الصحة النفسية وقلة الحيلة واليأس المكتسبان "اليأس المتعلم"

29/11/2014 19:52

الصحة النفسية وقلة الحيلة واليأس المكتسبان

"اليأس المتعلم"

 

1-     مدخل

توجد عوامل متنوعة تلعب دوراً في تحقيق وتنمية الصحة النفسية. ويشكل البحث في هذه العوامل وتحديدها الأساس الذي تقوم عليه علوم الصحة، وعلم الصحة النفسية بصورة خاصة. ومن هذه العوامل الكيفية التي يدرك فيها الأفراد المواقف والخبرات التي يمرون بها، والأسلوب الذي يقيمونها فيه.

فقد رأينا في دراستنا للأحداث الصادمة أن العوامل البيئية وحدها غير كافية لتفسير الاضطرابات النفسية وإلحاق الأذى بالصحة النفسية. فهناك عوامل أخرى كامنة  في الفرد نفسه تسهم بدرجة ما في الحفاظ على الصحة النفسية أو إلحاق الأذى بها. ومن بين العوامل الكامنة في الفرد يتم البحث في الجوانب المتعلقة بالدوافع وأسلوب إشباعها وتحقيها وفي الجوانب المتعلقة بالجانب الانفعالي والعوامل الخارجية والداخلية المؤثرة فيها وكذلك البحث في الجوانب المعرفية (الاستعرافية) عند الفرد.

ومن النظريات الجديرة بالاهتمام في هذا الميدان نظرية قلة الحيلة واليأس المكتسبين (اليأس المتعلم)، التي لا تلقي الضوء على جانب مهم من الجوانب المؤثرة في الصحة النفسية  فحسب وإنما يمكن أن تفسر لنا الكثير من أشكال عدم التوافق والسلوكيات السلبية والاستسلامية عند كثير من الأفراد، وخصوصاً ضمن ظروف بيئية واجتماعية تشبه في تركيبتها مجتمعاتنا.

ففي ظل سيادة القهر والظلم الاجتماعي والفقر والبطالة، وشعور الأفراد بعدم قدرتهم على تغيير هذه الظروف، وأنهم مسيطر عليهم من الخارج ينزلق الناس في نوع من الاستسلام والخضوع واليأس الذي يقود بدوره إلى تراجع في شعور الإنسان بالعافية والصحة، وقد يصل الأمر في النهاية إلى الاكتئاب. وحين تصل الأمور عند الفرد إلى هذه المرحلة تصبح أقل بوارق الأمل بالنسبة له غير ذات معنى ويفقد الإنسان القدرة على المبادأة والإبداع وعدم الرغبة في تغيير هذا الواقع الاجتماعي والنفسي مما يؤدي إلى تراجع الإحساس بالصحة النفسية والجسدية والشعور بالعافية. بكلمات أخرى تختل لديه موازين التكيف لينحرف مؤشر التكيف إلى نوع من التكيف السلبي.

2-     نظريات حول تفسير قلة الحيلة واليأس المكتسبان

ظهرت نظرية قلة الحيلة واليأس المكتسبين في علم نفس الأعماق (التحليل النفسي) وعلم النفس السلوكي المعرفي (الاستعرافي). وقد اتخذ علم نفس الأعماق لنفسه منهج الدراسات التجريبية العيادية (الإكلينيكية)، في حين اتخذت السلوكية المعرفية المنهج التجريبي المخبري.

وقد قاد كلا الاتجاهين إلى الحصول على كمية كبيرة من المعارف المدعمة حول العوامل المؤثرة على الصحة النفسية والمسببة للأمراض والاضطرابات النفسية والأمراض النفسية الجسدية. كما وقدم النموذجان معارف مهمة حول ردود الأفعال الانفعالية للمعوقين. بالإضافة إلى السلوك الاجتماعي والبيئي للأفراد.

2-1-          نظرية قلة الحيلة واليأس المكتسين في علم نفس الأعماق

لاحظ  الباحثان الأمريكيان إنجل وشميل (Engel & Schmale,1978) في سبعينيات القرن العشرين أنه يسبق حدوث الكثير من الأمراض العضوية (كالقرحة المعدية والسرطان…الخ) حالة نفسية عند الأفراد تتميز بالإحساس بالخسارة أو الافتقاد الذي لا يعوض. كما ولا حظا هذه الحالة عند ازدياد المرض سوءاً أيضاً.

وقد اعتبرا أن هذا الوضع الانفعالي يمثل شرطاً أولياً لظهور أعراض الأمراض الجسدية أو النفسية أو استفحالها exacerbation.

ويمكن وصف الطبيعة الظواهرية phenomenological  لهذه الحالة الانفعالية على النحو التالي:

1)  تحتوي هذه الحالة على فقدان انفعالي كمي للرغبة. ويتجلى هذا الأمر من خلال تعابير…”هذا كثير جداً”….”لقد فاض بي الأمر”…”لم أعد قادراً”….”أنا يائس”…”لم يعد عندي أمل" "أنا مستسلم"……. وتحتوي هذه الحالة على نوعين من الانفعالات:

·   الأول يمكن وصفه من خلال مصطلح قلة الحيلة Helplessness ، وينشأ هذا الانفعال عندما يتم عزو سبب هذه المشاعر التي يشعرها الإنسان إلى البيئة، أن يتم اعتبار البيئة الخارجية (الظروف، الأشخاص..الخ) مسؤولة عن هذه الحالة الانفعالية التي وصل إليها الإنسان.

·   والثاني من خلال مصطلح  اليأس Hopelessness. وهو انفعال ينشأ عندما يعزو الفرد سبب مشاعره إلى ذاته، أي يعتبر نفسه مسؤولاً عما حصل له، ويشعر أنه ليس بإمكان أي شخص أن يقدم له يد المساعدة.

2)    يشعر الشخص بأنه غير متكيف، ومصاب بأذى، وأنه لم يعد في حالة تسمح له القيام بنشاط مستقل نسبياً.

3)  يشعر الشخص أن العلاقة بالمحيط (الأشخاص والأشياء)  لم تعد أكيدة وموثوقة ، أو يشعر بأنها لم تعد مرضية، ويشعر بأن المقربين منه قد تخلوا عنه.

4)    ينحرف العالم الخارجي المدرك بدرجة كبيرة عن التوقعات التي تقوم على خبرات الماضي.

5)    يشعر الشخص بفقدان العلاقة بين الماضي والمستقبل. ومن ثم يبدو له المستقبل قاتماً نسبياً وغير مثمر.

6)  يتولد الاتجاه بإعادة إحياء المشاعر والذكريات وأنماط السلوك المرتبطة بخبرات الماضي والتي يشعر الشخص التي أنها تشبه الخبرات التي يمر بها الشخص في الوقت الراهن (نكوص).

وترى النظرية أن ردة فعل اليأس هذه تكون عبارة عن أعراض نفسية وجسدية متنوعة. غير أن هذه الأعراض لا توجد بالضرورة عند كل الأشخاص بالدرجة والشدة والمستوى نفسه. كما وأن الحالة المرضية يمكن أن تتطور بالتدريج أو بسرعة ويمكن لها أن تستمر لوقت متفاوت الطول ويمكن لها أن تتحول بشكل دوري من الشدة إلى الضعف ويمكن لها أن تثور وتهدأ بسرعة.

ويرى كل من إنجل وشميل أن المرء يمر بطورين من المشاعر الأول الشعور بالاستسلام  given up  (أو الشعور بأن المرء مستسلم)  والثاني الاستسلامgiving up  .

·   يظهر طور الشعور بالاستسلام (الشعور بأن المرء مستسلم) given up : عندما تفشل آليات الدفاع والوسائل الفعالة حتى الآن في تحقيق التكيف (عدم الرضا).  وتتصف مشاعر عدم الرضا بشعور الشخص المعني بأنه لم يعد قادراً على تحقيق الإشباع. ويكون الشخص في هذا الطور في وضع يمكنه داخلياً من التخلص من المصادر التي تسبب عدم الرضا أو التخلص من الأهداف غير القابلة للتحقيق.

·   أما طور الاستسلام giving up فيتصف بتحول فقدان الإرضاء إلى واقع نفسي. ويستمر تحمل هذا الواقع النفسي لفترة طويلة بسبب عدم إدراك الشخص لوجود أي مصدر من الدعم يمكن أن يصل إليه. وفي هذا الطور يكون الشخص قد تمثل الخسارة. أي تصبح الخسارة بالنسبة له واقعاً داخلياً، أو حقيقة داخلية. أما ما هو الانفعال الذي سيسيطر في هذا الطور هل هو  قلة الحيلة أم  اليأس، فيرجع ذلك إلى نمط العزو Attribution style  الذي يعزو فيه الشخص سبب حالته.

  فمن يشعر بقلة الحيلة يجعل من الآخرين مسؤولين عن حالته ويعتقد أنه في مقدورهم تقديم المساعدة له. ومن يشعر أنه يائس يعزو وضعه إلى عدم عجزه أو قصوره الذاتي. ولكنه لا يرى أية فرصة في تخليص نفسه من ذلك، كما ولا يري وجود إمكانية للاعتماد على دعم الآخرين.

فما المقصود بكل من مركبي قلة الحيلة واليأس:

1)  قلة الحيلة Helplessness : فقدان استقلالية الأنا مترافق بشعور بالحاجة نتيجة لفقدان الإشباع. ويتم السعي إلى تعويض هذه الحاجة من خلال موضوع موجود خارج الذات. وينطبق على ذلك المثل العربي "الغريق يتعلق بقشة، أو بحبال الهوا".

2)  اليأس Hopelessness : فقدان استقلالية الأنا مع  شعور بالارتباك المنبعث من إدراك عجز الذات في تحقيق الرضا والإشباع المرغوبين. (Engel & Schmale, 1978) .

 

والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف تتم إثارة قلية الحيلة واليأس؟

للإجابة عن هذا السؤال يرى كل من إنجل وشميل من وجهة نظر التحليل النفسي  أن مشاعر قلة الحيلة واليأس يمكن أن تظهر  إما من خلال:

1)    الفقدان الواقعي للموضوع: كموت الزوج أو الطلاق أو فقدان العمل، أو الخسارة .

2)  الفقدان المتوقع للموضوع: كتوقع الانفصال أو التهديد به من قبل أحد الشريكين، توقع الانفصال بسبب السفر والهجرة، توقع الخسارة، توقع تغير الظروف الاجتماعية، التهديد بالتهجير…الخ.

3)    الفقدان المتخيل للموضوع: كتكرار تذكر خبرة الانفصال السابقة، تخيل وتذكر الخبرات السلبية السابقة…الخ.

واستناداً إلى ذلك يطرح السؤال  التالي نفسه: هل يمكن أن تقود كل خبرة خسارة أو فقدان لموضوع إلى مشاعر اليأس  والاستسلام أو إلى مشاعر قلة الحيلة واليأس وهل يمكن اعتبار أن هذه المشاعر تشبه الاكتئاب؟

الإجابة عن هذا السؤال بالنفي طبعاً. كما ويجب عدم الخلط بين هذا النوع من المشاعر وبين الاكتئاب، أو اعتبار أن هذا النوع من المشاعر نوع من الاكتئاب. غير أنه يمكن اعتبار أن هذا النوع من المشاعر شرطاً أولياً لاضطرابات نفسية وجسدية مختلفة. ويمكن كذلك اعتبار طور اليأس شكل من أطوار الانتقال بين الصحة والمرض. بمعنى آخر لا يوجد ارتباط سببي مباشر بين اليأس وبين حدوث المرض فيما بعد. ويبدو أنه لا بد من أن تتوفر عوامل أخرى إضافية كي تسبب المرض. ومن هذه العوامل الإضافية وجود استعداد  بيولوجي نوعي مسبق في الفرد أو وجود تأثيرات مرضية في محيط الفرد.  وتتفاعل هذه العوامل والتأثيرات المرضية مع هذه الحالة النفسية أو تستفيد من هذه الحالة النفسية قبل أن يحدث المرض والاضطراب. بمعنى آخر فإن مشاعر اليأس تشكل التربة الخصبة التي تنمو على أساسها العوامل المرضية الموجودة مسبقاً، فيحدث نوع من التسهيل لحدث كامن.

وقد تم برهان وجود أعراض قلة الحيلة واليأس عند أشخاص يعانون من أمراض مختلفة منها على سبيل المثال: الأمراض المعدية، أمراض الاستقلابات (كالسكري)، وأمراض المناعة الذاتية (تصلب الشرايين المركب، والتنشؤ الورميNeoplasy  "السرطان" ، والأعراض الدماغية العضوية الحادة (السكتة الدماغية) واضطرابات فصامية مختلفة و الاكتئابات والرهابات وردود فعل التحويل.

وقد أظهرت تجارب كل من إنجل وشميل أن 80% من مرضى المستشفيات الذين تم استجوابهم قد ذكروا أنه قد سبق مرضهم خسارة فعلية أو رمزية مهددة، وأنهم قد استجابوا على ذلك بشعور باليأس والعجز. وقد استطاع كل من شميل وإكر (Schmale & Iker, 1971) من التنبؤ عند خمسين مريضة بأمراض نسائية من أصل ثمان وستين  بالإصابة بسرطان الرحم أم لا.  فالمريضات اللواتي أصبن بسرطان الرحم فيما بعد ظهرت لديهن قبل الإصابة بنصف سنة دلائل على شعور بقلة الحيلة واليأس، الذي تمثل في انخفاض مشاعر القيمة الذاتية والميل للكمال Perfectionism .

وقد توقفت دراسات إنجل وشميل منذ سبعينيات القرن العشرين، غير أن نظريتهما انعكست على ما يسمى بدراسة أحداث الحياة بصورة كبيرة.

2-1 نظرية قلة الحيلة واليأس المكتسبين في السلوكية المعرفية

قام كل من أوفرمير Overmier وسيلغمان Seligman بتطوير نظرية قلة الحيلة واليأس المكتسبين مستندين في ذلك على تجارب على الحيوان في البداية، وبعد ذلك من خلال تجارب مخبرية على الإنسان. وقد قادت هذه التجارب إلى عدة تعديلات في هذا التصور.

وتعد هذه النظرية من النظريات التي انعكست على دراسة الاكتئابات وخصوصاً الاكتئابات الرجعية بصورة مثمرة.

 

وقبل التعرض لجوهر النظرية سنعرض فيما يلي من الحديث للأساس التجريبي الذي قامت عليه النظرية في البداية.

فقد تم تعريض مجموعة من الكلاب لموقف ما مترافق مع ظروف صادمة ومزعجة (صدمة كهربائية). ولم تترك الحرية للكلاب للسيطرة على هذه الصدمة أو ضبطها. أي أن كل تصرف من الكلاب ضمن هذا الموقف كان يقابل بصدمة كهربائية بغض النظر عن طبيعة هذا التصرف، ولم يكن بإمكان الكلاب تجنب هذه الصدمة مهما فعلت ولم تكن الكلاب قادرة على توقع حدوث الصدمة أم لا.  وكانت النتيجة أنه عندما تمت مواجهة الكلاب بموقف آخر شبيه لم تبد الكلاب أية رغبة في التصرف.

وفي موقف آخر كان بإمكان الكلاب القيام بتصرف ما وحيد من أجل تجنب الصدمة، فكانت النتيجة أن الكلاب لم تقم بإبداء أية ردة فعل ناجحة. وعلى ما يبدو فإن الكلاب قد عانت هنا من صعوبة في التعلم. وعلى ما يبدو فإن الخبرة السابقة للكلاب والمتمثلة في عدم قدرتها على ضبط الموقف والسيطرة عليه (أي تجنب الصدمة من خلال سلوكها) قد شوهت إدراك الكلاب بأنها قادرة على الضبط الذاتي ، أي أنه يمكنها من خلال تصرفها تجنب الصدمة.

وقد قادت الخبرة المتكررة المتمثلة في عدم القدرة على التوقع أو فقدان السيطرة على الموقف عند الكلاب إلى حدوث اضطرابات انفعالية معينة (تشتت انفعالي)، حيث تذكرنا هذه الأعراض بأعراض العصاب التجريبي في تجارب العالم الروسي بافلوف  والمتمثل في انتصاب شعر الجسم عند الحيوان وتوسع الحدقات وتكوير الجسد) التي كان الحيوان يبديها عند مواجهته بمهمة غير قابلة للحل.

ومن أجل الإجابة عن السؤال المتمثل في هل يرتبط ظهور قلة الحيلة المكتسبة بالخبرة الصادمة بحد ذاتها أم يرتبط بالعجز المفروض على الأشخاص؟ ، أي بشعور الأشخاص بأنهم غير قادرين على ضبط الأحداث والسيطرة عليها؟ أجرى سيلغمان تجارب عدة أثبت من خلالها أن الخبرة الصادمة بحد ذاتها ليست مسؤولة عن حالة قلة الحيلة واليأس وإنما شعور الشخص بعدم قدرته على التحكم والسيطرة على الموقف هي المسؤولة عن تلك الحالة من المشاعر.

ففي واحدة من التجارب الكثيرة تم اختيار ثلاث مجموعات من الأشخاص على النحو التالي:

-    المجموعة الأولى: تم بشكل مسبق إخبار هذه المجموعة بما سيحصل لهم (بالعاقبة أو النتيجة). وتم إخبار أفرادها بأنهم يستطيعون التحكم بالنتيجة من خلال قيامهم بحركة ما. مثال: يقوم المجرب بإسماع هذه المجموعة أصواتاً منفرة ومزعجة ومرتفعة مع إخبارهم مسبقاً أنهم يستطيعون التحكم بالصوت من خلال إدارة مفتاح ما.

-    المجموعة الثانية: تم إخبارها أيضاً بالنتيجة بشكل مسبق. غير أنهم جعلوا عاجزين عن التحكم بالنتيجة، وذلك من خلال إخبارهم بأنهم مهما فعلوا فلن تتعدل النتيجة عدم قدرتهم على تعديل النتيجة مهما حاولوا. مثال: لم يكن بإمكان هذه المجموعة التحكم بحجم الصوت على الإطلاق.

-    المجموعة الثالثة: لا يتم إخبارها بأي شيء وتحصل على العواقب نفسها التي تحصل عليها المجموعة الأولى والثانية دون أية إمكانية لها لتعديل هذه العاقبة. مثال: يتم تقديم الصوت دون سابق إنذار لهم ودون أية تعليمات مسبقة أو ما شابه.

بعد ذلك تم اختبار المجموعات الثلاث بمهمات جديدة، أتيحت فيها إمكانية التحكم بالعواقب الناجمة عن الموقف لجميع المجموعات. فكانت النتيجة أن المجموعة الثانية التي تم جعلها عاجزة عن التحكم بالموقف استسلموا للموقف وتقبلوا الضوضاء على الرغم من توفر إمكانية التحكم بحجم الصوت بإشارة يد. ولم تستغل هذه المجموعة الفرصة لضبط الموقف والتحكم به. أما المجموعة الأولى والثالثة فقد استجابت للموقف بطريقة فاعلة، أي حاولت أن تعدل الصوت بالشكل المناسب.

بعد ذلك تم اختبار المجموعات الثلاثة في موقف جديد.

وتقود هذه النتائج إلى الاستنتاج بأن امتلاك السيطرة على الأحداث المقيتة والمنفرة، أي القدرة على التحكم بمجراها يعد أمراً جوهرياً بالنسبة للإنسان ولصحته النفسية والجسدية وتكيفه. وبالفعل فقد وجدت تجارب متنوعة أن العمال الذين تترك لهم حرية تحديد سرعة عملهم وتنظيمه بالطريقة التي يرونها مناسبة يشكون بصورة أقل من أعراض الإرهاق الذاتي المنشأ، ويظهرون إفرازاً أقل من مادة الكاتيكولامين من أولئك الذين يتحدد مجرى نشاطهم الخارجي من خلال عوامل خارجية كالإدارة المتسلطة أو المركزية في قراراتها أو الديكتاتورية  أو التحكم بالعمل من خلال الآلة.

واستناداً إلى الفرضية القائلة: إن الأشخاص يستمدون معلوماتهم حول إمكانية حدوث أمر ما أو يستخلصونها من خلال النتائج التي تلحق بردود أفعالهم تجاه موقف ما وأن إمكانية حدوث أمر ما تبدو لديهم على شكل توقع معرفي (استعرافي) صاغ سيلغمان نظريته التالية حول قلة الحيلة المكتسبة Learned helplessness:

عندما يتوقع الإنسان حدوث نتيجة ما ستحدث بغض النظر عما يقوم به الإنسان من تصرفات خاصة متعمدة لتغيير هذه النتيجة، فإن ذلك يؤدي إلى النتائج التالية:

1)    انخفاض دافعية الفرد نحو التحكم بهذا الموقف والسيطرة عليه وضبطه،

2)  ويؤثر على قدرة الإنسان على التعلم بأنه قادر من خلال تصرفاته على التحكم بالعواقب مهما كان نوعها، سواء كانت سارة أم غير سارة،

3)  ويسبب القلق الاستباقي (توقع القلق)، طالما أن الفرد يشعر بأنه غير قادر على التحكم بالموقف، الأمر الذي يقود بعد ذلك للاكتئاب.

فما المقصود بذلك بالتحديد؟

1-  عندما يدرك إنسان ما أنه سيكافأ أو سيعاقب بغض النظر عن سلوكه، فسوف تنخفض توقعاته ومن ثم فإن ما سيقوم به من نشاط سوف يعزز لديه هذه القناعة (بأنه سيعاقب أو سيكافأ). وتكون نتيجة ذلك أن أية مبادرة للتصرف المثمر والمستقل من قبل الشخص سيتم إضعافها وإحباطها، طالما أن العاقبة ستحدث بغض النظر عن سلوكه أو إمكاناته أو كفاءته.

2-    فإذا تعلم الفرد (إشراط) أن العاقبة ستحصل بغض النظر عن سلوكه، فإنه سيكون عاجزاً في أي موقف آخر عن التعرف على نقيض ذلك، أي على أن الموقف قابل للضبط والسيطرة، حتى عند توفر الدلائل الموضوعية على أن الحدث أو الموقف قابل للضبط فعلاً.

3-  فإذا كان الموقف صادماً بالفعل، أي غير قابل للضبط في النهاية، فإن الفرد سيدافع بداية عن نفسه. أما ردة الفعل التي تسيطر على الفرد في هذا الموقف فهي الخوف. فإذا استطاع الفرد التأثير على الظروف القائمة –كما يقدَّر هو – فسوف يختفي الشعور بالخوف. ولكن إذا لم يكن هذا هو الحال، فإن الفرد سوف ينزلق في حالة من قلة الحيلة. أما الانفعال المرافق لهذه الحالة فهو الاكتئاب.

ويميز سيلغمان بين ثلاثة أنواع من العجز:

1)    العجز الدافعي: أي تخفيض الاستعداد عند الشخص لردة الفعل.

2)    العجز الاستعرافي أو المعرفي: أي الكف المتعلم مسبقاً الذي يعيق فيما بعد رسوخ محتويات  شبيهة من الخبرات.

3)    العجز الانفعالي: أي انفعالات من الخوف والاكتئاب المصبوغة بفقدان الرغبة "التثاقل والتباطؤ" .

بالإضافة إلى وجود نوع من العدوانية الضعيفة وبعض الأعراض الفيزيولوجية كنقص هرمون النورادرينالين عند الأشخاص الذين يعانون من مثل هذه الحالة.

وتجلب هذه الأنواع الثلاثة من العجز خبرة عدم قابلية العواقب للضبط.

وقد قادت التجارب التي أجراها سيلغمان على الحيوان والإنسان إلى الاعتقاد بأن نموذجه ملائم لتفسير نشوء الاكتئابات الرجعية عند الإنسان. فقد وجدت تشابهات كبيرة بين أعراض الاكتئاب والأعراض المرافقة لقلة الحيلة التي تمت إثارتها تجريبياً. مع الإشارة إلى أن قلة الحيلة ليست هي نفسها الاكتئاب. (Hautzinger,1979) .

ومن التطبيقات المهمة لهذه النظرية بالنسبة للمسنين أنه قد اكتشف أن إعطاء المسنين المقيمين في دور المسنين لإمكانية الضبط الواسع لمحيطهم  يؤدي إلى تحسن حالتهم الجسدية والنفسية بشكل ملحوظ. وأن كبار السن الذين يوضعون في مؤسسات يشبه قدر الإمكان محيطها المحيط المنزلي القديم لكبار السن يقود إلى ارتفاع معدل الأعمار لدى هؤلاء مما لو لم يكن هناك تشابهاً. وعندما يتم منع الضبط والسيطرة على الظروف المحيطية ينخفض معل الأعمار بصورة ملحوظة.

ويمكن تمثيل مخطط قلة الحيلة المكتسبة تخطيطياً على النحو التالي.

وقد تبين فيما بعد أن هذا النموذج من التفسير السببي يحمل مجموعة من الثغرات التي يمكن تلخيصها في النقطتين التاليتين:

1)  لا يوجد أي دليل يشير إلى أن المجرب عليهم يقومون بتفسير عدم قابلية الموقف للضبط كل منهم على حدة بطريقة مختلفة.

2)    ليس هناك أية إشارة إلى الظروف التي يتم ضمنها تقييم قلة الحيلة واستمرارها أو اختفاؤها مع الوقت.

3)  ونتيجة لهذه الثغرات قام كل من إبرامسون وسيلغمان وتيسديل (Abramson, Seligman & Teasdeale, 1987) بتعديل التصور السابق وأعادوا صياغة النظرية من خلال إدخال عمليات العزو Attribution Processes  وبذلك أصبحت النظرية أكثر قرباً من خصائص النفس البشرية. ويقدم الشكل (2) وصفاً تخطيطياً للنموذج المعدل:

ويتم التفريق هنا بين بعدين من العزو، عزو داخلي (خاص) Internal وعزو خارجي (عام) External. وكل بعد من هذين البعدين يتضمن بعدين فرعيين ثابت وغير ثابت. أي يمكن للعزو أن يكون داخلياً ثابتاً أو داخلياً غير ثابت وخارجياً ثابتاً وخارجياً غير ثابت. أما قلة الحيلة ونوعيتها ودرجتها فتتعلق بدرجة كل بعد من الأبعاد.

فالعجز يمكن أن يكون عجزاً داخلياً أو عجزاً خارجياً. والعجز الداخلي إما أن يكون ثابتاً أم غير ثابت. والعجز الخارجي إما أن يكون ثابتاً أم غير ثابت.

·    فالعجز الداخلي  عبارة عن اعتقاد الشخص أنه لا يستطيع أن يتحكم بالموقف (يسيطر عليه control)، واعتقاده في الوقت نفسه أن الآخرين قادرون على ذلك، فإنه يعاني من عجزاً داخلياً. وحين يعتبر الشخص نفسه مسؤولاً عن هذا الإحساس تتشكل قلة الحيلة الشخصية.

·    أما العجز الخارجي فهو عبارة عن اعتقاد الشخص أنه لا هو ولا الآخرين يمتلكون أية إمكانية للسيطرة على الموقف.

ومن ثم فإن قلة الحيلة الشخصية، أي التي ترجع إلى العزو الداخلي إلى خفض الإحساس بقيمة الذات وهذا يضاف كعجز لاحق للاضطرابات التي أشرنا إليها سابقاً.

مثال: إذا قام شخص ما بتحديد الأسباب الكامنة خلف عدم قدرته على الضبط المستنتج بصورة أقرب للعمومية وواسع فإنه عزوه يكون عاماً. والتوقعات الناجمة عن مثل هذا النوع من العزو تقود إلى تعميم قلة الحيلة. وهذا يعني أن قلة الحيلة تظهر في عدد كبير من المواقف.الأخرى. أما إذا قام شخص ما بعزو خاص فإن قلة حيلته تقتصر على الموقف المحدد فقط. وإذا افترض الشخص أن الظروف التي تجعل من الموقف غير قابل للضبط هي ظروف دائمة فسوف يبني توقعات أقوى فيما يتعلق بهذا الأمر، وينتج عن ذلك قلة حيلة شبه مزمنة. أما إذا اعتبر أن فاعلية حجم التأثير محدودة الزمن (مؤقتة) فإن العاقبة تكون أقل إلحاحاً وبالتالي فإن قلة الحيلة تكون قصيرة الزمن (Petermann, 1983). ولتوضيح ذلك نورد المثال التالي:

لنفترض أن طالباً قد توصل في اليوم الأول من امتحانات الفصل الدراسي الأول إلى استنتاج مفاده أنه لن يحصل على الحد الأدنى من الدرجات التي تؤهله للنجاح في هذا الامتحان. ومن الطبيعي هنا أن الطالب سوف يقوم بوضع تفسيرات معينة لأسباب رسوبه في هذه المادة. وحسب تفسيره للأسباب يمكن أن تتطور لديه قلة حيلة. أما شكل ومدة ودرجة تعميم قلة الحيلة هذه فيتوقف حسب طبيعة هذا التفسير الذي قام به. ويقدم الجدول (1) توضيحاً لذلك:

نمـــــــــــط العــــــــــــــــــــــزو

داخلي

خارجي

البعد

ثابت

غير ثابت

ثابت

غير ثابت

عام

يرجع سبب رسوبي في الامتحان إلى  نقص في الذكاء

تعب: كنت تعباً في ذلك اليوم.

يضع مدرسو هذه الكلية أسئلة صعبة

كانت الامتحانات شديدة الصعوبة على الجميع

خاص

يرجع سبب رسوبي في الامتحان إلى نقص في قدراتي في مادة الإحصاء

لقد سأمت من تكرار أسئلة الإحصاء وحل المسائل  الإحصائية

يختار المدرس أسئلة صعبة في مادة الإحصاء

كانت قاعة الامتحان غير مكيفة والمراقبون مزعجون يسببون التوتر

ونلاحظ من الجدول السابق إلى أن نمط العزو الذي يمكن أن يقود إلى أسلوب غير مناسب من التوقعات وإلى قلة الحيلة المكتسبة هو أسلوب العزو الداخلي والعام والثابت. وهذا الأسلوب يعد ضاراً، حيث يمكن للتوقعات غير الملائمة وقلة الحيلة مع بعضهما أن تقويان نسبة رسوب الطالب في الامتحانات الباقية.

ويمكن من خلال هذا النموذج تفسير كثير من أشكال الاضطرابات والمشكلات النفسية التي تلاحظ  عند شرائح مختلفة من الفئات، كالعاطلين عن العمل أو الذين لا يحصلون على مقاعد دراسية أو الذين لا يتحسن وضعهم الاقتصادي مهما فعلوا أو الذين يتوقعون حدوث تغيرات ما في وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي. فالعزو العام والثابت والداخلي في سياق البطالة عن العمل أو الخيبة نتيجة عدم الحصول على مقعد دراسي أو عدم تحسن الوضع المعيشي أو عدم حدوث التغيرات المتوقعة تثير  اللامبالاة والسلبية واليأس، الأمر الذي يوق إلى الحلقة المفرغة التي تقوي فيها كل حلقة حدوث الحلقة الأخرى وهكذا.

3-1 خاتمة

على الرغم من أن نظرية قلة الحيلة المكتسبة أو اليأس المتعلم قد اشتهرت في مجال العلاج النفسي وعلم النفس الطبي وعلم النفس المرضي، إلا أنها أيضاً تقدم لنا تفسيرات مختلفة عما هو مألوف في علم النفس الاجتماعي لكثير من الظواهر الاجتماعية ولأشكال السلوك اللاتوافقي عند الكثير من الأفراد والجماعات. إذ يمكن من خلال هذه النظرية تفسير الكثير من أشكال السلوك اللاتوافقي اللامبالي لدى طلاب الجامعات وللتحصيل المنخفض الملاحظ بكثرة وذلك من خلال توقعهم السيئ للنتائج المترتبة على تخرجهم وعدم إيجادهم فرصة عمل. كما ويمكن لهذه النظرية أن تفسر لنا سبب تراجع إنتاجية العمل في الوطن العربي عموماً، وتراجع روح الجماعة وتحمل المسؤولية، أو كذلك يمكن أن تفسر لنا سبب فشل الكثير من البرامج الحكومية التي تمس المواطنين مباشرة في كثير من الدول العربية، وحتى فشل الحكام في الوصول إلى الجماهير وفقدان المصداقية. بالإضافة إلى أن هذه النظرية تفسر لنا الكثير من أشكال السلوك الاجتماعي المدمر للبيئة ولانتشار الاضطرابات والأمراض النفسية والجسدية.

 

للخلف