الحب والكره-التحليل النفسي للانفعالات

الحب والكره-التحليل النفسي للانفعالات

من الكتاب:

العشق

«يختلف العشق عن الحب. إلا أن الحب يبدأ عادة بالعشق »

في العشق يبدو- من زاوية المرأة - المحبوب جميلاً بشكل لا يوصف. إننا ننسحر بشكله، وننشد إلى جاذبيته، ويملأنا الشوق. نريد أن نظل دائماً إلى جانبه، معه، نتقاسم معه كل شيء. إننا مستثارون منه في الخيال ملهمون به، إلى درجة لا نعود نعرف فيها أنفسنا.

تشترك قصيدة شكسبير، الولهانة بيترارسا Petrarca ودانتي Dante وأغاني الحب وعدد لا يحصى من الأشعار مع بعضها في التعبير عن مشاعر العشق العارم الذي لا يموت. ومع ذلك فسرعان ما سينتهي هذا العشق إن عاجلاً أم آجلاً بالخيبة التي ستحصل بشكل حتمي لأننا قد مثلنّا المحبوب (جعلناه مثالياً) بشكل كبير جداً -الآن من وجهة نظر الرجل- . فالفرحة «بصحوة الحب» جعلتنا نضفي عليه أبهى حلة، بحيث أصبحت المسافة بعيدة جداً عن الواقع، من دون أن نلاحظ ذلك في البداية. وبداية عندما نتحقق أولاً، أن السلوك الفعلي للمحبوب لا يتطابق على الإطلاق مع الصورة المثالية فإننا نسقط من السماء السابعة ثانية بالتدريج إلى أرض الواقع المرتبط مع مشاعر مؤلمة من الفراغ والضيق والخيبة والحزن.

وقد نشأت مثلنة الشخص المحبوب (النظر إليه بصورة المثال) من التقديس المبكر للطفل الصغير، الذي كانت أمه أو أبوه بالنسبة له هما الشخصان الساميان والمثاليان والباهران. ويكون نزع المثالية المؤلم كبيراً بشكل خاص عندما لا يستجيب الشخص المحبوب على حبنا. كل منا يعرف مشاعر الحب المرفوض وما يرتبط به من ألم حول الانفصال والحزن والفقدان. فإذا ما نجحنا على الرغم من ذلك بالاحتفاظ بذكرى طيبة لهذا اللقاء فسيكون في ذلك غنى لنا؛ إذ أنه قد أيقظ فينا الحب الذي اعتقدنا لمدة طويلة أنه قد مات فينا، أحياه جعله يصحو بحيث لا تكون الخسارة كبيرة بالنظر لهذا المكسب.

ولكن حتى وإن استمرت العلاقة فإنه لا يمكن تجنب نزع الوهم. فيتحول العشق الآن إلى الحب الذي لا ينقصه الدفء على الإطلاق. ولكن من أجل ذلك لا بد من توفر شرطين أساسيين:

-1  علينا ألا نمتلك خوفاً كبيراً من تولي المسؤولية والواجبات،

-2  ألا تكون خسارة حريتنا واستقلاليتنا أثقل من المكاسب من الشريك.

ما الذي ينبغي مواجهته كي يثمر الحب ولا يصبح مرعباً

الإجابة الأولى: ينبغي أن تكون قد تمت السيطرة على انصدامات الطور الأول من الطفولة إلى حد ما، كي لا يضطر المرء إلى تعويضها بين الحين والآخر بشكل لا شعوري، مع كل عواقبها السيئة بالنسبة لعلاقة الحب الراهنة. وهي أولى الصراعات الباقية من دون حل للطور الماقبل أوديبي، من علاقة الطفل-الأم. إذ أنه لم يتم التغلب على الانفصال أو الابتعاد بحيث لا يحدث التفرد بمعنى الاستقلالية. وبدلاً من ذلك يظل هناك تعلق بالناس الآخرين، الذين نظل من دونهم تعساء، الذين ينبغي لهم أن يظلوا حولنا، كما تعبر عنه الكثير من الأغاني العاطفية. وثانياً هي أنماط التفاعل الأوديبية النموذجية التي نظل متمسكين (مثبتين) بها وتدفعنا باستمرار بقسر تكرار لاشعوري (Freud,1920) إلى علاقات ثلاثية، على الرغم من أننا نعاني من هذا ونريد بشكل شعوري أن نحقق الإشباع منها.

الإجابة الثانية: يفترض أن تتكامل الجنسانية والبعد الجسدي في الحب. وبالطبع هناك جنس بلا حب وحب بلا جنس. ولكن ما يهمني هنا الحب الذي يقوم بالدرجة الأولى على الثقة المتنامية بين المحبين وبالدرجة الثانية الذي يتضمن الجنسية «كمكافأة للشهوة» (Freud,1925)، الذي يستمتع به كلاهما ويجدا ن ذواتهما فيه. ومن أجل ذلك يفترض ألا يتم تكرار الخبرات السيئة التي مر بها الإنسان في علاقة الأم-الطفل بشكل لاشعوري من خلال التحليل الحتمي بوصفه نمط علاقة متمثل، وإنما ينبغي جعله شعورياً ومعالجته، وليس من المفروض لها أن تزعج العلاقة الراهنة بين الحين والآخر أو حتى تدميرها إذا ما أردنا للحب أن يكون مثمراً وليس مرعباً. إلا أنه يمكن أن يتم تعلم المشاعر غير المعاشة قبل ذلك بشكل طيب، وذلك فيما يسمى بالتعليق عند الشباب (الموراتوريوم moratorium)([1]) (Erikson,1970) ، وذلك عندما يتم بطريقة لعبية تجريب وممارسة وتعلم ما كان ناقصا في فترة الطفولة في أثناء عملية التنشئة الاجتماعية – من دون المسؤولية الشديدة لحياة الراشدين.

أما شروط الحب العارم فهي:

=   علاقة أم - طفل موفقة إلى حد ما مع خبرات طيبة على الأغلب في حبنا «الأول» للأم.

=   صراعات أوديبية محلولة بشكل كاف مع غلبة الخبرات الطيبة في حبنا «الثاني» للأب من العلاقة الثلاثية بين الأب والأم والطفل.

=   التكامل الموفق للجنسية والجسمانية والخبرة الروحية.

=   أنا أعلى مجعول بشكل نسبي كفاية، لا يعود يضرنا بمثله العليا ومعاييره الصارمة بشكل دائم، ويعاقبنا ويلاحقنا وإنما أنا أعلى يجعلنا نشكك، بأن نقوم بجعل الأمور نسبية بأن نستبدل الأحكام المسبقة من خلال أحكامنا نحن، واختبار الإسقاطات على الآخرين على الواقع وسحبها.

=   هوية جنسية ذكورية أو أنثوية واضحة.

مهارات الحب هي مهارات محددة بشكل إيجابي، يكون فيها الحب مرنا، قدرة ناجمة عن الخبرة، بما يشبه «فن الحب». ومن بين هذه المهارات ليس القدرة الأساسية على التواصل فحسب، من نحو القدرة على التودد المتقن من أجل بناء علاقة على سبيل المثال، وإنما كذلك القدرة على الحفاظ على استمرارية العلاقة التي ما زالت تتطور برقة من خلال اهتمامي بالآخر بشكل مستمر كما أسعى لإيقاظ اهتمامه بي (القدرة على العلاقة)، ولا ننسى «العدوانية المتقنة» (Alexander Mitscherlich,1956,1958)، التي تستخدم الآن العدوانية، وبصورة مناقضة كلية للشذوذ، على شكل تصرف مقتحم فاعل «في خدمة الحب». كما ينتمي إلى ذلك أيضاً مهارات ربط الجنسية مع المركبات الانفعالية التي تتبع ذلك، في إطار علاقة سليمة بالجسد الخاص وبجسد الآخر، بحيث لا يلحق بها الأذى وإنما تسبب السعادة والمتعة وتغني الشخصين المشاركين. وبهذا فإن الحب عبارة عن «جدل مفعم» على شكل حوار مفتوح ممكن بين المحبين. وبالطبع من بين ذلك أيضاً المخاطرة الجديدة دائماً بالدخول في علاقة، وحتى خطر ملاقاة الصد أو التخييب. ومن لا يغامر لا يكسب.

 

اضطرابات الحب

ما هي المشاعر التي يمكن أن تجعل حبنا يضطرب؟ هي في البداية المشاعر المؤلمة من القصور الذاتي وعدم الكمال ومشاعر النقص والعجز واليأس. إنها مشاعر مخجلة جداً ونكبتها بسهولة بسبب ما يرتبط بها من إساءة لاحترامنا لذاتنا. وهذه المشاعر تعتمل فينا منذ زمن الحب الأول، الحب الذي وهبناه لأول شخص مرجعي. وهذا الحب بالنسبة للذكور والإناث هو الأم. فنحن نتمنى أن نكون محبوبين (سلباً، غير فعال، منفعل passive) منها. والحب الأول يبدأ سعيداً وينتهي تعيساً. وحتى لو أن الأم تحب الطفل بالفعل فإنها لن تستطيع أن تحب الطفل بالشكل الذي يتوقعه طمعه النهم.

وهنا نجد التفسير الأول للارتباط الوثيق بين الحب والموت، ولورطتنا غير المحلولة للسعادة المعاشة ونهايته المأساوية. فالنهاية التعيسة مبرمجة إلى حد ما من خلال خبرة أولى عميقة.

فإذا ما تم تنشيط هذا البرنامج، إذا كان يجوز لنا إجراء مقارنة للعملية مع تقنية الكمبيوتر، من خلال الحب الأول في سن اليفوع والشباب الذي هو من حيث المبدأ الحب الثاني، عندئذ يتحدد سلوكنا بشكل جوهري من خلال البرنامج المخزن، الذي يسير بشكل حتمي.

 ولكن حتى الحب الأول الفاعل في حياتنا لا يسير بشكل مختلف: فهو ينتهي بخيبة. فكأطفال نحب الناس الراعين لنا بشكل فاعل، نتقرب منهم ونتودد لهم نريد بكل بساطة أن نفعل شيئاً طيباً، أن نجعلهم سعداء, ولدى الطفل الصغير تدخل هنا مشاعر ذكورية في اللعبة، استثارات جنسية بهدف الحصول على الأم، لاكتسابها لتصبح شريكاً متعاوناً لإسعادها. ويتم تحقيق إشباع هذا الحب في الخيالات الملونة وتجعل الطفل الذكر راضياً كلية. إلا أن هذه الاستثارات الجنسية سرعان ما ستنتهي بشكل حتمي نهاية غير سعيدة. فالأم المتعاطفة جداً لا يمكنها أن تبادل الابن حبه وسوف تولي له ظهرها.

ولكن أيضاً حتى الطفلة الصغيرة لا تريد أن يكون حبها سلبياً، وإنما تريد أن تكون مثل الذكر، أن تحظى بحب الأم بشكل فاعل: أحبيني كما أحبك. وترى كريستينا أوليفر Christine Oliver بأن الأم لا يمكنها أن «ترغب» ابنتها، لأنها بنت مثلما كانت هي نفسها في يوم من الأيام، كما قد «ترغب» الطفل الذكر كامرأة. غير أنه قد تولد لدي الانطباع من تحليلات كثيرة بأن السيدة في دور الأم يمكنها أن تحب الطفل من جنسها نفسه أكثر من الطفل الذكر لأن البنت تشبهها أكثر من الطفل الذكر، المختلفة عنها.

في المرحلة «الأوديبية»، التي تكون تقريباً بين السنة الثالثة حتى الخامسة، يكون الأمر أسهل على البنت؛ عندما يدخل الأب في اللعبة: الآن يصبح حبها لأبيها حباً جنسياً غيرياً، في حين أن حبها الأول كان من طبيعة جنسية مثلية. إنها تستطيع الآن أن تعيش كيف يمكن أن يكون الحب لرجل؛ أي بشكل خاص: أن تصبح مقدرة ومحترمة ومقبولة. وقد تتماهي مع والدها، شريطة أن تتوفر علاقة محبة متبادلة، أي أنها تريد أن تكون مثله وتربح في شخصيتها الصغيرة-و هذا في صالح علاقات حبها اللاحقة بالرجال.

وبالنسبة للطفل الذكر يسير الأمر بشكل آخر: فهو مجبر على إقامة علاقة جنسية مثلية بالأب، إذا ما أراد لأبيه أن يحبه مثل أمه وأن يكون محبوباً من أبيه على شكل ما كان في حبه الأول من أمه. وستكون الطبيعية الجنسية المثلية المحددة بيولوجياً لهذا الحب صعبة بالضرورة انطلاقاً من السلوك الاجتماعي المعروف. لهذا يتجنب كل من الأب والابن علاقة الحب هذه، مترافقة بمشاعر مؤلمة للحب غير المتحقق. لهذا يفضل كثير من الأطفال الذكور أن يظلوا مثبتين على الحب الأول، مرتبطين بالأم - حبيب أمه-، ويبحثون لاحقاً كرجال بشكل لا شعوري عن أمهم في المرأة.

ويرتبط صد الحب الأول والثاني مع كل الفروق المتعلقة بالجنس في كل حالة مع الضيق الأساسي نفسه، الذي تبدو فيه الأم جبارة والمرء نفسه يكون فيه ذيلاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة. والخيبات الباكرة قد تكون ملائمة لإلحاق الأذى بالحب اللاحق بشكل حساس. ولكن إذا ما كنا مدركين لهذه العلاقة بشكل شعوري فإننا سنتمكن من توفير الكثير من الألم في الحب. ومن هنا نفهم الآن الازدواجية بين المنطق والحب منذ العصور القديمة وحتى الآن والمأساة المرتبطة بذلك التي لا يمكن تجنبها هي وظيفة مباشرة للخيبات المعاشة كطفل.

وبالطبع يختلف مقدار الخيبات المعاشة مسبقاً من إنسان لآخر. إلا أن القانونيات العامة السارية لمجرى الحب والخيبة المبكرة هي نفسها بالنسبة لكل واحد منا. فإذا ما حالفنا الحظ بأن يواسينا في خيبتنا إنسان عطوف، فإنه يمكن التغلب على «الفوضى والمعاناة الباكرة». ويمكن للمرء أن يرينا أنه توجد أهداف أخرى أيضاً لحاجاتنا الغرامية، ناهيك عن أنه يوجد أناس آخرون يودوننا. فإذا ما عشنا في ألمنا مثل هذا الاهتمام فسوف تشفى الجراح ببطء. فإذا ما لم يكن هذا هو الحال فسيحصل تمثل عصابي في الخيال (الهوام)، على سبيل المثال عندما يقوم هؤلاء الأشخاص بأفعال شاذة، بوصفها «القطب الإيجابي» للعصاب، أو يلجئون للكحول أو سوء استخدام العقاقير كتعويض عن الحب المحرومين منه أو للسلوك الجانح، أو عندما تتم سرقة الحب الممنوع بالعنف؛ في العنف بشكل مباشر كلية، أو بشكل غير مباشر بالإزاحة إلى الممتلكات المادية كالنقود والمجوهرات.

والتعويض النرجسي في الفن والأدب والموسيقى هو أقل مرضية وأقرب للطبيعي، حتى وإن ارتبط دائماً بذلك التجنب المباشر للاتصال من إنسان لإنسان. فإذا تم اختيار الصورة أو الكتاب أو الموسيقى فإنه يتم بهذا تجنب الاتصال المباشرة ومن ثم فإننا لا نتعرض لخطر أن يتم التخلي عنا أو أن يتم تخييبنا، ونحافظ على الأمور تحت السيطرة.

 

الجنسية والحب

 

 

فينوس  Venus آلهة الربيع والحدائق والحب الرومانية وأفروديت  Aphrodite  مقابلتها الإغريقية، ابنة زيوس Zeus وديانا Diana ، آلهة الحب الشهواني والجمال، وإيروس Eros  ابن آريس Ares وأفروديت، الصبي المجنح الذي يصيب بسهمه قلوب الآلهة والناس ويشعل نار الحب بين الرجل والمرأة. كل هؤلاء يظهرون الوجوه الرمزية المتنوعة للحب الجنسي: دور الجمال والرغبة الجنسية والوله.

 

 

 

 

 

 

 

ففي حدث شامل مشحون بالشهوانية والحب والشغف المتبادل يتوالف كل من فينوس وأفروديت وإيروس بصورة لا يمكن وصفها وإنما معايشتها فحسب. ويشكل المزاج المبتهج الأساس الروحي للبداية المستثارة من خلال مثير لحب المحبوب أو من خلال المثيرات المطابقة للمحبوب. وبالطريقة نفسها تستطيع سلطة الخيال أن تستثير شهوتنا. ويدفعنا التوق... الشهوة نحو إشباع الحب نحو المحبوب أو المحبوبة ويدفعه الأمر نفسه إلينا.

ويتحول الحب إلى شغف، إلى شهوة، عندما تستثار الأعضاء الجنسية وعندما يتم تحقيق الإشباع الممتع من خلال اتحاد الأعضاء الجنسية المخصصة تشريحياً وفزيولوجياً لتحقيقه. وعندما يتحدث إيريك فروم عن «فن الحب»، فإن هذا ينطبق بشكل خاص على الحب الجنسي. لهذا فإنه من المفيد البدء بجمع الخبرات في وقت مبكر من أجل تعلم الحب الجنسي. ولا أريد هنا أن تتم إساءة فهمي: فالأمر لا يتعلق هنا بتعلم تقنيات الحب الميكانيكية. لا فالأمر يتعلق بالتمرن على المشاعر، كل واحد من أجل الآخر، حب بعضهما البعض والسعادة مع بعضيهما؛ وكذلك الاهتمام بالآخر والمسؤولية عنه.

 وبالطبع فإن الحب الجنسي يتضمن إيلاج العضو. وتشعر المرأة السليمة هنا بالرغبة الحسية على أنها أكثر أمر طبيعي في العالم. أما ما تسمى بالمرأة «المتحررة» التي تعتبر امتلاء عضوها بالقضيب الذكري على أنه اعتداء أو اختراق penetration وتشعر بأنه إهانة لا يمكن احتمالها ، وتبدو في جنسيتها الأنثوية بأنها ما زالت غير حرة، فإنها على ما يبدو لا تستطيع تحمل التعلق بالرجل ومن هنا فهي تدافع عن نفسها من خلال التقليل من قيمة الرجل؛ كما يفعل الرجال الذين يحاولون التقليل من تعلقهم الذي لابد منه بالمرأة من خلال التقليل من قيمتها. كلاهما يحتاج الآخر. غير أنه من السهل أن تتأذى هذه التعلقية المتبادلة بين الرجل والمرأة.

و لا يعد خوف المرأة من الرجل بدون مبرر دائماً، وبشكل خاص عندما يستغل الرجل المرأة ويجبرها بالعنف على إشباع رغباته. فمثل هذه السلوك يظهر بأن الرجل قادر على تحقيق المتعة الجسدية، بما في ذلك الذروة، غير أنه غير قادر على الحب بوصفه شعور إنساني. فالمقدرة على الوصول للذروة الجنسية ليست ضمانة للقدرة على الحب. فالشهوة الجسدية تحتاج إلى التكامل مع الحب؛ كشعور قوي ومستمر، يغمر الجسد؛ كظاهرة نفسية جسدية سليمة، تشتمل بشكل متزامن على الجسد والروح والذهن وتستند إلى الذات وإلى الموضوع، أي إلى الشريك. ومن السهل إلحاق الأذى بمثل هذا الحدث الشامل، الذي يحتاج إلى نمو طويل بسبب تعقده، كي يصل إلى النضج. وليس من قبيل المصادفة أن يعاني كثير من الناس من الاضطرابات الجنسية: العجز الجنسي (العنة، أو البرودة الجنسية) وعدم القدرة على الوصول للذروة لا تمثل هنا سوى الأشكال الأسهل تصوراً التي يتم اللجوء للإرشاد والعلاج النفسي بسببها سعياً وراء المساعدة العلاجية النفسية.

وقد يكون كذلك لخوف الرجل من المرأة مبررات. فبعض النسوة يستخدمن الرجل كضحية للكره والانتقام الموجه نحو الأب. فتحليل الاضطراب الكامن يمكنه أن يكشف فيما إذا كان الخوف مبرراً بالفعل في الحالة الفردية أم أنه مجرد نتاج لهواماتنا (خيالاتنا).

إلا أن عدم القدرة على الإحساس الانفعالي (العجز الانفعالي emotional Impotence ) في المواجهة الجنسية لكلا الجنسين، هي أكثر انتشاراً من العجز الجنسي (العنة، أو البرودة الجنسية) وعدم القدرة على تحقيق الذروة. وحتى اللغة تعد مؤشراً لذلك: ينامان مع بعضهما، يذهبان سوية للسرير. فالفعل يسير بشكل آلي، كالمنعكس. واستثارة أعضاء الجنس تجري بشكل فارغ. وتظل منفصلة عن الخبرة الروحية، عن الشعور. ولايسير الفعل الجنسي بشكل وجداني وهذا يحدث سواء في العلاقة بالآخر أم بالعلاقة بالذات.

ويبدو بأن الرجل هو أقرب للحب الشهواني (الجسدي). إنه سهل الاستثارة. إلا أن صعوباته تكمن في دمج هذه القابلية الجسدية للاستثارة في سياق أكبر من الخبرة الروحية.

ويبدو كذلك أن –وهذا ليس بالضرورة أن يكون لأسباب بيولوجية وإنما يمكن أن يكون نتيجة للتنشئة الاجتماعية (للتربية)- بأن المرأة أقرب إلى أن تحب بمشاعرها. إنها تستطيع أن تحب وجدانياً، مما لا يعني في الوقت نفسه بالضرورة أنها تشعر في الوقت نفسه بالحب الجنسي، بالمعنى التناسلي. فالخبرات السابقة لديها بالإشباع الذاتي أندر. وعليه فإن صعوبتها تكمن في دمج الجنسية الشهوانية (الجسدية) في الخبرة العاطفية الموجودة. والجنسانية الجسدية للمرأة كما نعرف من دراسات ماسترز وجونسون تتموضع في الثلث الأمامي من المهبل، الذي يشتمل على البظر والشفرين ومدخل المهبل. إنها منطقة مشحونة سلبياً بالنسبة للمرأة من خبرات طفولتها كطفل ويافعة وفتاة ومن خلال تأثيرات تربوية ومن خلال الربط مع خبرات الدورة الشهرية، وظلت محجوبة بشكل عام عن مشاعر الجسد؛ ولكنها منطقة تستثير طبقاً لطبيعتها الحب الجنسي بطريقة فريدة بوصفها منطقة استثارة. ومن حقها أن تتكامل مع الإحساس الجسدي ككل. ويتم دعم هذا إذا ما قامت المرأة باستقصاء مناطقها الجنسية بنفسها من أجل إزالة بهذه الطريقة المكنون البيولوجي الأكبر المحدد بيولوجياً للأعضاء الجنسية مقارنة بالأوضاع عند الرجل. ولا أريد هنا أن أتطرق للنشوة البظرية أو المهبلية، وإنما أريد الإشارة فقط إلى أن الأمر يتعلق في النشوة بخبرة كلانية لا يمكن حصرها بعضو محدد. غير أن فروق منفردة بين الجنسين مهمة: فالأعضاء الجنسية تكون لدى الرجل مألوفة أكثر من خلال الاستمناء ويعرف كيف يتم الأمر. ولكن ما لا يعرفه على الأغلب بأن الأمر لم يتم بهذه الوظيفة. فالشهوة الجسدية لوحدها هي مجرد متعة خارجية من دون إحساس روحي، من دون تأثر من دون مشاعر. والاستمناء في المهبل بحد ذاته لا يحقق الإشباع لا للرجل ولا للمرأة. إلا أن هذه العلاقة بالمشاعر الخاصة، بالانفعالات هي مضطربة لدى كثير من الرجال في أيامنا هذه مثلها مثل القدرة على التكيف نفسياً مع الشريكة وحبها –و هو ما يشمل كذلك القدرة على الإحساس بها، التماهي معها.

وغالباً ما يرجع سبب هذا الاضطراب إلى نقص الثقة بالمرأة. وهذا يعني بشكل ملموس في سياق الحب الجنسي الشهواني: عدم الثقة بالأعضاء الجنسية الأنثوية. فيعيشها المرء على أنها عدار([2]) Hydra خطير، يهدده بالتدمير أو بالابتلاع. ويمكن التغلب على مثل هذا النوع من المخاوف إذا ما برهنت المرأة للرجل من خلال سلوكها المشحون بالحب بشكل ملموس بأنه يمكنه الثقة. وما عليه من جهته سوى عدم استغلال المرأة لإثبات كفاءته. وغالباً ما تكون هي نزوعات الرجل التي يسقطها على شريكته ويعيشها بعدئذ على أنها آتية منها. وتتعلم المرأة في وقت مبكر عموماً التأقلم مع الشخص الآخر وأن تظل هي في الخلفية. والعلاقة لديها فوق كل شيء. وأكبر خوفها هو أن يتخلى عنها المحبوب ومن ثم أن تصد. فإذا لم تتمكن عندئذ من احترام نفسها كفاية – وهو أمر ليس نادراً للأسف-، لأنها غير واثقة في هويتها الجنسية الأنثوية، كما كانت أمها يوماً التي لم ترد أن تتماهي معها بشكل مقصود، ولكنه وجب عليها لاشعورياً، عندئذ يمكن أن يكلفها هذا آخر احترام لنفسها.

إن عدم ثقتها الذاتية بنفسها هو ما يجعلها متعلقة بشدة بالآخرين. ويمكن التغلب على عدم الثقة الذاتية هذا إذا ما تعلمت احترام ذاتها كإنسان، وكذلك كامرأة في هويتها الجنسية الأنثوية. ومن ضمن ذلك أن تقول بينها وبين نفسها نعم لجنسها؛ بما في ذلك جسدها وجنوستها. يمكنها أن تتلمس أعضائها الجنسية وأن تراها. ويمكنها أن تخبر ثروة عالمها الجنسي الداخلي وتستقصيها وأن تجعل أعضائها الجنسية جزءاً منها، ودمجها في صورة جسدها. وبدلاً من أن أذكر الأسماء التشريحية للأعضاء الجنسية فإني أفضل هنا الإشارة إلى صور الحلم لمريضة: فزهرة اللوتس، صندوق كنز بكثير من الكنوز في داخله.... حياة نابضة.

وينبغي رعاية هذا الاتجاه الإيجابي نحو الجنسية بلا كلل أو ملل، إذا ما أردنا للحب أن يستمر. ويتعلق الأمر هنا باتجاه داخلي ولكن باتجاه خارجي أيضاً، أي بنشاط أو عمل... إذ يقول أرسطو «بلا عمل لا توجد رغبة»، ويتحدث المحلل النفسي ميشائيل بالينت Michael Balint عن «عمل الإستئسار الذي يتطلب الكثير جداً من الطاقة، وبشكل أكثر تخفيفاً». طالما تستمر العلاقة. وفي هذا النوع من الحب الجارف يمكن التعرف على الشكل الفاعل من الحب. بالمقابل فإن العبارة الإنجليزية القائلة «الوقوع في الحب Falling in Love» توضح أنه يضاف إلى ذلك جانب سلبي (منفعل). فالاستعداد السلبي للقدرة على الاستسلام للحب الجنسي، القدرة على الوقوع في هذه الحدث تعد مهمة جداً، بحيث أني أريد أن أقول أكثر حول هذا الأمر. فهذه القدرة ترتبط بشرطين: الثقة بالذات وبالحب الخاص بالآخر؛ ولكن أيضاً الثقة بالآخر وبحبه. وعندما يتحقق هذان الشرطان يمكننا عندئذ أن نقع ونستسلم في الحب.

إلا أنه يرتبط بهذا نكوص، أي العودة إلى أنماط الخبرة السابقة التي خبرناها كأطفال. وهذا الاستسلام يتجدد في فعل التسليم. ويتضمن التخلي العابر عن حدود الأنا، وهذا يعني حدود شعورنا بالأنا، المرتبط مع انصهار متبادل «متقاطع». ويمكن مقارنته بالعودة إلى جسد الأم ومن ثم فهو يزيل الخبرات المؤلمة لكينونة الانفصال عن البعض الآخر. ويشبه «الانغماس» في الآخر في أثناء الرعشة فقدان الأنا، يمكن أن يعاش وكأنه ما قبل الشعور بالموت، وبالفرنسية «الموت الأصغر La petite mord».

«من خلال قدرتي على الاستسلام فقط أستطيع أن أكسب» يقول هيجل الذي نعرفه فيلسوف المثالية والمنهجية العقل ويجعلنا نكتشف لديه وجود تفهم كبير للعلاقة الخاصة بين المحبين: «فعل هذا هو فعل ذاك». ويقول في كتابه الصادر في عام 1821 في برلين بعنوان «أسس فلسفة الحق»: «اللحظة الأولى في الحب هي أني لا أريد أن أكون شخصاً مستقلاً لنفسي، وأني إذا ما كنت هذا أشعر بأني ناقص وغير كامل. واللحظة الثانية هي أني أكسب نفسي في الشخص الآخر، بأني أحقق فيه ما يحققه هو من جهته في. ومن هنا فإن الحب هو التناقض الخارق، لا يمكن للمقاومة أن تحله، الذي لايوجد فيه أقسى من دقة الوعي الذاتي الذي يتم إنكاره ولكن علي أن أمتلكه بشكل إيجابي. الحب هو إثمار وتحلل التناقض في الوقت نفسه». وتنعكس هنا الحوارية Dialogical في هذا النوع من العلاقة بين محبين اثنين بشكل فائق جداً. فإذا ما أشبعت هذه العلاقة بالوجدان، عندئذ تصبح «حواراً وجدانياً».

وهذا لا يعني أن يتم كبح وكف الوجدان أو أن ينحل على شكل تصعيد في الذهن. وهذا سيبدو اختصاراً للحب ثلاثي الأبعاد، من نحو عندما تفتقد العلاقة بالآخر. علينا ألا نفهم الذهن هنا على أنه «مناقض للروح» ، وإنما علينا أن نعتبره وعياً. وبهذه الطريقة سأدرك وجداني. أنا أتقبل الوجدان في أناي وبهذا أعيش على احتياطي القوة الدافعة الجنسية وأستطيع أن أتطور في الحوار مع الآخر.

لا ينبغي أن يتحول الهو إلى الأنا، وإنما على الهو أن يظل قائماً وأن يغني الأنا، أن ينميه وينعشه. بهذا الشكل فقط نكون قادرين على الحب بحيوية الحب ثلاثي الأبعاد بوصفه وجدان في الحوار وعلاقة مع الوعي الحي ووعي قائم في العلاقة مشبع بالوجدان - كل ذلك هو نفس الفعل.

 

 


(([1]    تأجيل أو تعليق أمر ما، والمقصود هنا فترة من الحياة يمر بها الشبان كإطالة فترة الدراسة مثلاً أو العزوبية، أو السفر . راجع للهوية وتشتتها في حياة إيركسون وأعماله. ترجمة سامر جميل رضوان (2010).

([2] )  أفعوان خرافي قتله هيرقل، ذو تسعة رؤوس فكان كلما قطع له رأس ظهر له رأسان جديدان.، أو شر متعدد الجوانب لا يمكن التغلب عليه.