الاكتئاب 2

10/08/2013 09:33

الاستجابات الاكتئابية على نائبات الدهر

 

نصارع يومياً مع المشكلات التي تواجهنا. غير أنه في بعض الأحيان يكون الإرهاق كبيراً، وبشكل خاص الإرهاقات المفاجئة، بحيث تهددنا بأن ننهار تحت وطأتها. و الأسباب كثيرة، كالحياة الزوجية و الأقارب والجيران و الأصدقاء والمهنة و الصحة و أمور أخرى كثيرة. وعندما تلم بالإنسان نائبة من نائبات الدهر أو ما يمكن أن نسميه مصيبة كان المرء يطلق على استجابته لهذه المصيبة استجابة اكتئابية أو اكتئاب ارتكاسي reactive Depression. واعتقد أنه اكتشف هنا تشكيلة محددة كلية فيما يتعلق بالسن و الجنس والصورة المرضية و المدة والأسباب و مجرى المرض، بل حتى نمط شخصية المعني الكامنة خلف هذا الاضطراب.

وفيما يلي عرض مختصر حول الكيفية التي رأي فيها المتخصصون هذا في الماضي و بعض الإشارات حول كيف يفسر العلماء هذا اليوم.

 

فبالنسبة لبعض الناس لا يكاد يمر يوم لا يعانون فيه من الهم و الغم و الخيبة و أحياناً الإهانة والإذلال...الخ. و أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أكثر حظاً أو سعادة منهم سواء على أساس طبيعتهم أو ظروفهم الأفضل في الحياة الزوجية والأسرة و الأصدقاء والمهنة و الجيرة...الخ فإنهم لا يمكنهم أن يكونوا على يقين تام من أن الأمور ستستمر معهم على هذا النحو دائماً. فالحياة هي عبارة عن دولاب يدور "مرة فوق ومرة تحت" و من ثم فإن الحالة المزاجية أ, الانفعالية تترافق مع هذا الهبوط والصعود.

ولحسن الحظ تنجح غالبية البشر بالفعل من التعامل مع هذه الأمور. فإذا ما فاض الأمر دفعة واحدة، فمن شأن الأمر أن يبدو ضيقاً على الأغلب، فيما يتعلق بالاستقرار النفسي و المقاومة الجسمية والاجتماعية النفسية في الحياة اليومية. و أحياناً يعتقد المرء أنه "كالقطة بسبعة أرواح"، إلا أن  هذا القانون غير المكتوب للتراكم يعني الأمور الإيجابية وكذلك السلبية. إذ أنه لو استقصينا الأمر بشكل دقيق لوجدنا أنه لا تتراكم السلبيات و المصائب الكبيرة والصغيرة فحسب، وإنما كذلك الأحداث المفرحة، التي يتقبلها الإنسان ببساطة بوصفها قائمة.

ومثل هذه الاستجابات على إرهاقات الحياة اليومية تمس كلا الجنسين بالدرجة نفسها، إلا أن النساء يتحدثن عن ذلك أكثر من الرجال، وهو أمر يمكنه أن  يساعد على "الوقاية النفسية" أو توازن "الصحة النفسية" و "ينظف" أنفسهن، ومن ثم يساعد في تحقيق التوازن. كما تصيب كل الطبقات الاجتماعية و كل سن، ,بشكل خاص في سنوات العمر المتوسطة، أي أفضل سنوات العمر، وبالطبع كذلك في سنوات العمر المتقدمة على الرغم من أن البعض يرى أنه لا بد في سنوات العمر المتقدمة وأن يكون ألإنسان قد اكتسب الخبرة و تعلم كيف يتعامل مع هذه الإرهاقات. إلا أن هذا الأمر هو موضوع آخر مختلف.

 

الاستجابات الاكتئابية   

من النادر اليوم أن نجد تشخيص الاستجابات الاكتئابية أو الاكتئاب الارتكاسي. فمنظمة الصحة العالمية و الجمعية النفسية الأمريكية تعرفان و تصنفان الاكتئابات بشكل مختلف. فمثل هذا النوع من الاستجابات تطلق عليه اليوم تسمية اضطرابات التكيف و التلاؤم. وهو تعريف جديد لعواقب التغيرات الحياتية الطارئة، سواء كانت في المجال البين إنساني أم في المجال المهني أم الصحي.

لهذا سنقوم في هذا المقام بعرض مختصر للاكتئابات الارتكاسية، بالشكل الذي كان يتم فيه وصفها قبل حوالي 30 سنة ذلك أنه كثيراً ما يتم طرح السؤال ما هو الاكتئاب الارتكاسي في الواقع:

 

الاكتئاب الارتكاسي

  • المصطلحات المرادفة: استجابة اكتئابية، اكتئاب ارتكاسي نفسي، استجابة خبرة اكتئابية، موقف إرهاق اكتئابي شاذ...ومصطلحات مرادفة. 
  • التعريف: هي حالة اكتئابية مستثارة من خلال حدث خارجي مؤلم، ومن حيث المحتوى هناك تمركز دائم حول هذا الحدث.
  • السن والتوزع الجنسي: بشكل خاص بين المراهقة و سنوات العمر المتوسطة. ولدى الجنس الأنثوي يضاف إلى ذلك سن التغيرات الارتدادية (سن اليأس)، ولدى الرجل في السنوات الأخيرة من تحوله للتقاعد على الأغلب.
  • المدة: بشكل عام بين بضعة أيام و عدة أسابيع. ولكنها تستمر في سنوات العمر المتقدمة أطول أيضاً. و بشكل خاص لدى الرجال كبار السن فإنهم يميلون لاستجابة تعكر المزاج الحزينة المطولة. والإشكالية تكمن في التفريق بين الاكتئاب الارتكاسي هنا و الاكتئاب داخلي المنشأ، أي الاكتئاب المسبب بيولوجياً، الذي يظهر من خلال المثيرات الخارجية كمثيرات فقط أو محفزات وليست كأسباب.
  • الأسباب ومجرى المرض: يكون المجرى متنوعاً، ويمكن التفريق حسب الجنس:
  1. الجنس الأنثوي: غالباً خيبات زوجية أو خيبات حب و عدم الإخلاص و شقاق زوجي...الخ. و لدى العازبات و الأرامل و المطلقات ليس من النادر من خلال الخوف من الوحدة والعزلة.
  2. لدى الجنس الذكوري: ترجع الأسباب أكثر لمشكلات مهنية من نحو غياب الترقية ومواقف المنافسة و صعوبة الترقي المهني و وضع العمل غير الباعث على الرضا والعطالة عن العمل و الهم المادي و الصعوبات المهنية بالمعنى الأوسع. 
  • الصورة المرضية والمجرى: غالبية المعنيين لا يشعرون بالمرض، وإنما يشعرون مضغوطون أو منقبضون بسبب مصيرهم بالتضيق اليائس. و أحياناً يحصل بعد الخبرة المرهقة نوع من الجمود الداخلي. وهذه الاستجابة تستمر لساعات حتى عدة أيام.

بعد ذلك يمكن لهذه الحالة أن تتحول إلى كآبة واضحة و يأس و لا مبالاة وعدم الاهتمام. ومن العجيب أن المصاب الفعلي يبدأ في هذا الموقف بالبهتان أو الزوال. و يكتسب فقدان الاهتمام و الفراغ الداخلي و الضياع ...الخ الأهمية.

ومن ناحية لأخرى يمكن أن يحصل انفجار لليأس. فنلاحظ عدم الهدوء الداخلي و الاضطراب و العصبية و التوتر و الدفاع الفظ ضد كل مساعدة وتشنجات بكاء معندة، و تغيرات مزاجية و انفجارات عدوانية.

و الصورة المرضية ليست متنوعة كما هو الحال في الاكتئاب داخلي المنشأ. وتلعب بشكل خاص عوامل فردية وتاريخ حياتية دوراً. وفي حال ظهور تأرجحات يومية فإنه يحص هبوط في المزاج مساءً أكثر من الهبوط المزاجي في الصباح الحاصل في الاكتئاب داخلي المنشأ.

وغالباً ما تظهر أعراض إعاشية و شكاوى عضوية وظيفية، أي أعراض يمكن تفسيرها نفسياً جسدياً و اضطرابات في الإحساس بالعافية. ومن أمثلة ذلك: اضطرابات الدخول في النوم والاستمرار فيه، فقدان الشهية و أوجاع في المعدة والأمعاء وضغط في الرأس و الغصة في الرقبة و ضيق التنفس و وخز القلب أو خفقانه، و الوميض أمام العينين و التوترات العضلية و الحاجة للتبول و إحساسي سيئة مختلطة، وهبات حرارة، وبرودة و ارتفاع في الحساسية للحرارة و نوبات تعرق و فقدان المتعة الجنسية...الخ.

ويميل الشبان بشكل عام و الشخصيات بسيطة البنية بشكل خاص إلى استجابات معاندة وعدوانية قصيرة، موجهة نحو الخارج،في حين أن الأكبر سناً والناس ذوي البنية الشخصية القوية غالباً ما يميلون إلى استجابة انسحابية صامتة ومكبوحة و صبورة مشحونة بالمعاناة.

  • بنية الشخصية: ليس من النادر أن تكون الشخصية واثقة من نفسها مفرطة الدقة و أحياناً سلبية. وغالباً إمكانات محدودة ومشكلات و صعوبات في التعبير الصريح و من ثم في تحييدها.

وغالباً ما لا يكون هناك سبباً واحداً، وإنما باقة كاملة من الدوافع المتنوعة، تقود عندئذ إلى بوصفها السبب الأخير لحساسية خاصة أو قدرة ضعيفة على الاستجابة. إلا أنه في بعض الأحيان تكون شخصيات حيوية أو حتى مرتفعة الدافع إلى حد ما (شبه هوسية). وهذا يعني عدم استبعاد وجود نوع من الميل للتحول إلى القطب الآخر.

  • تعكرات المزاج الارتكاسية النفسية في سنوات العمر المتقدمة: وهي غالباً ما تعزى إلى عدد كبير من الأسباب المرتبطة بالموقف على الأغلب أكثر من كونها ترجع إلى نوائب الدهر المحددة و الملموسة. ومن أمثلة ذلك تكاثر مشكلات الفقدان من جميع الأنواع في مجال الصحة و القدرة على الإنجاز، وكذلك الإجبار على ترك العمل و استقلالية الأولاد، التي تكون مرغوبة ولكنها تفسر الآن على أنها فقدان مؤلم، و المواجهات مع الأقارب و الجيران و الوحدة و العوز المادي و تبديل السكن، أي خطر الاقتلاع، وهو ما يسمى اكتئاب الاقتلاع أو اكتئاب الانتقال...الخ.
  • العلاج: التدخل في الأزمات، علاج متمركز حول المتعالج، إجراءات علاجية اجتماعية، أي عدم ترك المعني لوحده ومشاركته في اتخاذ القرارات. و أحياناً علاج دوائي بالمهدءات بجرعة منخفضة جداً، والأفضل على شكل قطرات؛ والمنومات عند الحاجة، و النشاطات الجسدية الكثيرة، كالمشي أثناء النهار لأنه مخفف للقلق و مضاد للاكتئاب. و العمل في الحديقة الذي يسبب التوازن. ولاحقاً عندما تزول الصورة المرضية و يعود المريض بكامل قوته تعلم طرق الاسترخاء، كالاسترخاء الذاتي و اليوغا و الاسترخاء العضلي المتصاعد وفق جاكوبسون، لأن ذلك يخفف الإرهاق مهما كان نوعه، النفسي والجسدي والاجتماعي. وأحياناً معالجة نفسية متوسطة الأمد من أجل التأثير ضد خطر الانتكاس.

 

خلاصة

الاستجابات الاكتابية على نائبات الدهر قديمة قدم الإنسانية وترافقنا حتى نهاية حياتنا. أما الكيفية التي يقسمها فيها المر ويسميها  من الناحية العلمية فقد تكون مفيدة للبحث والعلم والأطباء و النفسانيين في المستشفيات والعيادات، إلا أن لأمر الفاصل بالنسبة للمعنيين و أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم و زملاء عملهم هو معرفة الأسباب و الصورة المرضية لهذه المعاناة الشائعة إلى حد ما حتى وإن كانت من النادر لها أن تقود للمتخصص و أن تعالج بشكل مناسب.

وبعض الضحايا يتحطمون من خلال استجابة اكتئابية، حتى وإن كانت أقصر من الأشكال الآخرة من الاكتئاب. وهنا لا بد من القول، كلما استطاع المحيط التعرف بسرعة قدر الإمكان على ما يحصل هنا، في البداية انخفاض الإنجاز ولكن لاحقاً نوعية الحياة كلها، هذا إذا لم تكن منهكة و معذبة أو حتى خطيرة (خطر الانتحار)، و تقبل الأمر فإنه يستطيع أن يخفف من الأمر من خلال التواصل البين إنساني و الشخصي.

للخلف