جنون الاثنين

10/08/2013 10:03

الاضطراب النفسي المزدوج

يعني  Folie à deux (بالعربية اضطراب عقلي ثنائي أو مزدوج)، أن شخص سليم بشكل عام من الناحية العقلية يتبنى التصورات الهذيانية لشخص آخر مريض بمرض ذهاني (مريض عقلي أو نفسي). أي أن شخصين (وفي بعض الأحيان أكثر) يتشاركان نفس الهذيان أو نفس منظومة الهذيان و يتجذران بالتدريج في هذه القناعة  إلى أن يصبحان في النهاية مهددان بحدوث مجرى مرضي مزمن (دائم).

ومثل هذا النوع من العدوى الذهانية معروف منذ زمن بعيد (وأطلقت عليها في السابق التسمية اللاتينية Contàgio psychica"" أي الجنون الناجم عن العدوى)

أما اليوم فتستخدم مفاهيم حديثة تتناسب أكثر مع معنى هذا الاضطراب. ففي الدليل الإحصائي والتشخيصي الأمريكي الرابع DSM-IV  يطلق عليها تسمية الاضطراب الذهاني المشترك، أما في التصنيف العاشر الاضطرابات النفسية التابع لمنظمة الصحة العالمية ICD-10-WHO فيسمى  بالاضطراب الهذياني المستثار ومن النادر أن يتم استخدام المصطلح القديم Folie à deux، وأحياناً يتم استخدام مفاهيم أخرى، كالمعروضة أعلاه. وفي هذه الأثناء لم يعد هذا النوع من الاضطرابات مسؤولاً عن ظهور أعراض الاضطراب الهذياني لدى فرد آخر فحسب بل أصبح يعتبر مسؤولاً كذلك عن ظهور أعراض الهذيان في مجموعة كاملة من أفراد الأسرة (التأثير الهذياني على عدة أفراد داخل المنظومة الأسرية Folie à Famille) أو مجموعة من الأشخاص (الجائحة الذهانية).

فما هو الذهان؟

الذهان عبارة عن اضطراب نفسي تصاف فيه الوظائف النفسية بالأذى إلى درجة تصبح فيها العلاقة بالواقع والقدرة على الاستبصار و الكفاءات الشخصية متضررة بشدة بحيث يصبح الشخص فيه عاجزاً عن مواجهة متطلبات الحياة (تعريف منظمة الصحة العالمية).

وما هو الهذيان؟

 عبارة عن أفكار أو قناعات ذاتية تنبع من داخل الشخص، ويتعامل معها الشخص على أنها حقيقة غير قابلة للشك، ولا يمكن برهانها معه بشكل عقلاني. ظاهرة تلاحظ كثيراً في الفصامات، من نحو هذيانات الملاحقة (شعور الشخص بأنه ملاحق وأن هناك قوى تتربص به) وهذيانات الجسد و الهذيانات السمعية والبصرية. لا يمكن علاجها بالمنطق أو العلاج النفسي بل بالعلاج الطبي النفسي.  

 

حدوث الذهان المشترك

حسب مستوى المعرفة الراهن فإن الاضطراب الهذياني المستثار عبارة عن اضطراب تصعب ملاحظته، ومن النادر جداً اكتشافه وتشخيصه ومن النادر أن تتم معالجته بشكل هادف. فما الذي نعرفه حول هذا الاضطراب حتى الآن:

  • تعاني النساء من هذا الاضطراب أكثر من الرجال، وبشكل خاص كشريك سلبي. ومن جميع الفئات العمرية.
  • يكون مجرى المرض في العادة مزمناً أو هناك احتمال لأن يصبح مزمناً، فكلما طالت فترة هذا الاضطراب المشترك قلت فرص الشفاء هذا في حال تمكن الشخص من الالتزام بالعلاج بالفعل.
  • غالباً ما يصيب المرض الأقارب في الدم (أي الأخوة والأخوات، الأمهات، الآباء، البنات، الأولاد)....وبشكل خاص الزوجة. ولكن أحياناً قد يصاب بهذا الاضطراب الأصدقاء والجيران ....الخ.
  • غالباً ما نلاحظ وجود عزلة اجتماعية: سكن منعزل، عدم معرفة باللغة في محيط غريب...معاقين أو مرضى، مهاجرين، "حالات اجتماعية"، سكن في محيط غريب....الخ وغالباً من الطبقة الاجتماعية الدنيا.
  • يوجد استعداد ورائي على الأغلب للإصابة بالذهان (إرهاقات وراثية للإمراض النفسية)، لدى الشريكين المثير للهذيان ولدى المتأثر به.
  • غالباً ما يلاحظ وجود سمات فصامية: وهذا عبارة عن طبيعة أو جوهر شبيه جداً بالفصام: مثل البرودة، عدم الاجتماعية ، الانسحاب، بدون دفء، فرط الحساسية، برودة القلب، وغير القابلية للحسبان، قابلة للتأثير، انفجارات انفعالية غير متوقعة.

 

كيف يتم التفريق بين الشريك السلبي والشريك الإيجابي؟

الشخص المستثير (الشريك الفاعل "inductive"): ويكون أقرب للفاعل، شديد sthenic(قاس، وعنيد، مندفع، لامبالي، أو حتى متعصب)، وكذلك ضمن ظروف معينة حساس (مفرط الحساسية، غير واثق من ذاته، سريع الاستياء)، يكون مسيطراً في علاقاته الاجتماعية في كل الأحوال.

في القناعات الهذيانية يتعلق الأمر في العادة بحالات هذيان الملاحقة، وهذيان الأذى، ونادراً ما تكون هذيانات دينية أو تبرمية. ويمكن للهذيانات أن تكون ذات طبيعة خفيفة، ولكنها تميل في العادة لأن تكون أقرب من للشديدة بل شاذة. غالباً ما تكون من النوع السلبي، أي المرهق أو المهدد (قوى عدوانية، رشاوى، ملاحقة، أضرار...الخ) وأحياناً تبدو هذيانات مفرحة وصولاً إلى هذيان العظمة (المادية، السياسية، الفنية، المهنية، الجنسية،...الخ) ويتحول الهذيان في النهاية إلى منظومة كاملة من الهذيان.

الشريك الفاعل المسبب للهذيان غالباً ما يكون على أبواب مرض عقلي مقبل. وغالباً ما يتم طرح التشخيص الطبي النفسي: فصام بارانوئي (-هلاسي) Paranoid (-hallucinatory Schizophrenia  باضطرابات شكلية في التفكير، واضطرابات في الأنا و انغلاقية autism و خداعات حسية أحياناً.

ولكن من النادر أن يكون الأمر هنا عبارة عن اضطراب هذياني أو اضطراب وجداني هذياني، أي اكتئاب هذياني أو ما يسمى هوس هذياني.

التنبؤ: فرص الشفاء بين المتوسطة و السيئة. وينطبق هذا على ما يسمى بالشفاء الاجتماعي، أي القدرة على الاندماج الاجتماعي و المهني و البين إنساني إلى حد ما.

 

الشخص السلبي (المتلقي أو الذي يتبنى منظومة الهذيان)

الشخص المتلقي غالباً ما يكون سلبياً (ولكن ليس دائماً) واهن asthenic؛ خائر القوة، من دون طاقة وقدرة على التحمل، غالباً مايكون تعباً ومرهقاً ويحتاج للراحة، وحساس، وخائف، وسريع التعكر، ويشكو من شكاوى إعاشية vegetative ليس لها سبب موضوعي...الخ.

  • الشريك السلبي غالباً ما تكون بينه وبين الشريك الإيجابي قرابة دم أو زواج و يعيش معه منذ فترة طويلة، وأحياناً ما يكون معزولاً ويحاول في العادة أن يتلائم مع هذه العلاقة. غالباً ما يكون مستوى ذكاؤه أقل من مستوى ذكاء الشريك الآخر (ولكن ليس دائماً). وعدا عن وجود منظومة الهذيان التي يتم تبنيها وصولاً إلى منظومة هذيانية مبنية لا توجد في العادة اضطرابات في شكل التفكير، ولا اضطرابات في الأنا و لا انغلاقية Autism كما هو الحال في الشريك الفاعل. لهذا تكون إمكانات الشفاء لدى الشريك السلبي ملائمة إذا ما تم علاجه. وفي الحالات المناسبة وبالطبع بعد إجراء فصل حتمي بينهما على الأقل حتى انتهاء العلاج الناجح.

 

الوجوه النفسية للاضطراب الذهاني الثنائي

هناك رؤى مختلفة حول الأسباب النفسية لمثل هذا التعلق. ومن أمثلة ذلك: مجرد التقليد أو المحاكاة نتيجة للتعاطف؛ وكنتيجة لعلاقة ناجمة عن شريك مسيطر وآخر خاضع؛ و "كنتيجة لعملية تعلم"، أو محاولة لا شعورية إلى حد ما لإنقاذ الأسرة الصغيرة. ومن أكثر الاحتمالات الممكنة للأسباب هي أن الشريك الذي أصبح مريضاً (بارانوئياً) هذيانياً يصبح مهدداً من خلال عالمه الهذياني المعزول، فيبحث عن شريك له يحفظه من الاغتراب الاجتماعي الكلي، من خلال مشاركته لهذياناته مع الآخر.

غالباً ما يكون الشريك السلبي وبناء على بنية شخصيته غير محمي هو نفسه من خطر العزلة، إلا أنه يقع أمام خيارين: الأول رفض هذه الأفكار (المبهمة أو العويصة abstruse) و بهذا فهو يعرض العلاقة أو يختار الخيار الثاني تبنيها بشكل سلبي، أو مع الوقت تبنيها بشكل إيجابي بشكل متزايد. ومن خلال ذلك تنشأ ما تسمى "هوية-النحن".

وبهذا يحاول الشريكان الحفاظ على مسافة تبعدهم عن العالم المهدد و المخيف بالنسبة لهما، و يقومان بهذا من خلال تفسير أو اعتبار العالم الخارجي المهدد لهما على أنه عالم عدواني، ويصدون الأقارب الآخرين والأصدقاء والجيران و الموظفين...الخ بعنف.

وهنا يلعب موضوع الهذيان دور كبير. ويشكل موضوع الهذيان معياراً موثوقاً لهما في محيط يعتبرانه فوضوي، ومشتت، ومهدد بالنسبة لهما. و يمكن للمرء هنا أن يتمسك بموضوع ملموس إلى حد ما، سواء كان هذيان الملاحقة أو هذيان الأهمية. وعندما يتحول هذا الهذيان إلى منظومة هذيان منتظمة فإنه يصبح بالنسبة لهما أكثر يقيناً، حتى لو أنه يبدو من الناحية الموضوعية "مجرد تخريفات". و تصبح هذه التخريفات أكثر أهمية كلما تم صدها أكثر من خلال ردود أفعال المحيط أو كلما حشرت أكثر في الزاوية لتبيان بطلانها من المحيط، مما يعزز عند هؤلاء الأشخاص اعتقادهم بصحة أفكارهم.

وأخيراً تنشأ حلقة مفرغة أو ما يسمى "طاحونة الهواء" لايمكن للمعني الخروج منها من دون مساعدة متخصصة.

 

علاج الاضطراب الذهاني الثنائي

المشكلة في هذا الاضطراب أن المعنيين نادراً ما يأتون للعلاج لا يأتون معاً ومن ثم فإنه من الصعب اكتشاف الاضطراب. ولا يؤثر فصل الشريكين عن بعضهما بدون علاج نفسي وطبي نفسي (دوائي: مضادات الذهان antipsychotica)  على الشريك الفاعل (الذي يسبب الهذيان للآخر) بل يمكن أن يزيد الأمر سوءاً. فالأمر في النهاية يتعلق بفصام وصولاً حتى ذهان وجداني (اكتئاب هذياني أو هوس هذياني على سبيل المثال).

أما لدى الشريك السلبي (الذي يتبنى) يحصل تحسن من خلال الانفصال. إلا أنه في الغالب لا يكون لفترة طويلة، وأحياناً تزداد الحالة سوءاً.

والحل الأفضل المبرهن هو العلاج مع الإقامة في المستشفى في مستشفيين منفصلين بعلاج مركب من العلاج النفسي والعلاج الدوائي. وبعد ذلك متابعة خارجية مع الاستمرار في العلاج النفسي والدوائي لفترة زمنية طويلة.

إلا أن النجاح يتعلق بمدى تعاون المريض، الذي يندر له أن يلجأ للعلاج بإرادته أو باختياره وبشكل خاص لدى الشريك الفاعل. وبالتالي فإن إمكانات النجاح تظل محدودة.

المراجع:

  • Diagnostically and statistically Manual of psychological Disorders - DSM-V Hogrefe Verlag fuer Psychology, Guettingen-Bern-Torento-Seatle 1998.
  • International Classification of psychological Disorders –ICD-10-WHO. Verlag Hans Huber, Bern-Goettingen-Torento-1993

 

للخلف