث هنا عن توالدية Generativity   منحرفة، لاقرار لها، تدفع الناس المتعصبين. إنهم يريدون إصلاح العالم في كليته، إلا أنهم يفتقدون للقدرة على الإحساس، على تحمل التناقضات، على عمل الخير الملموس، حتى لو كان متواضعاً. وكل الممثلين المشهورين للجيل الأول من الألوية الحمراء الألمانية ضحوا بعلاقاتهم بأولادهم في سبيل عظمة رسالتهم الذاتية. وفي حين أرادوا جعل أن العالم أفضل بالنسبة لأجيال المستقبل، فإنهم تخلو بشكل متطرف عن مسؤوليتهم الخاصة الأساسية.

و من غير الممكن التنبؤ بالكيفية التي سينمو التعصب فيها في مجرى حياة الرشد اللاحق، هل سيتفاقم أم سيصبح عادة أم يتلطف. فما زالت الشخصيات المتعصبة قادرة حتى اليوم تلقى الإجلال حتى اليوم بوصفها مثلاً عليا و شخصيات كارزمية، و قادرة على توكيد ذاتها و تضع ختمها على العالم. لقد مات هؤلاء شخصياً –"متلازمة بينوشيت Pinochet-Syndrome" بشعور من الرضا الداخلي، و استطاعوا تعتيم جوانبهم الهدامة، مثل أتباعهم، من ميزان حياتهم. وغالباً ما يتهذب التعصب بعد تجلياته التهدمية-الشاذة. فكثير من الإرهابيين تخلوا بعد سنوات طويلة من السجن  عن إيديولوجيتهم، ونظروا لهياجهم العنيف فيما بعد على أنه يشبه المرحلة غير الحقيقية في حياتهم. وبعضهم بدأ حياة جديدة كلية، وتولى المسؤولية. و آخرين أصبحوا كسيحين، وتلاءموا مع كبر السن، و عوضوا صراعاتهم الباكرة ثانية، أو انحدروا من جديد، مثل  إرهابي الجيش الأحمر السابق هورست مالر Horst Mahler في وضعية إيديولوجية معاكسة بشكل متطرف. و في التطور الشاذ الواضح فإن التغير التعصبي في الشخصية هو "وجود نحو الموت". سافونارولا Savonarola أو روبيسبير أو هتلر أو أندرياس بادر أو سيد قطب، جميعهم أفرطوا في مطالبهم إلى درجة أنهم في النهاية قد قادوا أنفسهم إلى حتفهم بأيديهم. و جزء مر وجزء بطولي قاتلوا حتى النهاية "مبدأ الشر" المطلق، انتقموا بشكل لاشعوري من عالم برهن نفسه على أنه غير جدير برؤاهم.

 

خاتمة

هل ستستطيع البشرية استئصال نزعتها نحو التعصب و العنف، أو على الأقل صده؟ و هذا السؤال يبدو اليوم أشد مصيرية من حل التحديات الاقتصادية و البيئية الكبرى. فالوضع العالمي هو وضع متفجر، و المسألة الإنسانية القديمة جداً، من يتحالف مع من وضد من لتحقيق مسائل اقتصادية و التنفيس عن الحقد، لم تصبح في أي وقت أشد غموضاً مثلما هي الآن. وقلما يمكننا أن نستمر في الوقت الراهن تصور وجود سيناريو صراع عالمي كبير، "صراع الحضارات". إلا أن مجموعات صغيرة، و صغيرة جداً، تحمل قناعات دينية وشبه دينية شاذة يمكنها أن تسبب كوارث كبيرة. و يكاد المرء يجزم، بالمطالبة "بدكتاتورية الحكمة" (Freud,1927) ، ضد عاطفة لم نعد اليوم قادرين على تحقيقها. إلا أنه لن تقوم في المنظور القريب أية أخلاق مشتركة، أي هوية جامعة للشمل العالمي. بل على العكس فالنضال من أجل المواد الأولية الناضبة يحتمل أن يزيد من حماس الأنانيين القوميين و المتطرفين الدينيين. وكل شيء غير توقعنا لأزمات شديدة قادمة، سيكون نوع من تشويه الرؤية. إلا أنه ومع ذلك ليس هناك من بديل عن حوار الحضارات و الأديان، عن الدمقرطة التدريجية لهذا العالم.

و بمقدار تنوع التعصب و عدم القدرة على التنبؤ به في الناس و الجماعات، فإن آليات تشكيل الأحكام المسبقة و التمييز العنصري و الملاحقة تمتد عبر كل الحضارات و العصور دائماً بشكل مشابه. وقد توفرت  للعقل الإنساني الكثير من المعرفة حول إمكانات الانزلاق الذاتي، ونحن لم نعد نستطيع اليوم أن نتعلل بالأعذار. فمن ينشر اليوم الخرافات، ويؤجج صورته الأعداء عليه أن يعرف ما الذي يسببه في حالة الجد. و ليس هناك من مفكر قد شعر بمسؤوليته نحو التنوير بحزم و في الوقت نفسه أبرز من دون أوهام عجز الحكمة مثل فرويد Freud. ففي عام 1930 كان قد تنبأ بشكل مسبق بمخاوف الإنسانية من طاقة تدميرها الذاتي: "لقد تمادى الناس الآن من خلال السيطرة على قوى الطبيعة إلى درجة أنه أصبح من السهل عليهم بمساعدتها، استئصال بعضهم بعضاً حتى آخر رجل. إنهم يعرفون ذلك، ومن هنا جزء كبير لتوترهم الراهن، لتعاستهم، لمزاجهم القلق" وبالطبع يتابع:

 "but it is to be expected that the other of the two 'Heavenly Powers', eternal Eros, will make an effort to assert himself in the struggle with his equally immortal adversary. But who can foresee with what success and with what result? (Freud, 1930; P. 506).؟

 

ولكن من المتوقع أن يكون لأحد هاتين ‘القوتين السماويتين‘، إيروس الأبدية، أن تبذل جهدا من اجل إثبات ذاتها في الصراع مع عدوها الخالد مثلها. ولكن من يستطيع التنبؤ بالنجاح والنتيجة؟ (فرويد ، 1930؛ ص: 506)؟". فما الذي يمكن للمرء إضافته لكلمات فرويد في وضعنا الراهن أيضاً؟

 

المراجع

Auchter, T, Büttner, C, Schultz-Venrath, U, Wirth, HJ (Hrsg) (2003) Der 11. September. Psychoanalytische, psychosoziale und psychohistorische Analysen von Terror und Trauma. Psychosozial-Verlag, Gießen

Bohleber, W (1992) Nationalismus, Fremdenhaß und Antisemitismus. Psychoanalytische Überlegungen. Psyche 46: 689-709

Bohleber, W (2002) Gewalt in der Adoleszenz – Sackgassen in der Entwicklung. In: Schlösser und Gerlach: 557-572

Bolterauer, L (1989) Die Macht der Begeisterung. Fanatismus und Enthusiasmus in tiefenpsychologischer Sicht. Edition discord, Tübingen

Chasseguet-Smirgel, J (1989) Anatomie der menschlichen Perversion. DVA, Stuttgart

Conzen, P (2005) Fanatismus. Psychoanalyse eines unheimlichen Phänomens. Kohlhammer, Stuttgart

Erikson, E H (1981) Jugend und Krise. Die Psychodynamik im sozialen Wandel. Suhrkamp, Frankfurt aM

Erlich, S (2003): Trauma, Terror und Identitätsbildung. In: Auchter et al. 219-230

Fest, JC (1973) Hitler. Propyläen, Berlin

Freud, S (1921): Massenpsychologie und Ich-Analyse. GW 13, 71-161

Freud, S (1927): Die Zukunft einer Illusion. GW 14, 325-80

Freud, S (1930) Das Unbehagen in der Kultur, GW 14, 419-506

Green, A (2000): Geheime Verrücktheit. Grenzfälle der psychoanalytischen Praxis. Psychosozial-Verlag, Gießen

Henseler, H (1995) Religion - Illusion? Eine psychoanalytische Deutung. Steidl, Göttingen

Hole, G. (1995): Fanatismus. Der Drang zum Extrem und seine psychischen Wurzeln. Gießen: Psychosozial-Verlag

Kakar, S (1997) Die Gewalt der Frommen. Zur Psychologie religiöser und ethnischer Konflikte. C. H. Beck, München

Kancyper, L (2000) Das Gedächtnis des Grolls und das Gedächtnis des Schmerzes. Psyche 54: 954-972

Kernberg, OF.(1998): Wut und Hass. Über die Bedeutung von Aggression bei  Persönlichkeitsstörungen und sexuellen Perversionen. Klett-Cotta, Stuttgart

Kohut, H (1973) Narzissmus. Suhrkamp, Frankfurt aM

Matussek, P, Matussek, P, Marbach, J (2000) Hitler. Karriere eines Wahns.  Herbig, München

Mitscherlich, A. (1977): Massenpsychologie und Ich-Analyse – ein Lebensalter später. Psyche 31, 516-539

Richter, HE (1995) Denken gegen Anpassung. Hoffmann & Campe, Hamburg

Stierlin, H (1975) Adolf Hitler. Familienperspektiven. Suhrkamp, Frankfurt aM

Volkan, VD (1999) Das Versagen der Diplomatie. Zur Psychoanalyse nationaler, ethnischer und religiöser Konflikte. Psychosozial-Verlag, Gießen

Wirth, H-J (2001) Hitlers Enkel oder Kinder der Demokratie? Die 68-er-Generation, die RAF und die Fischer-Debatte. Psychosozial-Verlag, Gießen

 

 


[1] العنوان الأصلي للمقال: Psychoanalyse eines unheimlichen Phänomens) (Fanatismus Fanaticism – Psychoanalysis of an eerie phenomenon.

مجلة: منتدى التحليل ا لنفسي Forum der Psychoanalyse. الناشر: Springer Berlin / Heidelberg. الرقم الدولي الموحد للدورية الناشرة: 0178-7667 (Print) 1437-0751 (Online). العدد Volume 23, Number 2 / (99-119) Juni-2007-

 

[2] لمصطلح Fanatism مرادفات عديدة حسب السياق: التعصب، الغلو (في المجال السياسي والديني)،  المغالاة في الأفعال و التصرفات، الحماس المفرط، كما تطلق صفة Fan  على المعجبين في المجال الفني والرياضي، أو الأنصار (المؤيدين) لفريق معين......

[3] الكالفينية هي مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسي جون كالفن، وكان هذا الأخير قد وضع بين عامي 1536م و 1559م مؤلفه (مبادئ الإيمان المسيحي) والذي يعتبره الكثيرين من أهم ما كتب في الحركة البروتستانتية.

سار كالفن على خطى بولس الرسول والقديس أوغسطين في التأكيد على ما اعتبره سمو الله وسيادته على كل شيء، وتتقاطع أفكاره مع أفكار مارتن لوثر في أن تبرير الخطاة والخلاص يحصل عن طريق الإيمان فقط وليس بالأعمال. ولكن كالفن كان يعتقد بالاختيار المسبق، أي أن الإنسان بعد أن يخطئ لا يستطيع أن يمتلك الإرادة الحرة للتوبة، أما كل الذين سينالون الخلاص فأن الله كان قد سبق واختارهم قبل إنشاء العالم.

اعتبر كالفن الكتاب المقدس بأنه المرجعية الأولى ذات الشرعية والسلطة والتي يجب أن تخضع لها السلطات الأرضية، وقد نجح من خلال هذا الفكر بتشكيل حكومة ثيوقراطية في جنيف عرفت بنظامها المتشدد.

في القرن الثامن عشر الميلادي قام أحد أبرز رجال الثورة الفرنسية روبسبير مكسيمليان ROBESPIERRE MAXMILIEN  1758- 1794 بالقضاء على خصومه السياسيين، وبدأ بذلك عهد حافل بالإرهاب حيث كانت نتيجة أعماله القضاء على أربعين ألف (40.000) شخص.

 

[4] نسبة إلى المذهب الكلبي. و الكلبي شخص عياب، شكاك في طيبة الدوافع البشرية. والمدرسة الكلبية في القرن الرابع قبل الميلاد , تأسست في اليونان المدرسة الكلبية أو مجموعة الكلبيين ,الكلبية هي سمة للشخصية التي تتميز بالاحتقار الصريح للقواعد الأخلاقية .

كانت تتخذ موقف الاحتقار من العادات والثقافة وقد دفعهم ذلك إلى انتهاك الفضيلة وبالتالي فإن الناس الذين يتجاهلون قواعد الأخلاق والفضيلة بلا حياء , أصبح يطلق عليهم اسم الكلبيين وترتبط النزعة الكلبية بنقص التطور الثقافي والأنانية وغير ذلك من السمات السلبية .

 

[5] الإسقاط  Projection: يعرف الإسقاط بأنه إنكار الميول والأفكار الذاتية لما تسببه من مشاعر ذنب وعزوها للآخرين. فالمشاعر غير المرغوبة، كالعدوانية أو الصفات النفسية ذات القيمة السلبية كالبخل، أو الصفات الجسدية غير المرغوب فيها التي يمتلكها الشخص يتم إسقاطها على ألأشخاص الآخرين ونسبتها إليهم. ويستخدم المرضى الإسقاط أكثر من غيرهم وهي سمة مميزة في الزور (البارانويا). غير أنه يمكن أن يكون في حالات محددة آلية مفيداً لتجنب مشاعر الألم والتهديد والرؤية المؤلمة للانفعالات السلبية الذاتية للشخص. ومن ثم يمنع الشعور بالنقص. فنقل الصراعات النفسية الداخلية إلى الخارج يحفظ إحساس الإنسان بقيمته، غير أنه من جانب آخر يقود إلى الإدراك المشوه والخاطئ ولإلى الأحكام المسبقة. أما الإنسان الناضج فهو يتعامل مع الإسقاط بمرونة وحرية ويساعده في نقد المحيط، ويدفعه للمقاومة، ويجنبه إمكانية استغلاله من قبل الآخرين. والإنسان الناضج يستطيع من خلال التأمل إدراك التشويهات والتقييمات الإدراكية وتصحيحها والبحث عن أسباب الإسقاط.

[6] ا الديماغوجيا : كلمة يونانية تعني شعب – قائد – السياسي المتلاعب – يدل على التقييم الأخلاقي السلبي لنمط من الأفعال و التصرفات التي تشكل لونا من الرياء و النفاق في السياسة و التي تهدف إلى الاستحواذ على وعي الجماهير باسم أغراض أنانية و تتم عادة باستخدام وسائل الأخلاق ، و بين أهداف الديماغوجيا يأتي الوصول إلى السلطة و اكتساب الشعبية لدى الجماهير، وتحقيق المآرب الأنانية الطبقية و الشخصية و المتاجرة بمصالح الجماهير و تطلعاتها . و اللجوء إلى البواعث الوضعية و الرواسب المخلفة لدى الناس و حلف الإيمان الكاذب بالإخلاص للشعب ، إن القاعدة الاجتماعية للديماغوجيا هي وجود طبقات مستغلة تمارس سيطرتها على الكادحين لا بوسائل العنف المباشر بل و عن طريق الخداع السياسي أثناء الحملات الانتخابية و في الدعاية اليومية و تنظيم انتفاضات جماهيرية رجعية و الأعمال التخريبية .

الديماغوجية بالمعنى المستخدم اليوم القدرة على كسب تعضيد الناس ونصرتهم عن طريق استثارة عواطفهم واللعب بأحاسيسهم ومشاعرهم وليس عن طريق الحوار العقلاني معهم، والديماغوجي هو الشخص القادر على الوصول إلى السلطة السياسية مستخدماً مهاراته الخطابية ، حيث يستطيع أن يتحكم في انفعالات المستمعين إليه وأن يدفعهم إلى التحرك في الاتجاه الذي يريده هو بالرغم من وجود اعتبارات كثيرة موضوعية ترجح عدم التحرك في هذا الاتجاه ، ويرى العديد من المفكرين أن الديماغوجي لابد أن يكون متصفاً أصلاً بصفات كاريزماتية وبصفات قيادية ، وأن يكون شديد الثقة بنفسه وقادراً على أن ينقل ذلك الشعور بالثقة للآخرين بحيث يظهر لهم وكأنه مقتنع تماماً بصدق ما يقوله لهم رغم علمه التام بزيف ما يدعيه ، ودائماً ما يعزف الديماغوجي على وتر قدرته على الرؤية المستقبلية لأخطار تحدق بالشعب ولا يستطيع أن يراها ، فيدعو الناس للتكتل وراءه ليحارب بهم قوى الطغيان التي يعلم دونهم أنها تحاول قهرهم والسيطرة عليهم ، والديماغوجي يكون دائماً مهتماً بالوصول إلى السلطة أكثر من اهتمامه بالصالح العام ، ومن ثم يكون مستعداً دوما لتبني سياسات ذات عواقب وخيمة بالنسبة للشعب إذا ما كانت هذه السياسات ستحقق هدفه الشخصي في الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها .

[7]   أحد معسكرات الإبادة النازية

[8] النائب أو المدعي العام

[9] نسبة إلى الروائي  النمساوي فرانس كافكا Franz Kafka نز (1883 ـ 1924) وقد تميّزت آثاره بتصوير قلق الإنسان الحديث.

  1. [10]  الاجتياف introjection: عبارة عن تمثل خيالي لمواضيع وصفات تابعة لهذه المواضيع بحيث تصبح جزءاً من الأنا أو الأنا الأعلى.

الاجتياف يمكن تشبيهه بالامتصاص. والفرق بينه وبين التماهي هو أن التماهي نوع من التغليف الخارجي لبنية مزعزعة أما الاجتياف فهو تشريب هذه البنية داخلياً. وترى ميلاني كلاين أن الاجتياف عملية هامة ومفيدة في الطفولة، كونها تتيح للطفل استيعاب العالم، في البداية. ويوجد دائماً مع عكسه المكمل له، ألا وهو الإسقاط (أنظر أدناه). وترى كلاين كذلك أن الاجتياف والإسقاط هما أول آليتان يستخدمهما الطفل كأسلوب لإبعاد كل ما هو مؤلم عن الذات، وإن هدف الاجتياف جعل مواضيع العالم الخارجي غير خطيرة، من خلال إدخالها إلى الذات وجعلها جزء من الذات.

فالمشاعر التي لا يمكن إظهارها للخارج بسبب الخوف من العقاب والتي لا يمكن كذلك إسقاطها يتم توجيهها إلى ذات الشخص  لتحييدها. مما يؤدي إلى اتهامات الذات ومشاعر النقص والاكتئاب وإلى تصرفات انتحارية وتحقير الذات. وهنا ينظر الشخص إلى أن أسباب عدم الرضا عن الحياة تكمن فيه داخله، ويفتقد الشجاعة إلى البحث عن أسباب عدم الرضا عن الحياة في الخارج.

وفي الشكل السلبي من الاجتياف يتم توجيه السلوك والمشاعر العدوانية بصورة جامدة وبشكل آلي ضد الذات. أما الشكل الإيجابي للاجتياف في مواجهة مواقف الحياة الخطيرة، فهوة التماهي مع مواقف الآخرين ومن خلال هذا التماهي يمكن إخضاع مواقف الصراع للنقد الذاتي السليم ومن ثم يتقبل المرء إمكانية كونه ليس محقاً دائماً.

ويلعب الاجتياف دوراً مهماً في الحياة النفسية الأولى والصحة والمرض وبناء الشخصية.  وكان أول من وضع هذا المصطلح فيرينتشي Ferenczi وتوسعت ميلاني كلاين في تفصيله، وأطلق عليه أبراهام تسمية Incorparation التي تعني دمج، اندماج، تجسدي. وقد أكد عليه فرويد في دراسته للميلانخوليا (الاكتئاب الذهاني)، ووضعه لا حقاً مقابل الإسقاط.

 

[11] أمجية، الصورة المفهومية Imago  الصورة في أصلها اللاتيني مشتقة من كلمة(imago)،المقصود منها كل تمثيل مصور مرتبط بالموضوع الممثل عن طريق التشابه. إنه الصورة المفهومية غير المادية. أما الإيميج (الصورة Image) فهي الصورة العيانية الملموسة. و الإيماجو أو الأمجية هي الصورة الذهنية التي تمتلك نوع من التقديس.

[12] كتاب لهتلر

[13] القاتل الراكض، أو القاتل المسعور: حالة من السعر أو الجنون يقوم فيها الشخص بذبح كل من يقف في طريقه وصولاً إلى أن يقتل أو ينتحر بنفسه.

[14] رئيس الملائكة ميخائيل له مكانة خاصة في المسيحية و تحتفل الكنيسة القبطية بإقامة تذكاراً لرئيس الملائكة ميخائيل في اليوم الثاني عشر من كل شهر قبطي وتؤمن الكنيسة الأرثوذكسية برئاسة الملاك ميخائيل لجميع طغمات الملائكة وأنه ملاك القيامة الذي بشر النسوة حاملات الطيب قائلاً لهن المسيح قام من الأموات.(4)

 

[15] مدينة روسية

 

للخلف