الأساليب الإيحائية في التشخيص النفسي

الأساليب الإيحائية في التشخيص النفسي

خطأ فني محتمل لابد من تجنبه

von Rudolf Sponsel (Integrative Psychotherapy)            

أ.د. سامر جميل رضوان 

يغيب الوعي بمشكلة الإيحاء وأساليب الإيحاء  في التشخيص النفسي  عن مجال علم النفس وعلم النفس المرضي والطب النفسي والعلاج النفسي كلية،  وهي تبدو كما لو أنها بلد نام إن صح القول.  وحتى أن الإكلينيكيين لا يعرفون حتى ما هي الأساليب الإيحائية، ولماذا ينبغي  تجنبها في موقف التشخيص النفسي  بشكل قطعي. غير أن السذاجة والجهل لا يقتصران على الممارسة فقط  بل  يمتد ليشمل العلوم و البحوث أيضاً، و حتى تلك البحوث التي يفترض لها أن تكون عارفة بشكل أفضل ويفترض لها أن تكون قد تراكم لديها وعي معقول بالمشكلة ليست أفضل حالاً: أي أبحاث الذاكرة في ميدان أخطاء التذكر.

 فمن المستغرب أنه عندما يطرح الباحثون أسئلة إيحائية  للذكريات الكاذبة،  فإنهم  يبرهنون عن أنهم لم يفهموا شيئاً على الإطلاق من أبحاثهم.  و بالتحديد وفي عصر الوسائط الإعلامية والإعلان والذي يدفع بالخيال  والتلاعب  والإيحاء باطراد إلى الخلفية،  وازدهار اللاعقلانية  والروحانيات[1]  esotericism والتشيع النفسي[2]  Psycho-Sectarian، بل حتى روابط علم النفس والعلاج النفسي  وعلم النفس المرضي نفسها متورطة في إنشاء و انتشار الاضطرابات والأمراض "الجديدة"، بل حتى يمكننا الحديث عن "موضة" وبائية ونفسية.

والإيحاءات والأساليب الإيحائية هي من حيث المبدأ خطأ فني محتمل ولا بد من تجنبها، إذا ما أردنا الحصول على صورة للحقائق (الوقائع)، في جميع مواقف الحصول على البيانات التشخيصية والتشخيصية التفريقية في كل موقف يتعلق الأمر فيه بالحقائق أو الوقائع. وحتى لو كان العديد من الإيحاءات أو الأسئلة الإيحائية في الحالات الفردية قد يبدو غير مؤذي أو حيادي فنحن لا نستطيع أن نحدد مسبقاً إن كان هذا هو الحال أم لا. 

في كثير من الحالات قلما يمكن تجنب الإيحاءات في مواقف العلاج، و ربما تكون إلى حد ما  مفيدة، غير أن هذا لا ينطبق بطبيعة الحال، إذا ما تم الإيحاء باستمرار بالأوهام ونُسج الخيال النظرية المشكوك بها - والمميزة في العادة للتحليل النفسي ("كحسد القضيب" و"عقدة الخصاء" و "الدوافع اللاشعورية" على سبيل المثال) -. ومن حيث المبدأ ، لا توجد أبحاث خاصة بالإيحاء  فيما يتعلق بأساليب وتقنيات العلاج النفسي، وكما هو الحال بالنسبة  لجميع العلاجات  وهذا ينطبق أيضا على النموذج الطبي العام.

تقول القاعدة الفنية ("The State of Art" بالنسبة للتشخيص ما يلي:

أبدأ بأكبر قدر ممكن من الانفتاح ولا تفترض شيئاً مما لم يقله المتعالج نفسه.

كما ينبغي ممارسة  ضبط النفس عند الإعادة (قلت لي من قبل ، بأنه ضربك،؛ فتضايقت أمك وجعلتك تشعرين بذلك؛ أنت لا تحبينه؟ ) لأنه من الممكن أن الموضوع مازال غير موضح كفاية و من الممكن له أن يتشوه بشدة من خلال ذلك .

القانون الأساسي لنظرية الذاكرة الحديثة

ما يتم تذكره أو استرداده ليس الذكريات والخبرات الحقيقية وإنما يتم إعادة بناء تلك الذكريات والخبرات.   ومن الممكن أن تطال إعادة البناء تعديلات بدرجة كبيرة أو صغيرة ( تحريفات وضلالات وأخطاء).

إلا أنه لا يجوز من ذلك تأييد السقطة الفرويدية و التحليل نفسية والقائلة إن المرء لا يحتاج لتصديق الإنسان على الإطلاق، فكل شيء  سيظل مجرد أوهام إلى  أن يتم "تنظيفه" من خلال مصفاة  التحليل النفسي (ربما تنطبق كلمة "تلويثه" بشكل أفضل  في كثير من الأحيان). وعلى نفس الدرجة ينبغي على المرء تقييم البنائية المبتذلة vulgar constructivism.

--------------------------------------------------------------

توضيحات

أبحاث الذاكرة ، ميدان الذكريات الكاذبة : هوفر ، لانجين كونكن  Höfer, Langen & Köhnken (1997, in: Greuel, L.; Fabian, T. & Stadler, M. (1997, Hg.) ، علم نفس الشهود.  نتائج الأبحاث  النفسية القضائية { اجتماع DGPS في عام 1995في مدينة بريمن } فاينهايم Weinheim: دار نشر علم النفس ص 166) يقتبسون سؤال إيحائي من دراسة حول " الكبت " - وهو مفهوم غامض من التحليل النفسي- خبرات الاعتداء الجنسي لبريير وكونتي Briere & Conte (1993): " هل كان هناك خلال الفترة بين الخبرة الجنسية الأولى التي كنت مجبراً عليها و عيد ميلادك الثامن عشر أية فترة من الفترات التي لا تستطيع فيها تذكر خبرة جنسية قسرية؟ ". فهذا السؤال متعدد الإيحاءات ومن هنا فهو خطأ فني مرفوض وبالتالي فقد انتقد المؤلفون هذه الطريقة من السؤال. سأل ويليامز  Willuams  سؤالاً إشكالياً من حيث المضمون وعلاوة على ذلك إيحائياً: " هل كان هناك وقت من الأوقات لم تتذكر فيه ما حدث لك ؟ " مقتبس  عن  Schacter, Daniel (dt. 2001, engl. 1996). ص 421 . نحن ذكريات وذاكرة وشخصية.

اللاعقلانية  والروحانيات  esoterics   والتشيع النفسي Psycho-Sectation

ليس للاعتقاد الإنساني وقابليته على التأثير حدوداً. فلا يوجد أي شيء تقريباً لا يمكن تصديقه. وخير مثال حول الهراء الذي يعتقد البريطانيون أو لا يعتقدون،  نشرته مجلة شبيغل في دراسة استقصائية ( لـ 2069 من البالغين ) نشرته صحيفة الاندبندنت : " هل كان هناك حقا حرب باردة؟  وماذا عن معركة  Battle of the Hornburg (في فيلم سيد الخواتم)؟ وسواء كان برج بيزا مائل لهذا الصوب أم لذاك الصوب فإن معظم الألمان ربما  ليس لديهم شك في أن الحرب الباردة لم تكن مجرد اختراع لهوليوود - في تناقض صارخ مع الجيران البريطانيين: فوفقا لدراسة نشرتها الأندبدنت فإن ثلث البالغين ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون بأن الحرب الباردة من اختراع الأدباء  وكتاب السيناريو، وأكثر من 60% يعتقدون من ناحية أخرى، أن معركة  هورنبورغ والتي ظهرت  في الجزء الثاني من الثلاثية الخيالية سيد الخواتم"، قد حدثت في  الواقع. و وفقاً للتقرير ، يعتقد أحد عشر في المئة من البريطانيين، أن أدولف هتلر كان مجرد اختراع ، وشكك 9% بوجود ونستون تشرشل و33% بوجود الديكتاتور الايطالي بينيتو موسوليني وكان 57% من المشاركين مقتنعين أن هذا الملك الانجليزي الأسطوري آرثر قد عاش حقا، بل حتى أن 5%  يعتقدون " كونان البربري[3]" الذي مثل دوره أرنولد شوارزنيجر موجود تاريخياً .

القانون الأساسي: بدقة أكثر القانون الأساسي لعلم الذاكرة الأحدث  وفق جون كوتري  John) Kotre": قفازات بيضاء")، والذي  يذكر أن فريدريك بارتليت كان سباقاً. فبما أن الأميركيين غالبا ما لا يعرفون عن تاريخ غير الأمريكيين إلا القليل  فإن غالبيتهم لا تعرف وليام ستيرن و أوتو ليبمان  William Stern, Otto Lipmann ولا علم الذاكرة النقدي  لعلم نفس الشهادات الألماني والذي يبلغ عمره الآن أكثر من 100 سنة . فرويد ، وهو طبيب،  وليس عالم نفس، ذلك أنه قد عارض العمل التجريبي والإمبيريقي بقصور في الرؤية، (فقد اعتبر أفكاره وأوهامه علماً وبهذا فقد خلط بداية العلم بنهايته) وغير رأيه بشكل شديد الانتهازية. وقد تم عرض الثروة المعرفية القديمة لعلم نفس الشهود الألماني وبشكل مثير للانطباع من قبل السيد والسيدة لوفتوس Loftus في العديد من التجارب الأحدث. وكان بينيه قد قدم أدلة تجريبية على الفاعلية في عام 1900، وبعد 49 سنة، تم تأكيدها بشكل لافت من خلال تجارب روبرت تروس (1949). كما تم تشجيع التحول إلى الرؤية الترميمية للذكرى إلى حد كبير من علم النفس المعرفي الحديث (Neisser, 1967) وحظيت  نظرية التسجيل الفوتوغرافية القديمة (Metaphor Videorecorder) بدعم مثير للإعجاب في أعمال  وايلدر بنفيلد[4]  (Wilder Penfield, 1963 ff)   حول تجارب الاستثارة العصبية الجراحية. وعموما فنحن لا نعلم عن مختلف عمليات الذاكرة و التذكر المختلفة  إلا  القليل جدا (Engelkamp, 1991)  . كما يؤيد المبدأ الأساسي في الترميم كل من كرومباغ و ميركيلباخ (Crombag, F.M. & Merckelbach, L.G. dt. 1997, ndl. 1996): لا ينسى المرء الإساءة – التذكر والكبت- التشخيص الخطأ والأحكام الخاطئة. برلين دار نشر الصحة.

فمن المستحسن بشكل عام اتخاذ موقف حذر مع التدقيق الدقيق،  وربما التحليل التجريبي- والإمبيريقي للحالة الفردية و قضيتها من دون أي تحديد مسبق معمم عقائدياً  لصالح أو ضد هذا أو ذاك الرأي (على سبيل المثال ، لا وجود للنسيان، والأطفال يقولون الحقيقة دائماً، الذكريات الخاطئة  والاستغلال يستتبع دائماً الصدمة ...الخ).

التشويهات: هناك قصص كثيرة أكثر تعقيدا، بل ومن حيث المبدأ قد تكون هناك إمكانات لانهاية لها.  كثير من العناصر قد يتم حذفها بشكل غير صحيح أو اختراعها تغييرها أو إضافتها أو تشويهها defamiliarize. وفيما يتعلق بسرد القصص فقد كان  بارتليت (1932)  قد درسها تجريبياً.

الأخطاء: ومن الأمثلة الشهيرة جدا عن الذكريات الكاذبة نجده لدى واحد من أشهر علماء النفس المعرفي والنمو، ألا وهو جان بياجيه، والذي اعتقد أنه قد اختطف في الثانية من عمره، ووصف اختطافه  بصورة دقيقة وشديدة الإثارة، على الرغم من أن الاختطاف لم يحصل أبداً، كما أفادت مربيتة، فعندما أصبح بعمر الخامسة عشرة،  اعترفت مربيته في رسالة إلى والديه بانها اخترعت هذه القصة برمتها (مقتبس عن Kotre, John, dt. 1996, eng. 1995)، صفحة 51: قفازات بيضاء . كيف  تكتب الذاكرة قصص الحياة. ميونيخ. فيينا. انظر أيضا مثال تذكر الخفايا cryptomnesia [هنا :الذكريات المدفونة] في رونالد ريغان (ص 51 وما بعد) وهناك مثال جيد آخر يتعلق بالمقارنة بين الأقوال المتعددة لجون  دين John Wesley Dean حول فضيحة وترغيت أمام لجنة مجلس الشيوخ ( ص 53).

 


[1] الروحيات، أو العلوم الخفية وقد تسمى علم الغيب والعلوم الغريبة، هو مصطلح جاء معناه في القواميس شيء غير مادي روحاني يدل على عقد الآراء, مقصور على فئة معينة أو معتقد ما. والكلمة ايسوتريسم يعني روحاني مستمدة مناليونانية ايسوتيرسكوس(باليونانية ἐσωτερικός) وهي جملة مركبة من كلمتين (إيسو:ἔσω  يعني "داخل" أو المتصل بالداخل. واكستيريك ويعني "الظاهر".ومعنى الروحيات في الأدبيات العلمية، فسر على المدى الطويل بأنه يدل على شيئ يتعلق بتيارات دينية ومذاهب وطوائف معينةبالسحر، وعلم الفلك والكيمياءوعلى تيارات متنوعة دينية مثل الغنوصية والبوذية والصوفية والمسيحية المتعلقة بالرهبنة والنساك. وتيار الصوفية في الإسلامووجود بعض السمات المشتركة بين هذه التيارات الا انها ليست جميعا تنطوي تحت صفة السرية والكتمان والانغلاق مثل بعضها. يوجد لروحيات ظاهرية وباطنية وبعضها تيارات دينية مثل الرهبنة في المسيحية تعتبر روحيات ظاهرية حيث الطقوس تكون معروفة للعامة ويمكن المشاركة بها مع اي شخص من خارج المجموعة. وهناك روحيات مغلقة حيث من غير المسموح لغير التابعين لنفس المجموعة أو الفريق بالاطلاع على اسرارها أو المشاركة بها.

[2] شكل من أشكال التأثير النفسي يسعى نحو توجية مجموعة من الناس ناحية تبنى فكرة أو اتجاه أو معتقد ما، بهدف امتلاك السلطة على الناس،  مثال ذلك تلك الطوائف التي تمجد القتل أو الانتحار الجماعي أو غيرها.

[3] كونان البربري هو فيلم خيالي أنتج عام 1982. وهو مستند على قصص روبرت هوارد, كاتب الأدب الخيالي في الثلاثينات، حول مغامرات شخصية كونان البربري في عالم ما قبل التاريخ الخيالي وسط السحر الأسود والهمجية.

[4] وايلدر گريڤز پنفيلد Wilder Graves Penfield (عاش 1891-1976) اختصاصي أعصاب كندي، ابتكر مع زميله هربرت جاسپر عملية مونتريال وهي أسلوب جراحي لمعالجة بعض أنواع مرض الصرعتنشأ نوبات الصرع في بعض العناقيد الخلوية الصغيرة التالفة بالدماغ. وقد ابتكر بنفيلد طريقة لرصد هذه الخلايا واستئصالها بالجراحة. وضع بنفيلد تخطيطًا مساحيًا للدماغ، رصد به الأجزاء التي تتحكم في الأنشطة المختلفة للجسم. وبيّن ما يطرأ على وظائف الكلام والذاكرة من خلل مؤقت عند تمرير تيار كهربائي على أجزاء معينة من الدماغ. وبهذه الطريقة استطاع بنفيلد تحديد الموضع الذي يتحكم في الكلام خلف الجزء الأيسر من المخ. كما اكتشف أيضًا أن حث الفص الصدغي ـ وهو جزء من المخ ـ كهربائيًا، يساعد الذاكرة على استحضار التجارب القديمة المختزنة. وخلص إلى أن جزءًا من الذكريات يختزن في الفص الصدغي.

وُلد بنفيلد في سپوكان، واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، درس في جامعة پرنستون، ثم حصل منحة رودس الأمريكية للدراسة في جامعة أكسفورد بإنجلترا عام 1916م، حيث درس علم الأمراض العصبي مع السير تشارلز سكوت شرنگتونونال إجازة الدكتوراه في الطب من جامعة جونز هوپكنز بولاية مريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، عام 1918م. وفي عام 1934م صار مواطنًا كنديًا. وأسّس في نفس العام معهد مونتريال لدراسات الجهاز العصبي الذي تولى إدارته إلى حين تقاعده من الخدمة عام 1960م.