مقابلة الثقافة النفسية

مقابلة العـــدد: الثقافة النفسية المتخصصة

المجلد 20-21 تشرين الأول (أكتوبر) 2009-كانون الأول (يناير 2010)

ص.ص.27-42

حــاوره علي العائد

الدكتور سامر جميل رضوان من مواليد السويداء  1961، حاصل على درجة الإجازة في علم النفس من كلية التربية بجامعة دمشق في عام 1983 والدكتوراه في علم النفس من معهد ليبزغ لعلم النفس التطبيقي –في ألمانيا -مجموعة بحث علم نفس الشخصية الإكلينيكي- التابع لكلية العلوم البيولوجية والصيدلة وعلم النفس، عام 1989، وترقى بدرجاته العلمية وصولاً إلى مرتبة أستاذ في العام 2003، في قسم الإرشاد النفسي-   كلية التربية بجامعة دمشق. حصلت في أثناء تحضير الدكتوراه تأهيل عملي وتدريب في مجال العلاج النفسي المتمركز حول الشخص المسمى في ألمانيا العلاج النفسي بالمحادثة، وعملت كمدرب مساعد في هذا المجال بالإضافة إلى التأهيل في علم النفس الطبي  وتدريب مختصر في العلاج السلوكي. شغلت منصب عضو مجلس إدارة الجمعية السورية للعلوم التربوية والنفسية منذ تأسيسها حتى عام 2000، وعملت بين العام 2000 و 2008 في كلية التربية بعبري سلطنة عمان كلفت طوال هذه الفترة بمنصب رئيس وحدة علم النفس ثم رئيس قسم الدراسات التربوية، وأعمل حالياً في أستاذاً في كلية التربية الثانية في السويداء، جامعة دمشق إضافة إلى ما أقدمه من خدمات في مجال العلاج النفسي والإرشاد والإشراف والتدريب، وعضو في المجلس الاستشاري السوري لبناء قدرات الدعم النفسي الاجتماعي والصحة النفسية في سوريا، وعضو استشاري في موقع المستشار، الذي يديره مركز التنمية الأسرية في الدمام بالمملكة العربية السعودية، والشبكة العربية للعلوم النفسية حيث عملت منذ تأسيس الشبكة على الإسهام فيها بمواضيع مختلفة، وهنا أتوجه بالشكر للزميل الدكتور جمال التركي على ما قدمه ويقدمه في سبيل الرقي بالشبكة. كما أنه عضو هيئة استشارية في مجلة الدراسات البيئية والمجتمعية  التي تصدر عن  قطاع خدمة المجتمع وتنمية البيئة بجامعة سوهاج، مصر، مجلة علمية محكمة دولية. قدم خلال عشرين سنة عدداً كبيراً من المنشورات المترجمة عن اللغة الألمانية كان لمجلة الثقافة النفسية والأستاذ الدكتور محمد النابلسي الفضل في نشرها وتعريف القارئ العربي بوجه آخر من علم النفس، ونُشر كتاباً واحداً مؤلفاً (كتابان حتى 2013) و 22 كتاباً مترجماً (حتى 2013) من اللغة الألمانية، إضافة إلى عدد حوالي 20 بحثاً منفرداً أو بالمشاركة باللغات الإنجليزية والألمانية والعربية.

 

 

الدكتور سامر رضوان زميل عرفه قراء المجلة منذ أعدادها الأولى. إذ ساهم فيها كتابة وترجمة وتحريراً. وتخطت مساهمته فيها إلى تعريف الزملاء السوريين بالمجلة وبإنتاج مركز الدراسات النفسية والنفسية الجسدية الذي يصدرها.

كما شاركنا الدكتور رضوان في نشاطات المركز ومناسباته المختلفة. وهو تميز لدى قرائنا بعرضه لمناهج ونظريات المدرسة النفسية الألمانية . حيث لا يتاح إلا نادراً للقراء العرب التعرف على هذه المدرسة. وهنا أيضاً تفرد الدكتور رضوان بكونه قناة المجلة ونافذتها على المدرسة النفسية الألمانية. مقدماً مساهمات هامة وإضاءات حول فروع السيكوسوماتيك والعلاج النفسي والأسري وعلم النفس الطبي  والعصبي وعلم الإمراضيات النفسية وغيرها من فروع هذه المدرسة.

في هذه المقابلة نستعرض مع الدكتور رضوان مسيرته العلمية وتجربته ونستطلع معه شؤون الاختصاص وشجونه بالاضافة للتعرف على مؤلفات الدكتور رضوان وترجماته.

  • المدرسة النفسية الألمانية غير معروفة بالمستوى الذي تقتضيه أهميتها ودورها في العلوم النفسية المعاصرة. وربما يعود ذلك لعدم انتشار اللغة الألمانية. فهل لكم أن تعرفونا على هذه المدرسة ومساهماتها وأعلامها.

لايمكن الحديث عن مدرسة ألمانية ذات هوية واضحة ومحددة في المجالات النفسية المختلفة في الوقت الراهن كما كان الأمر في الماضي، وإنما هناك اتجاهات متنوعة ومبادئ تقوم في جذورها على التقاليد الألمانية بشكل خاص والأوروبية عموماً إلا أنها، متأثرة على الاتجاهات الأخرى السائدة في العالم، وبشكل خاص في الولايات المتحدة الأمريكية. فالرؤى النفسية الدينامكية وما تفرع عنها من اتجاهات إنسانية مختلفة، والنظرية السلوكية وما تفرع عنها من طيف واسع من الطرق السلوكية الاستعرافية أو الطرق التي تنضوي تحتها عموماً هي الرؤى السائدة في العلاج النفسي بشكل خاص، بالإضافة إلى طرق كثيرة قائمة على أسس تفاعلية ومنظومية. أما في علم النفس عموماً فالاتجاهات كثيرة مما يصعب حصره.

 وقد عانى علم النفس في ألمانيا من تهميش وتدمير منظمين بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة هزيمة ألمانيا وهجرة الكثير من علماء النفس وبشكل خاص المحللين النفسيين وعلماء نفس الجشطلط إلى الولايات المتحدة الأمريكية في أثناء الحرب وبعدها. فقد عاد علم النفس في ألمانيا للانطلاق في خمسينيات القرن العشرين بموارد محدودة في البداية وقطع أشواطاً كبيرة، إلا أن تياراته في العموم هي تلك التيارات السائدة عالمياً. ومن الصعب أحياناً وضع الحدود الفاصلة بين ما هو ألماني وأمريكي، إذ تعود كثير من الجذور الأمريكية لعلم النفس لعلماء ألمان أو لعلماء تتلمذوا على يد فوندت في البداية. ومع ظهور التيارات الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية تأثرت ألمانيا بهذه التيارات ونقلت ثانية إلى ألمانيا وشهدت بعض المبادئ تطويرات وتعديلات. وحافظ الطب النفسي على تقاليده الأوروبية في ألمانيا التي أرسى دعائمها علماء ألمان من نحو أويغن بلويلر وإيميل كريبلين وليونهارد وكورت شنايدر وكلايست وغيرهم كثير، من الذين نجد آثارهم واضحة في التصنيف العالمي للاضطرابات النفسية (الآي سي دي) والدليل التشخيصي النفسي الأمريكي (الدي أس أم).  ويوجد في ألمانيا اليوم أكثر م 300 تخصص في علم النفس، ويعد علم النفس من أولى التخصصات المرغوبة في ألمانيا. فمنذ سنوات يتقدم أكثر من عشرة آلاف متقدم للتنافس على 3500 مقعد في علم النفس في جميع جامعات ألمانيا (في الجامعات السورية يتخرج كل سنة من الجامعات الأربعة أضعاف هذا العدد مقارنة إلى عدد الجامعات الألمانية، إذ يوجد في ألمانيا 383 مؤسسة للتعليم العالي منها 103 جامعة و176 معهد تخصصي عالي. ويقارب عدد الدارسين 2 مليون!!؟؟)

وهناك عدد كبير من الباحثين الألمان في الوقت الراهن ممن هم مشهورون على مستوى العالم منهم على سبيل المثال هانس تومي باحث علم نفس الشيخوخة وبيرت هيللنغر في العلاج الأسري المنظومي وأوكسكول في السيكوسوماتيك، وهانس أولرش فيتشن وفرانس كاسبرز وهاوتسنغر وهانس راينكر و فرانس بيترمان وهاري شرودر وهايكو إيكرت، وماراغراف، ورالف شفارتسر وجيروزيليم و كلاوس غراوه وراينهارد تاوش وغونتر إيسر، وزاكسة، وغيرهم كثير يصعب حصرهم. وما حققه علم النفس من تطورات كبيرة يرجع إلى تمهين علم النفس كتخصص ومهنة مستقلين مقابل وهذا ما منحه الاستقلالية عن الطب والتربية ولم يعد ينظر لعلم النفس على أنه من بين العلوم النظرية (الإنسانية) بل هو من العلوم الطبيعية ذو التوجه الإمبيريقي، حيث ظهر أن التفكير العلمي الطبيعي بقانونياته العامة مبدئياً  والثابتة نسبياً  والتوجه نحو "تقدم" المعرفة الذي لا ينقطع من خلال توسيع العلم متفوقاً على معارف الحياة اليومية والمعرفة العلمية الأخرى. وحتى عام 2000 كان في ألمانيا حوالي 30000 ألف متخصص نفسي اقتضتها سوق العمل وخصوصاً في مجال العلاج النفسي وعلم النفس الإكلينيكي.

وقد نجم تمهين علم النفس عن التقسيم المتزايد للعمل بين علم النفس والتخصصات الأخرى كالطب والمهن التربوية، بحيث برز التخصص "متخصص نفسي" بشكل أوضح وارتباطه بالمهنة ككل. والشيء نفسه ينطبق على علماء العمل وعلم النفس التنظيمي و علم النفس الاقتصادي وعلم النفس التربوي و كذلك إلى حد ما بالنسبة للتخصصات الأساسية في الجامعات. كما أتضح تقسيم العمل بين علم النفس العلمي (وهنا بين المواد الأساسية والتطبيقية) والممارسة المهنية بشكل أكبر. وحدث هذا بالتفاعل مع "التمأسس" و تمايز الجمعيات العلمية و المنظمات النقابية وتقسيمها إلى فروع.  لقد أتاح تمهين علم النفس صدور قانون علم النفس الذي ينظم التأهيل والتدريب والمهن النفسية، وليس فقط علم النفس الإكلينيكي، كعلم النفس التنظيمي وعلم ننفس التواصل وعلم نفس السوق وعلم نفس العمل وعلم نفس المؤسسة، وقد نجم هذا التطور عن الحاجة الكبيرة للحقول النفسية في المجالات المختلفة (المعرفة بالموظفين، العلاقات العامة، المشورة للمؤسسات والتدريب المستمر للموظفين...الخ).

  • المدرسة النفسية الألمانية عريقة عراقة مساهمتها في الطب العصبي على يد باحثين من أمثال بروكا كما عبر كتابات التحليل النفسي التي كتبت كلاسيكياتها باللغة الألمانية. ونود تعريفنا بمختصر لتراث هذه المدرسة بمختلف فروعها.

يمتد تاريخ علم النفس بالمفهوم العلمي في ألمانيا لأكثر من مائتي عام وخضع هذا العلم لتحولات كثيرة ونشأت تيارات مختلفة تتعايش اليوم مع بعضها وتأثرت ببعضها وبالعلوم الأخرى، ومن الصعب حصر جميع الأسماء والتيارات. إلا أن العرض التاريخي يوضح لنا الصورة التي يتم تهميشها أحياناً، التي تشير إلى أن ولادة علم النفس بالمعنى العلمي انطلقت من ألمانيا إلى جميع أنحاء العالم، سواء من قبل تلامذة فوندت أم فرويد أم غيرهم. وعلى أية حال لا أرغب هنا لعرضي أن يكون توثيقاً تاريخياً بالمعنى الدقيق لشمولية وصعوبة ذلك ونقص في مجال إحاطتي بكامل الصورة.  

ففي تشرين الأول من  عام 1875 قامت جامعة ليزغ باحتضان وتنمية "فكرة" "تأثير العلوم الطبيعية على الفلسفة" ومنحت كرسيها لفيلهلم فوندت الذي بدأ عمله التعليمي كأستاذ في ليبزغ بمحاضرة "المنطق وعلم الطرائق مع أخذ بعين الاعتبار طرائق البحث الطبيعي. وبالطبع لم يكن الأمر يدور هنا حول محتويات الفلسفة وإنما حول البحث العلمي الطبيعي لمجالات مواضيعها، أي استخدام طرق البحث في العلوم الطبيعي على مواضيع الفلسفة.

وكانت علاقة فوندت وثيقة بالفيزيائي غوستاف ثيودور فيشنر، الذي كان ألقى حتى عام 1874 محاضرات في كلية الفلسفة في ليبزغ أيضاً، وناقشه حول خطته لتأسيس معهد لعلم النفس، والذي حصل بالفعل كما هو معروف في عام 1879، بداية كمعهد خاص ومنذ عام 1883 كمعهد جامعي رسمي.

وقد اتبع مبادئ العلوم الطبيعية، حيث اعتبر فوندت وزملائه علم النفس كفرع جديد من البحث العلمي الطبيعي ولد من تركيب الفيزياء (التجريبية) والفيزيولوجيا (التجريبية) والرياضيات بالاستخدام الصارم لمبادئ العلوم الطبيعية بغرض استقصاء الظواهر النفسية. 

أثار هذا العلم الثوري الجديد الاهتمام والتقدير من جميع أنحاء العالم، وتحولت بأثره ليبزغ إلى "قبلة" العلماء الذين "حجوا" إلى ليبزغ لدراسة هذا العلم الجديد "علم النفس" على يدي فوندت الذي امتلك لوحده في قمة تألقه 40 شاغراً علمياً للمساعدين. وفي هذه السنوات تطورت الفيزياء النفسية والتشخيص النفسي الأمر الذي كان له أثره المثمر على الرياضيات والإحصاء. 

وقد نشأ سوء فهم باستمرار لعلم النفس. فعلى الرغم من أن فوندت كان أستاذاً لعلم النفس إلا أنه كان أستاذاً في الفلسفة، ويرجع سبب هذا إلى أنه لم يكن في ذلك الوقت إلا كلية الطب والقضاء واللاهوت والفلسفة. وما زال هذا الأمر ملحوظاً حتى وقتنا الراهن إلى حد ما. ففي غالبية دول العالم يتم منح علماء الطبيعية (الفيزيائيين والكيميائيين والبيولوجيين) درجة الدكتوراه في الفلسفة (PH.D). أما كليات العلوم الطبيعية فقد تم تأسيسها لاحقاً وكذلك دراسة الفروع التخصصية الدقيقة كمواد مستقلة.

وبالتوازي مع هذا نشأت في الوقت نفسه واستناداً إلى أعمال فرانس برينتانو  مدرسة فورتسبورغ على أساس علم نفس التفكير بقيادة أوسفالد كولبز وتلامذته نارتسيس آخ وكارل بولر وكارل ماربه حيث صنفت أعمالهم ضمن علم نفس الجشطلط. وفي عام 1885 طور هيرمان إيبنغهاوس طرقاً مهمة لدراسة عمل الذاكرة، مازالت صالحة حتى اليوم وسبقت التحول الاستعرافي في علم النفس. وقدم كريستيان ايرينفيلس في عام 1890 الطلائع الأولى لتطوير علم نفس الجشطلط من خلال نشره بعنوان "حول نوعية الجشطلط "نوعية الهيئة".

ومع بدايات القرن العشرين تبلورت تيارات أساسية قامت على أسس فلسفية مختلفة لمفهوم الإنسان. ففي عام 1895 نشر سيجموند فرويد بالتعاون مع جوزيف بروير أول دراسة تحليلية للحالة. وطور فرويد رؤيته التحليلية النفسية بالتعاون مع تلامذته كارل غوستاف يونغ وألفريد آدلر.

وعن ها الاتجاه انبثق علم النفس التحليلي (يونغ) وعلم النفس الفردي (آدلر). وعبر يونغ  أصبح كارل إبراهام واحداً من التلاميذ المرتبطين بفرويد والذي افتتح منذ عام 1908 في برلين معده وقام بتأهيل وتدريب عدد كبير من المحللين النفسيين المشهورين. ومن الناحية العلمية فإن التحليل النفسي ليس فرعاً من علم النفس، فهو أقرب إلى بناية نظرية مركبة بين الطب\العصبية والطب النفسي والفلسفة والميتافيزيقا. وقد ادعى فرويد باستمرار أن التحليل النفسي هو علم، غير أن مفهومه للعلم كان مختلفاً عن السلوكية. 

أما أهم ممثلي علم نفس الأنا فيمكن تعداد آنا فرويد وهاينز هارتمان وإيريك إيركسون ومارغريت مالر. وطور علم النفس الذات   Self-Psychology  هاينز كوت (كوهوت)، وأوتو كيرنبيرغ المولود في فينا  كممثل حديث أيضاً. ومؤخراً يتم الحديث عن تقارب بين العلوم العصبية و الاتجاهات التحليلية النفسية. فمن خلال الأساليب التصويرية المتنوعة للدماغ التي طالما حلم فرويد فيها في القرن الماضي يبدو اليوم أن افتراضات التحليل النفسي قد تأكدت إلى حد ما. وقد مارس علم نفس النمو تأثيراً واسعاً على التحليل النفسي كما أثر التحليل النفسي على علم نفس النمو بدوره

وفي ذلك الوقت انبثق عن أعمال فرانس بينتانوس اتجاه علم نفس الجشطلط لمدرسة غراس في النمسا وهي مجموعة من الفلاسفة علماء النفس اهتمت بعلم النفس التجريبي ونظرية الجشطلط ونظرية الموضوع ومدرسة برلين ومدرسة ليبزغ التي يعد كل من فيليكس كروغر وماكس فيرتهايمر وكورت كوفكا وفولفغانغ كولر من مؤسسيها وممثليها. ومن الأسماء أيضاً فولفغانغ ميتسغر وكورت غوتشالدت وإيدفين راوش. كما قدم كورت غولدشتاين مساهمات مهمة. ومن نظرية الجشطلط طور  كورت ليفين نظرية المجال ونقلها إلى مجالات علم النفس الاجتماعي ولاحقاً إلى علم النفس التنظيمي.

في الثلاثينيات عانى علم النفس في ألمانيا وبشكل خاص علم نفس الجشطلط الذي من ضربة قاضية على يد القوميين الاشتراكيين (النازية)، التي يعد كورت ليفين مثالاً على هذه الضربة. فقد كان قد حقق في معهد فولفغانغ كولرز أعمالاً عظيمة إلا أنه هاجر تحت الضغط النازي للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1933، وقدم لعلم النفس التنظيمي محفزات حيوية.

ففي ذلك الوقت تم منع الكثير من الباحثين  المهمين من العمل بسبب آرائهم السياسية أو اتجاهاتهم نحو زملائهم اليهود أو لأنهم كانوا متزوجين من يهوديات...الخ مما أثر بالطبع على تطور علم النفس وبشكل خاص على الطلاب والمعيدين وطلاب الدكتوراه. ففرغت المعاهد النفسية من باحثيها وجاءت الحرب العالمية الثانية لتقضي على ما تبقى، ومن ثم كانت أوضاع ما بعد الحرب التي جعلت من المستحيل إجراء البحث في ألمانيا، وهو ما امتد حتى خمسينيات القرن العشرين. فكثير ممن تمكنوا من الهرب لم يتمكنوا دائماً من مواصلة عملهم ولم تتح الفرصة إلا لأقلية منهم من مواصلة البحث العلمي الحر، ولم تتمكن الغالبية من الهرب واعتقلوا وماتت غالبيتهم أما ما تبقى من علماء النفس فقد تم استخدامهم في التشخيص العسكري بشكل خاص. وقد استخدم سيجموند فرويد في عام 1920 مفهوم "الأسلحة الآلية خلف الجبهة" ليصف الأطباء النفسيين وعلماء النفس الذين رأوا واجبهم في جعل الجنود قادرين على القتال بأسرع وقت ممكن مستخدمين طرقاً غير إنسانية و ضد الأخلاق الطبية للإيفاء بمتطلبات الأحداث السياسية.  وكان على الجامعات المتبقية أن تحقق هذه المطالب.

فعلى الرغم من أنه قد استمر البحث الجشطلطي هنا وهناك وبشكل متفرق، إلا أنه كان على هذه أن تكون خاضعة "للتسييس"، وهكذا فقد تم استغلال قوانين الجشطلط كبرهان على الإيديولوجية العنصرية (قانون القرب على سبيل المثال). كما تم تغيير مجال التشخيص المفترض، حيث تمت في التشخيص معالجة إيديولوجية النازي، وتم أيضاً استخدام أشكال "علم نفس "التعبير" و "الطبع". فقد تم هنا استخدام أنماط البنية عند كريتشمر و علم الطباع ليينش Jaensch  ومبادئ كارل غوستاف يونغ وعلم الأعراق. ويرجع سبب ذلك إلى أن التشخيص النفسي العلمي عليه أن تخضع "للتشخيص" وفق علم الطباع والأعراق والخُلُق. وهنا ظهرت فجوة مع علم النفس كعلم، بالصورة التي كان يتصورها فوندت وأتباعه. وبنتيجة ذلك تم الترويج لأفكار شبه نفسية وشبه علمية وتم تدريس نظريات ومفاهيم غامضة وتأملية على أنها علم نفس، متضمنة مظاهر علم الأعراق ونقاء العرق والتطهير العرقي. وكان كتاب هتلر "كفاحي" الكتاب التعليمي المعياري في علم النفس، تم فيه تعليم "الحقائق النفسية". 

وأخيراً تم إدخال الدبلوم كشهادة مؤهلة للمهنة. فقد تم إدخال الدبلوم في علم النفس في ألمانيا عام 1941 مع التأكيد على التأهيل العملي كمتخصص نفسي في الجيش (مع التركيز على التشخيص).

فتمحور علم النفس العملي هنا على التشخيص، وفق ما هو مذكور أعلاه. والمهنة الوحيدة للمتخصصين النفسيين خارج الجامعة كانت التشخيص في مراكز العمل من بينها وزارة الدفاع. ولم يتم توسيع تدريس علم النفس إلا في تأهيل المعلمين (حيث لم يكن هناك أيضاً متخصصون نفسيون مدرسيون)، و تحويل المهندسين إلى التقنيات النفسية الذين اقتصر عملهم على قياس الإنجاز والعمل. 

في ذلك الوقت لم يكن هناك علاج نفسي يقوم به المتخصصون النفسيون، وحتى علم النفس الإكلينيكي لم يكن موجوداً، فقد تم تأسيس هذا التخصص في أمريكا في وقت لاحق. ولم يعرف المرء في ذلك الوقت سوى أطباء العصبية (الأطباء النفسيون) الذين  كانوا يعملون في مجال الصحة و وأقسام المشورة (الإرشاد) و مراكز الشباب، حيث كان في ألمانيا في عام 1928 حوالي 42 مركز إرشاد أسسها أطباء عصبيون (نفسيون) منها على سبيل المثال:

  • مركز الإرشاد التربوي الشفائي في هامبورغ  الذي أسسه الطبيب النفسي المتخصص بالطب النفسي الجنائي كيمبال W. Cymbal في عام 1903.
  • مركز "ميديكو-المستوصف التربوي لأبحاث الأطفال و الإرشاد التربوي و المعالجة التربوية الطبية الذي أسسه في عام 1906 الطبيب النفسي فورستنهايم Fuerstenheim في برلين 
  • "مركز ملاحظة الشباب" في فرانكفورت  وأسسه فورستنهايم   Fuerstenheimفي عام 1916.
  • "مركز الإرشاد التربوي الشفائي" في مستشفى الأطفال بهايديلبيرغ الذي أسسه هامبورغر Hamburger في عام 1917.
  • "مركز إرشاد الوالدين" في ليبزغ، وقام بتأسيسه  غريغور Gregor  في عام 1918 و أنشئت لاحقاً مراكز أخرى تحت إدارته في كل من كالرسروه Karlsruhe، و بفورتسهايم Pforzheim، و أوفينبورغ Offenburg  و بروخزال Bruchsal  .
  • مراكز الإرشاد التربوي في فينا التي أسسها المحلل النفسي آيشهورن Aichhorn وأصبحت نموذجاً يحتذى.
    • و سعى عالم النفس الفردي آدلر من أجل منظمة مدرسية للإرشاد التربوي للأطفال ذوي صعوبات التعلم والتربية.

وكانت هناك مخططات لاستخدام مبادئ "علم نفس" الأعراق في السياسة السكانية وتخطيط المناطق، إلا أن هذا لم يحصل لحسن الحظ. حتى أن الادعاء بأنه قد تم استغلال علم النفس من قبل النازي بشكل منهجي للتلاعب بالجماهير والدعاية ليست صحيحة. فعلم النفس لم يكن في ذلك الوقت يمتلك المعارف التي يمكن استغلالها في هذا المجال. كما أن التدمير المنهجي لعلم النفس كعلم في ألمانيا لم يتح امتلاك الأدوات الملائمة لذلك، ولأن التركيز كان على مجالات أخرى (علم نفس الطباع والتعبير وعلم الأعراق..الخ). فالتلاعب والتأثير هو نتاج أمريكي خالص. ففي مجرى الحرب العالمية الثانية تم هناك تطوير طرق علمية تقع اليوم في مجالات أبحاث الرأي والتأثير عليه  أو في مجال علم النفس الاجتماعي الإمبيريقي  وعلم النفس الاقتصادي والتنظيمي ..الخ. وضمن ذلك تقع كذلك الطرق السلوكية وقياس الاتجاهات والتأثير عليها التي تم استخدامها بعد عام 1945 لإعادة التربية.   

وبعد الحرب العالمية الثانية تولت الولايات المتحدة الأمريكية قيادة علم النفس فنشأت التيارات السائدة اليوم بدءاً من السلوكية ومروراً بالسلوكية الاستعرافية و الاتجاهات الإنسانية ومن ضمنها العلاج المتمركز حول الشخص لكارل روجرز الذي يعد اليوم القوة الثالثة بين الاتجاهات العلاجية النفسية وانتهاء بالاتجاهات التحليلية.

في عام 1960 عادت شارلوته بولر Charlotte Bühler لألمانيا لتنشر مبادئ علم النفس الإنساني الذي تعد مع أبراهام ماسلو وكارل روجرز من مؤسسيه.

  • التوازن النفسي للشخص هو حصيلة تموقعه بالنسبة للآخرين الذي يمثل طريقة المعايشة وإحساس الوجود. وهنا يعود علم النفس إلى أصوله الفلسفية. نود منكم الإضاءة على هذه الناحية من خلال كتابكم الصادر مؤخراً بعنوان: " البحث عن الهوية في حياة إيركسون وأعماله".

تعد حياة إيرك إيركسون نموذجاً في علم النفس يوضح كيف يمكن للسيرة الذاتية وخبرات الحياة للإنسان أن تتحول إلى منهج تشتق منه ملامح "لنظرية" في النمو النفسي الإنساني، قلما نجد لها مثيلاً.  فقد انبثق اهتمامه بموضوع "الهوية" من الصلة الوثيقة بتاريخ حياته. كانت ظروف حياته في ألمانيا آمنة ولكنها كانت مصبوغة منذ البداية بخبرات الهامشية. لقد نشأ  في مدينة كارلسروه كربيب لطبيب أطفال، من أصول دينماركية-ألمانية يهودية. وبعد  الحصول الثانوية العامة جال إيركسون، لسبع سنوات في أوروبا، و تخلى مراراً عن دراسة الفن. وفي عمر الخامسة والعشرين، وبشكل أقرب للصدفة وصل إلى الدائرة الفيناوية في ذلك الوقت حول سيجموند فرويد، وأصبح المرشح الوحيد للتحليل النفسي من دون شهادة دراسة جامعية، كما عمل طوال حياته في مؤسسات، لم يقدم لها أية شهادة فعلية. وعلى طريق الهروب من الفاشية الصاعدة لم يعد إيركسون قادراً على أن تطأ قدماه الدنمرك، وطن والديه وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان عليه أن يبرهن نفسه في بلد غريب و في جو علمي مختلف. وسرعان ما وجد القبول  كواحد من غير الأطباء الأواخر في مجتمع التحليل النفسي الأمريكي و تعلم "كمتحدث بسيط تطوير أفكاره العلمية بلغة غريبة. و أخيراً تقبل الولايات المتحدة  الأمريكية كوطن اختياري، إلا أنه لم يغرس هنا جذوراً راسخة، بل قضى أطوار متعددة من العمل في أماكن مختلفة، وأصبح خلال فترة قصيرة واحداً من أشهر الشخصيات المعروفة للتحليل النفسي ما بعد الفرويدي.

مصيره كربيب مساكن لم يترك إيركسون يشعر بالاستقرار أبداً في أي مكان أو ضمن أية مجموعة علمية. فقد نفر من أية دوغماتية، ونبذ الحدود التخصصية الضيقة جداً، وإلا أنه من جهة أخرى أيضاً أسيء فهمه حتى من فطاحل علماء عصره أو لم يشعر بالاندماج في جماعة التحليل النفسي بشكل صحيح. و خلف طبيعته المتفائلة وفكاهته الآسرة كانت تكمن بعض الجوانب الحساسة. فخبرات إيركسون الحياتية جعلته يحس بعمق بمصير الشاب المزعزع و المهاجر و المهمش اجتماعياً.  فتحتم عليه أن يصنع من هامشيته نمط حياة ومن أزمة هويته موضوعاً  علمياً.

مر إيركسون في مراهقته المتأخرة  بكل تأرجحات المزاج و اضطرابات العمل التي  كان يعالجها عند مرضاه الشباب.  وكانت الفترة الواقعة بين 1920 و 1927 سنوات "التعليق النفسي الاجتماعي "، ووصفها بسنوات التردد والوقت المهدور في ظاهره، ولكنها كانت مرحلة مهمة لصيرورته، وذلك بأن خزن في ذاته الانطباعات والخبرات التي استطاع لاحقاً تدقيقها و أسهمت في تحديد اتجاه حياته اللاحق.

حاول  إيركسون توسيع أفكار فرويد المتأخرة في علم النفس الاجتماعي و "المظهر الاجتماعي النفسي" لعلم النفس التأملي الذي افترضه هارتمان Hartmann   ورابابورت Rapaport وفهم الإنسان على أنه مخلوق داخل على الدوام في حوادث اجتماعية أو صراعات سياسية. ولكن من أجل ذلك لابد للتحليل النفسي أن يبتعد بشكل نهائي عن التفكير الاقتصادي للقرن التاسع عشر بالقوى والأجهزة والهيئات باتجاه التفكير التبيؤي للقرن العشرين بالتفاعلات والتشابكات والتنشيط المتبادل وعمليات النمو المشتركة. ورأى أن الأمر يتعلق من التحرك جيئة وذهابا بين الدوافع الداخلية وصور اللاشعور والحقول القوى الداخلية للعلاقات البين إنسانية والمؤسسات الاجتماعية، من دون اختزال مجال على المجال الآخر.

ويرى إيركسون أنه لا يوجد اليوم أي علم نفس ونظرية اجتماعية جديين قادر على تحمل السقوط في تفكير ماقبل فرويدي. فقد فتح فرويد الأعين على مقدار الأضرار الكارثية التي يمكن لروح الطفل أن تعانيها من خلال أساليب التربية الخالية من الحب والمهملة. وبالطبع ليس هناك أدنى سبب لوضع الطروحات الباكرة لعلم نفس الجموع جانباً بصورة متكبرة. إذ أن مجرد النظرة لماضينا الباكر القريب تظهر مدى هشاشة طبقة الحضارة نفسها في أمة تبدو متحضرة، ومدى السرعة التي يطيح الاستعداد لارتكاب أعمال وحشية لاحدود لها باعتراضات المنطق والأخلاق. ومن ناحية أخرى يريد إيركسون أن يلفت النظر إلى جانب الشذوذات والأخطار إلى عدم القابلية الصافية للاستغناء عن المجتمع المنظم. فمن دون السند الاجتماعي لايمكن لأي طفل أن يعيش ومن دون قوانين ومؤسسات فإنه لايمكن تصور  التواصل والتعاون الضروريين للحياة بين الناس، ومن دون تقاليد ثابتة لايمكن للمكتسبات الثقافية أن تنتقل إلى الأجيال اللاحقة. ولايهتم إيركسون كثيراً بالموضوع السائد، ما الذي يحرمنا منه جميعاً حادث التنشئة الاجتماعية. بل أن المسألة الأساسية هي ما الذي يمنحنا إياه المجتمع، ما الذي يحفزنا عليه. كيف تعمل شبكة التنظيمات والمؤسسات والتقاليد المعقدة بشكل هائل؟ ما هي القوى الإيجابية الكامنة خلف التفاعل البناء بين الفرد والجماعة؟ ومن ناحية أخرى ما الذي يجعل المؤسسات متكررة الجمود و هل هي مسؤولة عن خلل المجتمع؟

ويمكن مقارنة التطور حضارة الإنسانية بالتعلم وفق المحاولة والخطأ. فمنذ البداية تم الاحتفاظ بالأشكال التي برهنت صلاحيتها من الحياة المشتركة والتعاون، وتأسيسها وتوريثها كتقليد مشترك للأجيال اللاحقة. والمؤسسات، بدءاً من العادات البسيطة للمجتمعات البدائية وانتهاء بالتنظيمات الكبيرة  للمجتمعات الضخمة تمثل بالنسبة لإيركسون لب أي تنظيم اجتماعي. وهو ينطلق من فرضية أساسية مفادها "أن دورة الحياة الإنسانية (بمقدار ما هي مرغوبة وحساسة) والمؤسسات الاجتماعية  (بمقدار ما هي قابلة للفساد ولايمكن الاستغناء عنها) يتطوران معاً" وكلاهما معاً يعوضان عن التنظيم الغريزي للسلوك الحيواني.

  • العلاج الأسري فرع مستجد في الاختصاص وللمدرسة الألمانية رؤاها الخاصة في مجاله. فهل لك إطلاعنا على العلاج الأسري الايجابي.

 أسس العلاج النفسي الإيجابي نُُصرت  بيزشكيان Nossrat Peseschkian وهو طبيب نفسي إيراني يعمل في العلاج النفسي  من مواليد عام 1933 هاجر إلى ألمانيا في عام 1954، واشتهر في أوروبا وخارجها من خلال توظيفه للحكايات الشرقية الغنية بالفكاهة والحكمة في إطار العلاج النفسي العابر للثقافة الذي ينادي به والذي يرى فيه المفتاح لفهم المشكلات الإنسانية. في عام 1968 أسس العلاج النفسي الإيجابي –في إطار علم النفس الإنساني-   وهو طريقة تقوم على علم نفس الأعماق قائمة على الموارد ومتمحورة حول حل الصراع. وترى هذه الطريقة أن المتعالج يحمل حلول مشكلاته واضطراباته وأعراضه في نفسه، حيث يحصل المتعالج على تحفيزات مشجعة للتعرف على مشكلاته وحلها بنفسه. وهو متخصص بالعلاج قصير الأمد من منظور عبر ثقافي، وله 26 كتاب باللغة الألمانية أغلبها مترجم إلى حوالي 15 لغة. يرى أن الحياة عبارة عن جنة علينا أن نجد مفاتيحها.  أسس في عام 1977 الجمعية الألمانية لعلم النفس الإيجابي. ويعمل حالياً مديراً لمعهد فيسبادن للعلاج النفسي وهو معهد معترف به رسمياً كمعهد للتأهيل والتدريب في العلاج النفسي والعلاج النفسي للأطفال واليافعين، وهو مؤسس لمراكز العلاج النفسي الإيجابي في حوالي 15 بلد. و مؤسس الأكاديمية العالمية للعلاج النفسي الإيجابي والعبر ثقافي والتي أصبح اسمها منذ عام 2005 مؤسسة البروفيسور بيزشكيان. حصل في عام 1997 على جائزة ريتشارد مارتن لضمان الجودة المدعومة بالكمبيوتر للعلاج النفسي الإيجابي، ومنح في عام 2005 وسام الاستحقاق الاتحادي الألماني تقديراً لخدماته في المجال الصحي ومنحه اتحاد الأطباء وأطباء الأسنان الإيراني جائزة ابن سينا   في عام 2006. من كتبه العلاج النفسي الإيجابي ، العلاج الأسري الإيجابي والشرق والغرب: العلاج النفسي الإيجابي في حوار الحضارات السيكوسوماتيك والعلاج النفسي الإيجابي والتاجر والببغاء: القصص الشرقية في العلاج النفسي وكتاب بعنوان: إذا أردت ما لم تحصل عليه أبداً فافعل ما لم تفعله أبداً، وآمن بالله وأعقل جملك: لماذا يفيد الدين روحنا. 

ينطلق العلاج الأسري الإيجابي من " Positum" أي من الحقيقي القائم. الحقيقي والقائم ليس فقط الاضطرابات والصراعات التي تقترن بالأسرة، وإنما كذلك القدرات أو الكفاءات في التعامل مع هذه الصراعات. وفي إطار العلاج الأسري الإيجابي يتخلى المريض عن دور المريض و يتحول إلى معالج لنفسه ومحيطه (المساعدة الذاتية). و المرض لايعد المرض بالنسبة للعلاج الأسري الإيجابي صفة من صفات الإنسان الفرد. إنه أيضاً خاصية لنوعية العلاقة داخل الأسرة و المجتمع. العلاج الأسري الإيجابي يقدم تصوراً أساسياً للتعامل مع كل الأمراض و الاضطرابات (طبيعة عامة). و يشكل التفكير عبر الثقافي أساساً للعلاج الأسري الإيجابي. وينطبق هذا سواء على الإنسان كعضو مجموعة ما و كفرد. يقبع كل إنسان داخل مجال ثقافي ترعرع فيه. ولكن كل إنسان منا يمتلك مجاله التربوي الخاص و من ثم إشكاليته عبر الثقافية في التعامل مع الأفراد من محيطه (المظهر عبر الثقافي). و انطلاقاً من السؤال القائل: ما الذي يشترك به الناس جميعاً و ما الذي به يختلفون؟، يصف العلاج الأسري الإيجابي قائمة من محتويات الصراع. وهذه المحتويات تؤثر في الفرد وكذلك الأسرة و المجتمع. وتشكل محتويات الصراع الأساس الوسيلة العلاجية للعلاج الأسري الإيجابي (المحتوى المضموني).  وبما أن العلاج الأسري الإيجابي يتصرف بشكل مضموني، فإنه يقدم تصوراً يمكن أن تتكامل ضمنه تخصصات وطرق مختلفة بشكل فاعل (مظهر عابر للنظرية) إنه نوع خاص من التفكير العلاجي، تقع الأسرة في مركزه. إلا أنه لا يقتصر على الأسرة كوحدة علاجية وإنما يحاول إشراك أفراد الأسرة كأفراد والعوامل الاجتماعية كظروف مرجعية في العملية العلاجية (نسبانية العلاقات الأسرية).

  • ينادي غراوة الذي أحدث ثورة في ألمانيا من خلال طريقته في التحليل البعدي لنتائج العلاج النفسي بعلاج نفسي عام فما هي ملامح هذا العلاج وهل هو علاج تكاملي أو انتقائي؟

تقوم المدارس العلاجية النفسية المختلفة على أسس نظرية واسعة الاختلاف، وهي شديدة التمدرس يغذيها صراع شديد ترعاه جمعيات علم النفس وتدور حوله منافسة شديدة في سوق العمل، لا تأخذ مصلحة طالب الخدمة بعين الاعتبار. ومن ثم فإن المبدأ التكاملي قد يكون نوعاً من الجدل النظري وتقسيماً لسوق العمل بالمعنى العام، أما بالمعنى الخاص فإن العلاج التكاملي هو جزء من العلاج الجشطلطي بالأصل يستخدم عناصر من الطاقة الحيوية والسيكودراما والعلاج بالتنفس و الحركة والعلاج الانتقائي فتقوم بتوليف علاجي غير مقيد باتجاه معين. ومن الناحية النظرية فإنه من الصعب  النظر للعلاجات الانتقائية على أنها مقبولة، إلا أن نتائج الدراسات الإمبيريقية المتوفرة حتى الآن تؤيد مقولة إن الأساليب العلاجية العريضة والمرنة التي لا تتمسك بالحدود بين المدارس العلاجية تقود إلى تحسن واضح في مجالات متعددة. وأغلب الاتجاهات الانتقائية تقوم على التوليف بين الطرق المستخدمة في العلاج السلوكي واسع الطيف أو في حل المشكلات  ومع ذلك فإن الدراسات المتوفرة لا تلقي الضوء على أسلوب التأثير وفاعلية مثل هذه العلاجات.

فالموضوع هنا  ليس عبارة عن تعويض نقاط ضعف مبدأ ما من خلال نقاط قوة مبدأ آخر. فبناءات هذه الأشكال العلاجية غير ملائمة إذا ما جزئت إلى مبادئ من أجل تفسير الحدث العلاجي النفسي بشكل كامل. ومن هنا فالأمر يحتاج إلى مبدأ نظري جديد كلية يمتلك مجال تفسير أكبر.

 أما المقصود بالعلاج النفسي العام الذي يدعو له غراوة ومجموعته فهو علاج يقوم على أسس نظرية جديدة  ومتماسكة ومفيدة لدمج فاعلية أساليب المعالجة المجربة. والأساس الإمبيريقي للعلاج النفسي العام، تشكله الأساليب وتأثيراتها الفعلية، وهذه الأساليب هي كل الأساليب بغض النظر عن مصدرها النظري. ولابد من إنجاز التفسير النظري لهذا التأثير على أساس نظري جديد، يطرح هذه الحقائق في سياق موحد. ولا بد من التخلص من نظريات وإيديولوجيات المدارس العلاجية المختلفة لأنها تشكل عبئاً ثقيلاً بعد أن أدت ما عليها ولن يتم الاحتفاظ إلا  بما يتطابق منها مع الحقائق في شكل من الأشكال في الأسس النظرية للعلاج النفسي العام، ولكنه سيكون مزروعاً بشكل جديد ومتماسك نظرياً. فالأساس الذي يقوم عليه العلاج النفسي العام لن يكون بأي شكل من الأشكال ترقيعاً لسجادة من قطع ديكور نظرية مأخوذة من الأشكال العلاجية المختلفة القائمة.

التصورات النظرية لعلم النفس العام تقوم على مزج المظهر الدافعي ومظهر القدرة مع بعضهما. وهما ما تم التركيز على أحدهما في التحليل النفسي  وإهماله في العلاج السلوكي  (المظهر الدافعي: توقعات الكفاءة الذاتية لباندورا على سبيل المثال) وبالعكس. لهذا يع بناء "الخطة" لميللر وغالانتر وبريبرام   جوهراً نظرياً ممكناً يتضمن وحدة تحليل مركزية لعلاج نفسي عام .

فتحليل الخطة يسأل انطلاقاً من سلوك المريض عن الأهداف التي تحدد الخطة. ويعتبر السلوك والهدف مع بعضهما الخطة، التي تخدم من ناحيتها هرمياً أهدافاً أعلى. و يشكل الهدف الأعلى والخطط التي تخدمه من جهته خطة لهدف آخر أعلى وهكذا. فتحليل الخطة هو عبارة عن تحليل منهجي للحتميات الدوافعية للسلوك وهي تحدد ما يستطيعه وما لا يستطيعه الفرد من أجل تحقيق أهدافه بشكل مرتبط بالبيئة و يحتوي المنظور الدافعي ومنظور المقدرة ومع ذلك فإن تحليل الخطة يوضح لماذا يتصرف فرد ما على هذا أو ذلك النحو ولكنه لا يوضح كيف يتغير الأفراد، والإجابة عن هذا السؤال تكمن في بناء" التصويرة Schema"، الذي يقوم على تصورات بياجيهPiaget   ونايسر Neiser . فالتصويرة تحدد اختيار ما نقوم بإدراكه، والفئات التي ننظم وفقها إدراكاتنا. فللتصويرة خصوصية خاصة بها جذابة  جداً بالنسبة للعلاج النفسي. و تلعب في علم النفس الراهن دوراً نظرياً مركزياً جداً في المجالات المختلفة. ويزداد في العلاج النفسي عدد الباحثين  الذين يعتبرون التصويرة وحدة تنظيم أساسية للعمليات النفسية.  والجزء الأكبر من التصويرة يجري من دون إدراك، لهذا فإن إحدى أهم وظائف العلاج النفسي أن يصل المتعالج إلى وعي صائب حول تصويراته الأهم. والعلاج النفسي المتمركز حول الشخص فاعل هنا كونه يقوم على الجانب التوضيحي –وصول المتعالج بنفسه للتوضيح والتفسير- ويهتم بمتغيرات العلاقة.

والمنظور الثالث في العلاج النفسي العام يقوم على "مظهر العلاقة"، وهو مظهر أساسي أبرز أهميته سوليفان وأثر فيه على الاتجاهات العلاجية كافة، وتكمن أهميته في أن الحدث البين إنساني في العلاج يمثل أحد أهم الوسائل من أجل إحداث التعديلات العلاجية